أحداث

العدوان الفرنسي الثاني على مدينة دمشق

(29 أيار - 1 حزيران 1945)

العدوان الفرنسي الثاني على مدينة دمشق، هو عمل عسكري وقع في 29 أيار 1945 واستمر لغاية 1 حزيران 1945 وكان أحد المسببات المباشرة لإنهاء الانتداب الفرنسي على سورية في 17 نيسان 1946. جاء العدوان، وهو الثاني منذ سنة 1925، رداً على التقارب السوري البريطاني بعد قمة رئيس الجمهورية شكري القوتلي مع رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل في مصر في شباط 1945، واعتراضاً على دعوة سورية للمشاركة في مؤتمر تأسيس الأمم المتحدة في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية في شهر نيسان من العام نفسه. قصفت القوات الفرنسية مبنى البرلمان السوري في شارع العابد وقتلت كل عناصر حامية الدرك الموجودين على أبوابه.

كما حاولت اعتقال رئيس المجلس سعد الله الجابري ومعه وزير الخارجية جميل مردم بك، ودمرت قلعة دمشق وسوق ساروجا الأثري بعد لجوء أعضاء الحكومة السورية إليه هرباً من القصف المحيط بالسراي الكبير في ساحة المرجة. تدخلت بريطانيا لوقف العدوان في 1 حزيران 1945 عبر إنذار شديد اللهجة من تشرشل إلى الجنرال شارل ديغول، ودخلت مصفحاتها إلى العاصمة السورية للإشراف على وقف إطلاق النار، لتبدأ من بعدها عملية انسحاب القوات الفرنسي عن سورية، منهية مرحلة الانتداب الفرنسي المستمرة منذ سنة 1920.

اعتبار يوم التاسع والعشرين من أيار ويوماً وطنياً لتخليد ذكرى رجال الأمن الداخلي الذين استشهدوا على أبواب المجلس النيابي يومها وعد اليوم عيداً رسمياً لهم، لا علاقة له بعيد الشهداء الأصلي في 6 أيار من كل عام.

القمة السورية البريطانية سنة 1945.
القمة السورية البريطانية سنة 1945.

المسببات التاريخية

في السنة الأخيرة من الحرب العالمية الثانية شعرت فرنسا بأن حلفائها الإنكليز يعملون بالخفاء من الوطنيين السوريين لإخراجها من مناطق نفوذها التقليدية في منطقة الشرق الأوسط وكانت أولى تلك المؤشرات دعوة رئيس الجمهورية شكري القوتلي للاجتماع برئيس الوزراء ونستون تشرشل في القاهرة في شباط 1945، بحضور الملك فاروق والملك عبد العزيز آل سعود. بالتنسيق مع تشرشل، أعلن القوتلي الحرب على دول المحور، وردت بريطانيا الجميل – ومعها الولايات المتحدة الأمريكية – بدعوة سورية للمشاركة في مؤتمر تأسيس الأمم المتحدة في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية نهاية شهر نيسان من العام نفسه.

توجه رئيس الحكومة فارس الخوري إلى سان فرانسيسكو على رأس وفد رفيع دون أخذ موافقة الفرنسيين ورفع صوت سورية عالياً في المحافل الدولية ضد سياسات فرنسا في الشرق الأوسط. بدأت التحرشات الفرنسية بالحكومة السورية مع إطلالة شهر أيار ورغم أن الحكومة السورية أعلنت الثامن من أيار يوم احتفال بالنصر على النازية، إلا أن حدة التوتر في البلاد كانت في ارتفاع مستمر، وانطلقت المظاهرات الغاضبة في مختلف المدن السورية.

قاعة المجلس النيابي المدمرة.
قاعة المجلس النيابي المدمرة.

العدوان يوم 29 أيار 1949

أثناء غياب الخوري في الأمم المتحدة افتعلت فرنسا حادثة على أبواب البرلمان السوري، في الساعة السادسة من مساء 29 أيار 1945، يوم طلبت من حامية الدرك الموجودة على أبوابه تحية العلم الفرنسي المرفوع على سارية نادي الضباط المقابل له. رفض عناصر الدرك السوري الأمر، فأطلق عليهم الفرنسيين النار وقتلوهم على أبواب المجلس قبل أن يدخلوه بحثاً عن رئيسه سعد الله الجابري الذي كان قد غادر من الباب الخلفي قبل دقائق، لعدم اكتمال النصاب القانوني لعقد جلسة تشريعية في المجلس النيابي. وعندما لم يجدوه صادروا ما في مكتبه من أوراق وأختام قبل أن يحرقوا المبنى من الداخل ويقصفوه بالمدافع من منطقة المزة.

الرئيس سعد الله الجابري
الرئيس سعد الله الجابري

هروب الجابري إلى لبنان

كان الجابري قد عاد سريعاً إلى مقر إقامته المؤقت في فندق أوريانت بالاس في ساحة الحجاز، حيث تعثر على الفرنسيين دخوله بسبب تواجد عدد كبير من مراسلي الصحف العالمية، منها إذاعة BBC البريطانية. قصفوا محيط الفندق وخلفوا دماراً شديداً بالمتاجر والمكاتب المحيطة بساحة الحجاز، فتدخلت السفارة السوفيتي بدمشق لأجل وقف إطلاق نار للسماح لبطريرك الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية من مغادرة الفندق إلى لبنان. دعا البطريرك سعد الله الجابري للخروج معه وفي سيارته إلى الحدود اللبنانية، حيث استقل الأخير سيارة سورية خاصة أخذته إلى السراي الحكومي في بيروت. وضع رئيس الوزراء اللبناني عبد الحميد كرامي مكتبه تحت تصرف الجابري، قبل سفره إلى القاهرة لحضور جلسة طارئة لمجلس جامعة الدول العربية وشرع تفاصيل العدوان الذي تعرضت له سورية. وبعد علمها بهروب الجابري إلى مصر عبر الأراضي اللبنانية، أغلقت فرنسا حدود سورية البرية مع لبنان والأردن وفلسطين والعراق، وقطعت الاتصالات والكهرباء عن مدينة دمشق ابتداء من ليلة 29 أيار 1945.

قصف سوق ساروجا وقلعة دمشق

أما وزير الخارجية جميل مردم بك فكان في السراي الكبير مع بعض الوزراء، بعد تعثر عقد جلسة تشريعية في مجلس النواب. حاولت فرنسا اعتقاله وضربت طوقاً أمنياً حول مبنى السراي، ما أجبره إلى الهروب من ثغرة في الباب الخلفي، إلى زقاق رامي أولاً في جنح الظلام، ثم إلى سوق ساروجا الأثري حيث حلّ ضيفاً في منزل رئيس الحكومة السابق خالد العظم. استقبل العظم قرابة المائة شخص في بيته تلك الليلة، ما بين وزراء ونواب وموظفين عاديين مع عناصر من الشرطة والدرك كانوا موجودين في السراي، وعندما علمت فرنسا بأمرهم قصفت ساروجا بنفس الطريقة الوحشية التي كانت قد اعتدت فيها على البرلمان، كما قصفت قلعة دمشق حيث سجن دمشق المركزي.

المقاومة الشعبية

شُكلت مقاومة شعبية ضد العدوان الفرنسي، قادها نائب دمشق فخري البارودي الذي لبس لباس الدرك السوري وحمل السلاح مع رفاقه لحماية الأهالي وإنقاذ ما أمكن من مدينته. توجه إلى قلعة دمشق أولاً لإطلاق سراح المساجين، ومنها إلى المستشفى الإنكليزي في منطقة القصاع لإسعاف الجرحى والمصابين، بعد إصابته بشظية في رقبته. وللتغلب على الظلام الدامس الذي حل بالمدينة، طلب البارودي من متطوعي الكشاف السوري جمع الشموع من الكنائس وجلبها إلى المستشفى الإنكليزي، مع كل الأطباء المسيحيين لإجراء العمليات الإسعافية اللازمة.

الرئيس شكري القوتلي
الرئيس شكري القوتلي

لقاء القوتلي بالسفير البريطاني

كان رئيس الجمهوري شكري القوتلي طريح الفراش ليلتها في داره الكائن في منطقة بستان الرئيس، يعاني من نزيف حاد في المعدة نتيجة قرحة مزمنة. دخل عليه السفير البريطاني تيرانس شون ووجده محاطاً بأولاده وأمه وزوجته السيدة الأولى بهيرة الدالاتي. عرض على القوتلي خروج آمن من دمشق إلى الأردن لحين وقف العدوان الفرنسي فغضب القوتلي من الطرح وقال له:

ألمثلي يقال هذا؟ أنا جاهدت أربعين سنة لأجل استقلال سورية ورفعتها وتحريرها من الاحتلال الفرنسي. لم أغادر دمشق، لا أنا ولا أفراد أسرتي، ولن أغادرها وسأموت هنا مع هؤلاء الأبطال (في إشارة لشهداء حامية الدرك). قل للسيد تشرشل أن الملك فيصل رحمه الله يوم غادر هذه المدينة لم يكن له فيها إلا عرش… كرسي من أربعة أرجل صنعناه له نحنا السوريين. أما أنا فلي جذور في هذه المدينة تعود إلى أكثر من ستة قرون.

الرئيس جميل مردم بك
الرئيس جميل مردم بك

دخل عليهم جميل مردم بك فتفاجأ السفير البريطاني به وقال إن الفرنسيين قالوا له أنه قتل مع سعد الله الجابري. وعند مغادرة السفير منزل القوتلي بعد فشل مساعيه بإقناع القوتلي بالمغادرة، جلس الرئيس مع وزير خارجيته وسطروا برقيات نداء عاجلة إلى حكومات العراق والأردن والسعودية، أرسلوها باليد مع عملاء لهم عبروا الحدود البرية المغلقة بالسر مشياً على الأقدام. أصدر بعدها القوتلي أمراً إلى كل مواطن سوري يعمل مع سلطة الانتداب بضرورة ترك وظيفته فوراً والالتحاق بالمقاومة الشعبية، وإلا سيحاسب بتهمة العمالة مع الفرنسيين، كما دعا إلى اعتقال حاكم دمشق العسكري الكولونيل أليفيا روجيه، الذي أعطى أمر قصف المدينة، وطلب مثوله أمام القضاء السورية بصفته “مجرم حرب” تجاوب عدد من الضباط السوريين مع نداء رئيس الجمهورية وانشقوا عن جيش الشرق الفرنسي وحملوا السلاح مع المقاومة، كان في مقدمتهم أديب الشيشكلي في مدينة حماة. وبدأ سلطان باشا الأطرش في تأهيل رجاله على حمل السلاح في جبل الدروز لمساعدة دمشق في محنتها، ولكن إنذاراً شديد اللهجة صدر عن الرئيس ونستون تشرشل في 1 حزيران، موجه إلى حليفه الجنرال شارل ديغول، يدعوه فيه إلى وقف العدوان على دمشق والبدء بسحب قواته عن سورية. علّق ديغول في مذكراته أنه قبل الإنذار مجبراً بسبب حاجته الماسة إلى دعم البريطانيين وقال: “ظروف الحرب منعتنا من الاعتراض.”

وقد جاء في مذكرة جميل مردم بك إلى عواصم العالم:

أتشرف بأن أطلعكم على التطور الخطير الذي طرأ على الموقف بسبب الاستفزازات المتواصلة الصادرة عن الجنود التابعين للقيادة الفرنسية، إن الأعمال التي ارتكبها هؤلاء الجنود قد تجاوزت كثيراً درجة العنف التي عرفتها البلاد من قبل، فقد صبت المدفعية الفرنسية نيرانها في مدينتي حمص وحماة فقُتل وجرح الكثيرون، وسددت الرشاشات نيرانها دون انقطاع إلى عابري السبيل في دمشق وحلب، وأفضى استفزاز الأهالي في درعا إلى الاصطدام بالقوات الفرنسية وصبت الطائرات نيرانها على الأهالي، والدماء تسفك في جميع المدن السورية تقريباً، والحكومة السورية ترفع صوتها بأشد الاحتجاج على هذه المجازر التي يصاب بها الأهالي الذين لا ذنب لهم سوى تمسكهم بحرية بلادهم واستقلالها، مناشدةً ممثلي الدول الصديقة أن يشهدوا بالوقائع، وأن يتدخلوا لمصلحة قضية سوريا العادلة التي هي في الوقت ذاته قضية الشعوب الديمقراطية والمحبة للحرية.

بدأت فرنسا بسحب قواتها عن سورية بتسليم الحكومة السورية كل قواعدها العسكرية والمطارات والسجون، مع المرافق الحيوية كافة. وفي 1 آب 1945، أعلن القوتلي عن تأسيس الجيش السوري، قبل أشهر من إعلان جلاء آخر جندي فرنسي عن الأراضي السورية في 17 نيسان 1946.

شهداء 29 أيار من الدرك والشرطة

  1. وكيل الضابط محمد طيب شربك
  2. العريف برهان باش إمام
  3. العريف طارق أحمد مدحت
  4. الدركي شحادة إلياس الأمير
  5. الدركي خليل جاد الله
  6. الدركي إبراهيم فضة
  7. الدركي محمد حسن هيكل
  8. الدركي يحيى محمد اليافي
  9. الدركي زهير منير خزنة كاتبي
  10. الدركي ممدوح تيسير الطرابيشي
  11. الدركي محمد أحمد أومري
  12. الدركي محمد خليل البيطار
  13. الدركي سعد الدين الصفدي
  14. الدركي ياسين نسيب البقاعي
  15. الدركي زين محمد ضبعان
  16. الدركي عيد فلاح شحادة
  17. الدركي إبراهيم عبد السلام
  18. الدركي أحمد محمد القصار
  19. الدركي جورج أحمر
  20. الدركي محمد عادل المدني
  21. الدركي واصف إبراهيم هيتو
  22. الدركي عبد النبي برنية
  23. الدركي سليمان أبو سعد
  24. الدركي أحمد مصطفى سعيد
  25. المفوض سعيد القهوجي
  26. الشرطي مشهور المهايني
  27. الشرطي محمود الجبيلي

ويضاف إلى هؤلاء الشهيد الدكتور حكمت التسابحجي الذي أصيب وهو يحاول إسعاف المصابين من مبنى المجلس النيابي، والشهيد الدكتور مسلّم البارودي الذي قتل وهو يسعف الناس أمام فندق أوريانت بالاس في ساحة الحجاز، ووكيل الضابط الشهيد محمد طيب شربك الذي ظل يدافع عن البرلمان مع جنوده حتى نفذت الذخيرة، فأمر جنوده أن يقاتلوا بالمسدسات حتى نفذت آخر طلقة. وكذلك فعل الشهيد محمد سعيد القهوجي رئيس قوة الشرطة التي كانت تحمي البرلمان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !