مؤسسة مياه عين الفيجة
المؤسسة العامة لمياه الشرب والصرف الصحي في دمشق وريفها
مؤسسة مياه عين الفيجة، هي مؤسسة حكومية مسؤولة عن تأمين مياه الشرب لسكان محافظة دمشق وريفها، تقع على جانب شارع النصر في قلب العاصمة السورية. وقد أسسها لطفي الحفار، نائب رئيس غرفة تجارة دمشق سنة 1922، بالتعاون مع رئيس الغرفة عارف الحلبوني ورئيس بلدية دمشق يحيى الصواف وسامي باشا مردم بك وفارس الخوري وغيرهم من الأعيان.
خلفية تاريخية
كان سكان مدينة دمشق، قبل ثلاثينيات القرن الماضي، يشربون مياه نهر بردى وفروعه الملوثة، ويشكون من أضرارها الصحية، حيث كانت دمشق محرومة من المياه الصالحة للشرب، ما تسبب بالأمراض للأهالي، كالتيفوئيد والزحار والكوليرا، وفق ما ذكره الكاتب السوري وصفي زكريا في كتابه الريف السوري (دمشق 1957) وكان الرومان أول من جر مياه عين الفيجة، بعد اكتشافهم لها، بدليل وجود أقبية أثرية حول النبع وأنفاق شُقت في جبال وادي بردى، وجرت محاولات عدة لمد دمشق بالمياه النظيفة بشكل منتظم وبإشراف مؤسسي.
مرحلة التأسيس
قرر تجار الشّام تأسيس شركة مساهمة وطنية، كانت الأولى من نوعها بين القطاع العام والخاص، هدفها “نقل مياه نبع عين الفيجة وتوزيعها على أهالي مدينة دمشق” مقابل مبلغ من المال يدفعونه سنوياً عن كميات المياه التي يطلبون الاشتراك بها، شرط أن تكون مرتبطة بالملك، لا يجوز التنازل عنها أو بيعها إلا مع بيع العقار، وتُسَّجل ملكية المياه في الصحيفة العقارية لجميع دور دمشق. شُكلت لجنة للحصول على الامتياز القانوني باسم “مدينة دمشق” ضمّت الأسماء التالية:
- لطفي الحفار، صاحب المشروع ونائب رئيس غرفة تجارة دمشق
- عارف الحلبوني، رئيس غرفة تجارة دمشق
- مسلّم السيوفي، عضو مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق
- فارس الخوري، المشاور القانوني لمشروع الفيجة
- سامي باشا مردم بك، نائب رئيس دولة الاتحاد السوري
- أنطون سيوفي، ممثل عن مصرف صباغ وسيوفي
- عطا العظمة، ممثل عن بلدية العاصمة
- يحيى الصواف، رئيس بلدية دمشق
طلبت اللجنة استشارة فنية من حكومة الرئيس صبحي بركات، فأرسل المهندس المائي رشدي سلحب إلى غرفة التجارة الذي قدّم تقريراً مفصلاً للأعضاء وقدّر أن تكاليف المشروع ستصل إلى 150 ألف ليرة عثمانية ذهبية. قرر لطفي الحفار فتح الاكتتاب العام على هذا الأساس، بعد الحصول على كافة الموافقات القانونية، ليباع المتر الواحد من الماء بالتقسيط لمن يرغب بقيمة 30 ليرة ذهبية.
كان ذلك في شباط عام 1924، بدأت الأعمال الإنشائية، ولكنها توقفت بسبب اندلاع الثورة السورية الكبرى. تشكلت لجنة جديدة لإعادة تفعيل المشروع بعد انقطاع دام ثلاث سنوات ضمت عدداً من الوجهاء: لويس قشيشو – إكليل مؤيد العظم – وموسى طوطح (مجلس الطائفة اليهودية) – محمد سعيد اليوسف، نجل أمير الحج الشامي عبد الرحمن باشا اليوسف. وقد أنشأوا جمعية ملّاكي المياه، ذهبت رئاستها لعبد الحميد دياب، التاجر والصناعي الذي ارتبط اسمه لاحقاً بالشركة الخماسية، وطلب الحفار من المؤسسين تأجيل أقساط كل المستثمرين وأصحاب الأسهم الذين تضرروا من تدمير أملاكهم ومتاجرهم خلال العدوان الفرنسي على دمشق. رفع عدد العمال لحفر أربعين نفقاً إضافياً في الجبال بين دمشق ونبع الفيجة، ووضِع خزّان جديد على أعلى قمة من جبل قاسيون، كان أكبر بأربع مرات من خزّان الصالحية الأساسي، لتلبية حاجات سكان دمشق الجدد.
دُشِّن المشروع في 3 آب 1932 بحضور رئيس الجمهورية محمد علي العابد، الذي خطب وبارك جهود الأهالي والتجار، ثم تلاه فارس الخوري على المنبر وخطب قائلاً:
أجل إن أمّتنا فقيرة بالمال، ولكنها غنية بالإيمان الوطني، ومتى كان للأمة إيمانها فإنها تكون قادرة على صنع المعجزات.
كانت هذه المرحلة بحق مرحلة التأسيس في تاريخ توزيع مياه دمشق بشكل فني حديث وقد أحيطت بعناية ورقابة فائقتين حتى أتت غاية في الإتقان بالرغم من أن تقنية شق الأقنية وأعمال البيتون المسلح لم تكن متقدمة في ذلك الحين كما هي عليه الآن.
وقد ظلّت “لجنة عين الفيجة” كما كانت تسمى تعمل كإدارة مستقلة تشرف عليها الدولة من خلال الأنظمة التي كانت مطبقة، ومجلس الإدارة حتى عام 1958، عندما قامت الوحدة مع مصر وأحدثت وزارة الشؤون البلدية والقروية التي أنيط بها الإشراف على مرافق مياه الشرب، وبالتالي صدر قرار رئيس الجمهورية العربية المتحدة رقم (192) تاريخ 7/4/1958 والذي اعتبرت بموجبه لجنة عين الفيجة مؤسسة عامة.
بناء المؤسسة
يطلق على المؤسسة العامة لمياه الشرب والصرف الصحي في دمشق وريفها، التي تأخذ من هذا البناء الجميل مقراً لها، إسم “مؤسسة عين الفيجة” لأنه كان المصدر الوحيد لمياه المدينة. تمت إشادة هذا البناء في عام 1937 خلال فترة الانتداب الفرنسي، وقد بني على الطراز الدمشقي القديم.
عُهد إلى المهندس عبد الرزاق ملص وضع مخططات بناء هذه المؤسسة وتنفيذه، وأنيطت أعمال الزخرفة العربية داخلاً وخارجاً إلى الفنان محمد علي الخياط، وكان هذا أول عمل يضع فيه مشروعاً جديداً مستمداً من الفن العربي القديم، ويشرف على تنفيذه. من أجل أن نعرف القيمة الفنية لهذا البناء يحسن بنا أن نستعرض النقاط الآتية:
العناصر الزخرفية
يصنف إطار باب القاعة الرئيسية في الطبقة العليا من الفن الكلاسيكي أو البيزنطي، وهو مقتبس من باب قصر الحير الغربي المعاد إنشاؤه في المتحف الوطني بدمشق. درابزين الطبقة العليا يعتمد على الفن العباسي والفاطمي، ثم زيد عليه مستحدثات الفن المملوكي بالتطعيم والترصيع. التعابير النجمية المستعملة في السقوف والأبواب مقتبسة من الفن العربي في العهد الأيوبي. الخيوط الزخرفية، الألواح الرخامية المجزعة في الواجهة الخارجية مستمدة من فن العهد المملوكي.
أما البوابة الكبرى الخارجية، فمجموعة النوافذ الثلاث لها أمثالها في الفن الأندلسي والمغربي. الرخام المجزع وصناعة الفسقيات مستمدة من الفن العربي منذ العهد الأيوبي والمملوكي حتى أواخر العهد العثماني، وهو فن عربي أصيل ازدهر خاصة في بلاد الشام.
توزيع العناصر الزخرفية
إذا وقفنا أمام البناء على بعد معقول، نشعر لأول وهلة، أننا أمام بناء مهيب، له تقاسيم وملامح البناء العربي الأصيل، الجبهة والقلب والجناحان كل ذلك متكافئ، وهو مختوم في الأعلى بطنف متوج بزخارف مسننة رشيقة. يعتمد توزيع هذه العناصر الزخرفية على التماثل والتناظر والتساوي والتعادل. الألوان متناسبة ومتسقة وتميل إلى الرشاقة والزهو أحياناً.
إذا دخل المرء إلى الردهة ثم البهو في الطبقة الأرضية ورفع رأسه إلى الأعلى، ناله شعور بالدهشة والإعجاب، سقف وراءه سقف ودرابزونات مشبكة تحصر المنظر إلى سقف عال جداً يستمد النور من نوافذ جانبية، ترسل الضوء متكسرا على الجوانب المزخرفة، متدرجاً إلى الأسفل. تميل ألوان خشب الجوز إلى التجانس والوقار.
عندما يصعد المرء إلى الطبقة العليا، يقترب من العناصر الزخرفية، فيزيد إعجابا بها، يطوف الدرابزونات الخشبية، فيعجب من دقة صنعها وجمال شكلها، وتلوح له السقوف القريبة وترويسات الأبواب، فيشعر أنها تتكافأ مع الساحات غير المزخرفة. فإذا اتجه جنوباً راعته واجهة القاعة الرئيسية (قاعة لجنة عين الفيجة) بغنى زخارفها ورشاقتها وجمالها.
ثم يقع بصره على الأرض، فيرى تحفة فنية تعتبر أية في فن الترخيم والتجزيع، وهي فسقية لطيفة، تحيط بها حصيرة من الرخام المجزع قوامها أشكال هندسية ونجوم وخيوط تتشابك فتؤلف لوحة ملونة رائعة.
أما القاعة الرئيسية فقد كسيت جدرانها بحلقة دمشقية (عجمية)، عليها تاريخ تجديد من سنة 1211هـ وركب فيها سقف خشبي قديم نقل إليها من دار السقا أميني في دمشق وهو يعود إلى أول القرن 12.
الأعمال الفنية
هي متنوعة تنوعاً كبيراً في هذا البناء نلخصها فيما يلي:
1 ـ نحت الحجر: يبدو ذلك في الواجهة الخارجية، ونميز منه خاصة نحت التعابير النباتية في الأجزاء الزخرفية نحتاً بارزاً مندمج الأطراف حسب الأسلوب الفاطمي.
2 ـ تقوير وتخريق الزخارف الحجرية: يقص الحجر ويخرق لإحداث ثقوب نافذة، تبدو بسببها الزخارف واضحة. تعتمد هذه الصنعة في الأغلب على التعابير الهندسية، وتعود للعهد الأموي.
3 ـ تجزيع الرخام: وهو تقطيع الرخام الملون إلى أجزاء هندسية وتركيبها بدقة. بدأت هذه الصنعة منذ العهد الاتابكي في سورية، ونضجت في العهدين الأيوبي والمملوكي. نرى هذه الصنعة بلوحتين مثبتتين في الواجهة وفي الفسقية وحصيرتها وترخيم الأرض في البهو.
4 ـ يغلب في هذا البناء نحت الخشب حسب الأسلوب العباسي وحسب الأسلوب الفاطمي، وهذا واضح في واجهة الباب الثاني الدرابزونات وواجهة القاعة الرئيسية في الطبقة العليا.
5 ـ تخريط الخشب: خرط الخشب لصنع الدرابزين المشبك وتسليح النوافذ العليا في المنور الأعلى فوق البهو، وصنع أعمدة رفيعة ضمنت في بعض تفاريج الدرابزونات.
6 ـ تخريم الخشب: لإحداث الزخارف النافذة استعملت هذه الصنعة لتسليح زجاج النوافذ في الواجهة. هذه الصنعة معروفة في آثار العهدين الأيوبي والمملوكي. يعتمد في الأغلب على التعابير الهندسية.
7 ـ تشبيك الخشب وتعشيقه: هذه الصنعة استعملت في صنع السقوف والأبواب الداخلية. وهي معروفة منذ العهد الأيوبي في صنع المنبر والأضرحة الخشبية والأبواب. تعتمد هذه الصنعة على الموضوعات والتعابير الهندسية وخاصة الاطباق النجمية، والمضلعات المتعددة الرؤوس.
8 ـ التنزيل: وهو تنزيل العظم في الخشب لتجميله، ويكون أما بتنزيل خيوط أو فصوص هندسية في العناصر الزخرفية، عرفت هذه الصنعة جيداً في العهد المملوكي وخاصة في القرن الثامن الهجري ـ الرابع عشر الميلادي.
9 ـ الترصيع: وهنا يتمثل بتزيين عقد شبك الدرابزونات بأنصاف كرات عظيمة فسيفسائية.
10 ـ التدهين بالأصباغ الملونة والذهب: هذه الصنعة معروفة على الخشب منذ العهد الأموي. استمرت الصنعة، لكنها نضجت في العهدين الأيوبي والمملوكي ثم العهد العثماني. وقد برعت إيران بهذه الصنعة إلى درجة وسمت الحلقات الخشبية في الدور الشامية بسمتها، فسميت (عجمي). اتجهت هذه الصنعة أخيراً إلى تضمين الحلقات الخشبية والسقوف صوراً ومشاهد ثم أدخلت المرايا ضمن الزخارف.
11ـ الأعمال الفنية المعدنية: منتحلة من الزخارف في العهدين الأيوبي والمملوكي وخاصة فان طارقتي باب القاعة الرئيسية مقتبستان من ذلك العصر.
12 ـ الكتابات: منفذة بالخط الثلث والكوفي، وهي من أثر الخطاط بدوي، أما الكتابة الكوفية المزواة على الخشب فقد اقتبس طريقتها السيد بشير الخياط (نجل المرحوم محمد علي) من بعض الكتب الفنية.
13 ـ نقل عناصر زخرفية من أبنية قديمة وتركيبها في هذا البناء كسقف القاعة الرئيسية واللوحات الزخرفية في أعلى الجدران من القاعة الرئيسية.
في المدخل ردهة صغيرة تطالعنا فيها واجهة خشبية ذات بابين، وفي الأعلى لوحة من الخشب الباهت كتب فيها بالخط الكوفي الهندسي المزوى آية قرآنية:
(أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ۞ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ۞ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ)
[الواقعة 68-70].