أحداث

المؤتمر العربي الأول

باريس (18-23 حزيران 1913)

المؤتمر العربي الأول، هو مؤتمر سياسي عُقد في مقر الجمعية الجغرافية في العاصمة الفرنسية باريس من 18-23 حزيران 1913 برئاسة الشيخ عبد الحميد الزهراوي، أحد أعيان مدينة حمص وعضو مجلس المبعوثان، وضم عدد من السياسيين الشباب الذي لمع نجمعهم في العالم العربي في سنوات لاحقة من القرن العشرين، مثل رؤساء لبنان شارل دبّاس وأيوب ثابت، ورئيس الحكومة السورية جميل مردم بك ورئيس وزراء العراق توفيق سويدي. طالب أعضاء المؤتمر بتوسيع صلاحيات الأقضية العربية وتقوية التمثيل العربي في مفاصل الحكم العثماني، مع صون اللغة العربية في المدارس وجعلها لغة رسمية في الدولة العثمانية، إلى جانب اللغة التركية.

تباينت ردود العثمانيين حول مؤتمر باريس، بين من أدانه فوراً لأن المشاركين فيه استقوا بدولة أجنبية للضغط على حكومتهم، وبين من نادى باستيعابهم وتلبية مطالبهم، طالما أنها لم تأتِ على ذكر الاستقلال العربي. بعد مناقشات حادة، اتخذت السلطات العثمانية قراراً بتلبية معظم مطالب المؤتمر العربي الأول، ولكن التفاهم بينها وبين السياسيين العرب بدأ يتضعضع مع اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914 وانهار كلياً إثر الإعدامات التي قام بها جمال باشا في كل من بيروت ودمشق ما بين 21 آب 1915 – 6 أيار 1916. وقد شملت إعدامات جمال باشا عدداً من منظمي المؤتمر العربي، وفي مقدمتهم رئيسه عبد الحميد الزهراوي.

البداية

بدء الترتيب لعقد مؤتمر قومي في باريس من قبل مجموعة من الطلاب العرب المقيمين في فرنسا، ومنهم من كان قد شارك سراً في تأسيس الجمعية العربية الفتاة سنة 1911، مثل جميل مردم بك والطبيب أحمد قدري. تخوف هؤلاء الشباب من تزايد القمع في الدولة العثمانية، بعد وصول الباشوات الثلاثة (أنور وطلعت وجمال) إلى سدّة الحكم في إسطنبول، وتنحية السلطان عبد الحميد الثاني عن العرش والاستعاضة عنه بشقيقه محمد رشاد الخامس، الخاضع بشكل كامل لسيطرة جمعية الاتحاد والترقي.

بدأ عهد الاتحاديين بالكثير من الإصلاحات السياسية، مثل رفع الرقابة عن الصحف واستعادة العمل بالدستور العثماني المعطل منذ سبعينيات القرن التاسع عشر، ولكن هذه الأجواء الإيجابية تبدلت كلياً مع حلول العام 1913 بسبب نزعة الباشوات الثلاثة نحو دولة بوليسية، تقمح فيها الحريات القومية. وكان قادة الاتحاد والترقي قد أقصوا عدداً من النواب العرب عن مناصبهم في مجلس المبعوثان، وأخرجوهم منه في انتخابات سنة 1912 بسبب معارضتهم لسياسة التتريك ومطالبتهم بصون اللغة العربية وتوسيع المشاركة العربية داخل السلطتين التشريعية والتنفيذية.

عقد قادة جمعية الفتاة اجتماعاً سرياً في باريس للتباحث في التدابير الوقائية التي يجب اتخاذها للرد على تعسف الاتحاديين. قرروا عقد مؤتمرهم لمناقشة حقوق العرب في الدولة العثمانية والتشديد على ضرورة إصلاح منظومة الحكم في إسطنبول. أبدى بعضهم تخوفاً من انعقاد المؤتمر في فرنسا، وطلبوا أن يكون في مدينة عربية تجنباً لأي تدخلات أجنبية، ولكن قراراً نهائياً اتخذ لعقده في باريس، ضماناً للحيد ومنعاً لأي عرقلة من قبل جمعية الاتحاد والترقي.

وقد جاء في رسالة الدعوة:

نحن الجالية العربيّة في باريس قد أوقفتنا مناظرات الجرائد الأوروبيّة ومغامر الساسة في الأندية العموميّة على استقراء ما يجري من المخابرات الدوليّة بشأن البلاد العربيّة، وأخصها زهرة الوطن سوريا، ولم يبق بين جمهور الناطقين بالضاد من لا يعلم أن ذلك نتيجة سوء الإدارة المركزيّة، فحدا بنا الأمر إلى اجتماع ـ وعددنا ينيف على الثلاثمائة في هذه المدينة ـ فجرى البحث عن التدابير الواجب اتخاذها لوقاية الأرض …. من عادية الأجانب، وإنقاذها من صبغة السيطرة والاستبداد وإصلاح أمورنا الداخليّة… وتنفي مذلة الرق.

عبد الحميد الزهراوي، رئيس المؤتمر العربي الأول.
عبد الحميد الزهراوي، رئيس المؤتمر العربي الأول.

أعضاء المؤتمر

افتُتحت جلسات المؤتمر في قاعة الجمعية الجغرافية الفرنسية بشارع سان جيرمان في باريس صباح يوم 18 حزيران 1913، بحضور 25 شخصية عربية. انتخب الشيخ عبد الحميد الزهراوي رئيساً للمؤتمر، لكونه أكبر الأعضاء سناً وأكثرهم خبرة في السياسية. شارك في المؤتمر العربي مندوبين عن الجالية العربية في الولايات المتحدة الأمريكية ومندوب واحد عن عرب المكسيك، إضافة لثمانية مندوبين عن الجالية العربية في فرنسا.

الضيوف:

مقررات المؤتمر

استمرت جلسات المؤتمر لغاية 23 حزيران، وصدر عنه المطالب التالية:

1 – على الدولة العثمانية إجراء إصلاحات سريعة وحقيقية باعتبارها “واجبة وضرورية.”

2- على الدولة العثمانية أن تسمح للعرب بالمشاركة بالحكم وتضمن حقوقهم السياسية.

3- على الدولة العثمانية أن تسمح بتأسيس حكم ذاتي في الولايات العربية، يكون الولاء فيها للسلطان العثماني.

4- على الدولة العثمانية أن تعتمد اللغة العربية كلغة رسمية في الولايات العربية وكل مدارسها.

5 – على الدولة العثمانية اعتماد اللغة العربية في مجلس المبعوثان، إلى جانب اللغة التركية.

6- على الدولة العثمانية جعل الخدمة العسكرية محليّة في الولايات العربية، بحيث لا يخدم العرب إلّا في مدنهم وقراهم.

شملت مقررات المؤتمر مجموعة عناوين فرعية، مثل توسيع سلطة المجالس العمومية في ولاية بيروت ومساعدة الأرمن على نيل حقوقهم على أساس اللامركزية الإدارية. كتبت كل هذه المقررات على الورق وأرسلت رسمياً إلى السفارة العثمانية في باريس.

رد الدولة العثمانية

وفي إسطنبول، اختلف قادة الاتحاد الترقي في كيفية الرد على مؤتمر باريس، فبعضهم طالب بمعاقبة عبد الحميد الزهراوي وصحبه بتهمة الاستقواء بدول أجنبية، وقال آخرون إن على السلطات العثمانية احتواء الأمر وتلبية مطالب المؤتمرين العرب. وقد هاجم بعض السياسيين العرب الموالين للدولة العثمانية مؤتمر باريس وعدوا كل المشاركين به “دخلاء” لا يمثلون المكون العربي في الدولة العثمانية. شملت قائمة المعارضين للمؤتمر كل من ناظر الأوقاف الإسلامية محمد فوزي باشا العظم وأمير الحج الشامي عبد الرحمن باشا اليوسف، إضافة للمُفكر اللبناني الأمير شكيب أرسلان والشيخ أسعد الشقيري، مفتي الجيش العثماني الرابع في سورية. وكتبت جريدة طنين الموالية لجمعية الاتحاد والترقي: “إن هؤلاء المؤتمرين باسم العرب النجباء، أعدوا معدات الاحتلال وأخذوا يوزعون المنشورات السرية، ستكون لهم عاقبة أليمة جداً.”

وتبين أن أيوب ثابت وخليل زينيّة كانا يعملان لصالح جمعية الاتحاد والترقي بالسرّ، وأنهم حضروا المؤتمر بغاية التجسس على أعضائه ونقل أخبار مجرياته إلى السلطات العثمانية. تخوفاً من أي وشاية بحق أعضاء المؤتمر، توجه ثلاثة أعضاء من باريس إلى إسطنبول في نهاية شهر حزيران من العام 1913، وهم سليم سلام وأحمد طبارة وأحمد مختار بيهم، لمقابلة السلطان رشاد والتأكيد له أنهم يسعون فقط لإصلاح الدولة العثمانية، لا الانفصال عنها. بعد التشاور مع الباشوات الثلاثة، قال السلطان إنه يقبل مقررات مؤتمر باريس ووعد بالعمل على تلبيتها. وبالفعل، أصدر السلطان رشاد فرماناً باعتماد اللغة العربية في الولايات العربية، وتوسيع المشاركة العربية في دوائر صنع القرار. وفي 4 كانون الثاني 1914، صدر فرمان ثالث بتعيين عبد الحميد الزهراوي، رئيس مؤتمر باريس، عضواً في مجلس الأعيان في إسطنبول.

نهاية التفاهم

ولكن هذا التفاهم لم يدم طويلاً وبدأ بالانهيار مع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914. أصبح من يومها كل شخص محسوب على فرنسا مداناً بالعمالة لصالح الدول المعادية للسلطان العثماني، ثم جاءت إعدامات دمشق وبيروت ما بين 21 آب 1915-6 أيار 1916، التي قام بها جمال باشا وشمل بها بعض أعضاء مؤتمر باريس، مثل عبد الغني العريسي وعبد الكريم خليل وأحمد طبارة ومحمد المحمصاني وعبد الحميد الزهراوي، لتنهي التفاهم بين العرب والعثمانيين، تمهيداً لانطلاق الثورة العربية الكبرى سنة 1916.

دراسات حول المؤتمر العربي

صدرت عدة دراسات تاريخية وكتب مرجعية عن مؤتمر باريس، ومنها:

بمناسبة مرور 100 عام على انعقاد المؤتمر العربي أقام المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة ندوة عقدت في معهد العالم العربي في باريس سنة 2013.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !