الشهر: أغسطس 2021

  • محمد كرد علي

    محمد كرد علي
    محمد كرد علي

    محمد بن عبد الرزاق كرد عليّ (1876 – 2 نيسان 1953)، كانت ومؤرخ وصحفي وناشر سوري من دمشق، أسس مجلّة المقتبس الشهيرة في القاهرة قبل نقلها إلى دمشق وإصداؤها مع صحيفة يومية حملت نفس الاسم سنة 1909، هو الرئيس المؤسس لمجمع اللغة العربية بدمشق منذ سنة 1919 وحتى وفاته عام 1953. تولّي حقيبة المعارف في زمن الانتداب الفرنسي وكان مرشحاً لرئاسة الجامعة السورية عند تأسيسها سنة 1923، وله الكثير من الكتب والأبحاث التاريخية عن تاريخ دمشق، من أبرزها خطط الشّام الموسوعي الصادر في منتصف العشرينيات.

    البداية

    ولِد محمد كرد عليّ في دمشق وهو سليل أسرة كردية متواضعة يعود أصلها إلى السليمانية. وكان والده رجلاً بسيطاً، عمل خياطاً ثم تاجراً صغيراً وتمكن من شراء قطعة أرضٍ زراعية لأسرته في غوطة دمشق. دَرَس كرد عليّ في مدرسة الحبّال في حي القيمرية وفي مدرسة الآباء العازاريين في منطقة باب توما ثمّ في المدرسة الرشدية العسكرية.  تتلمذ علي يد شيوخ عصره من أمثال الشيخ سليم البُخاري والشّيخ طاهر الجزائري، وبدأ حياته المهنية كاتباً في ديوان الشؤون الأجنبية قبل تعينه رئيساً لتحرير جريدة الشّام الأسبوعية الصادرة عن مجلس ولاية سورية سنة 1897.

    محمد كرد علي في شبابه
    محمد كرد علي في شبابه

    جريدة المقتبس

    عمل في جريدة الشّام طيلة ثلاثة سنوات، وكان ينشر الأبحاث التاريخية والأدبية في مجلّة المقتطف المصرية. سافر إلى القاهرة سنة 1901 ولازم الشّيخ محمد عبده وحضر مجالسه، وعُيّن رئيساً لتحرير جريدة “الرائد” المصري. وفي مصر أنشأ محمد كرد عليّ مجلّة المقتبس الشهرية وأصبح رئيساً لتحرير جريدة “الظاهر” اليومية ومديراً لجريدة المؤيد حتى سنة 1908.

    عندما عاد إلى دمشق على إثر انقلاب جمعية الاتحاد والترقي على السلطان عبد الحميد الثاني بعدما وعد الاتحاديون بإعادة العمل بالصحافة الحرة في البلاد. استثمر كرد عليّ بهذا الوعد وأطلق مع شقيقه أحمد كرد عليّ جريدة المقتبس في 17 كانون الأول 1908. ولكن عمله الصحفي توقف بسبب المضايقات التي تعرض لها من قبل السلطات العثمانية. أوقفت المقتبس بقرار إداري من الدولة العثمانية وسافر صاحبها إلى باريس وعاش فيها ينقّب عن أمهات الكتب التاريخية والاجتماعية والأدبية، والتقى بعض ساستها ومفكريها. زار إيطاليا وسويسرا والمجر، وقد كتب عن هذه الرحلة 35 مقالة نُشرت لاحقاً في كتاب غرائب الغرب الصادر سنة 1901.

    تأسيس مجمع اللغة العربية

    عاد إلى دمشق عشية انسحاب القوات العثمانية سنة 1918 واستئنف إصدار المقتبس مع مبايعة الأمير فيصل بن الحسين حاكماً عربياً على سورية. وفي 12 شباط 1919، صدر مرسوم تعيينه رئيساً لديوان المعارف للنظر في أمور الترجمة والنشر في سورية، وكلّف بتأسيس دار للآثار والإشراف على المكتبات الدمشقية، ولا سيما المكتبة الظاهرية. نظراً لأعباء هذا المنصب الحساسة اقترح على الأمير فيصل فصل بعض صلاحيات ديوان المعارف وإلحاقها بمجمعٍ مخصص للغة العربية، هدفه العناية باللغة وحفظها وتطويرها. صدر مرسوم مجمع اللغة العربية وفي جلسته الأولى في المكتبة العادلية في منطقة باب البريد يوم 30 تموز 1919 انتخب محمد كرد عليّ أول رئيساً له.

    محمد كرد علي يتوسط أعضاء مجمع اللغة العربية سنة 1919.
    محمد كرد علي يتوسط أعضاء مجمع اللغة العربية سنة 1919.

    وفي سنة 1921 أصدر كرد عليّ مجلّة مجمع اللغة العربية وكتب افتتاحية عددها الأول. وصلت عدد مشاركاته في مجلة المجمع في الفترة ما بين 1920-1953 إلى 519 مقالاً علمياً، ليكون أكثر الكتّاب نشراً في المجلّة. كما ألقى أربعة وستين محاضرة في ردهة المجمع، تنوعت مواضيعها في مختلف الشؤون التاريخية:

    وفي سنة 1932 أُنشئ مجمع اللغة العربية في القاهرة واختير محمد كرد عليّ عضواً عاملاً فيه.

    محمد كرد علي
    محمد كرد علي

    وزيراً في زمن الانتداب الفرنسي

    وبعد انتهاء العهد الفيصلي وفرض الانتداب الفرنسي على سورية، سمّي محمد كرد علي وزيراً للمعارف في حكومة جميل الألشي الأولى يوم 6 أيلول 1920، والتي تم في عهدها تقسيم سورية إلى دويلات. وفي حكومة حقي العظم الأولى نهاية العام 1920، جدد له في وزارة المعارف ولكنّه استقال في 10 آذار 1922 لعدم قدرته على تحمل أعباء الوزارة والمجمع معاً. اختاره الشّيخ تاج الدين الحسني ليكون وزيراً للمعارف في حكومته الأولى سنة 1928، حيث أنشأ مجلس التعليم لمراقبة المناهج وسير العملية التعليمية في المدارس السورية. قرر هذا المجلس إلحاق الجامعة السورية بوزارة المعارف، لتفقد الاستقلالية التي كانت تتمتع بها منذ تأسيسها وتصبح تابعة للحكومة السورية من يومها. واتخذر قراراً يومها بإعلاق المقتبس بشكل نهائي، بعد أشهر من وفاة أخيه أحمد وعدم قدرته تحمل أعباء الإدارة الصحفية وحده.

    مدرساً في جامعة دمشق

    ترشّح محمد كرد عليّ لرئاسة الجامعة السورية عند تأسيسها سنة 1923 وكانت المنافسة بينه وبين عميد كلية الطب الدكتور رضا سعيد وعميد كلية الحقوق عبد القادر العظم.  وقع الاختيار على رضا سعيد ليكون أول رئيسٍ للجامعة وعُيّن كرد عليّ أستاذاً لمادة اللغة العربية في كلية الحقوق.

    مؤلفاته

    خلال مسيرته الطويلة وضع محمد كرد عليّ عدداً من الدراسات والأبحاث التاريخية والأدبية، كان أولها يتيمة الزمان في قبعة ليفمان” وهي رواية مترجمة صدرت في مصر سنة 1894. وقد تلاها:

    وفي سنة 2017 جمع الباحث محمد مطيع الحافظ بعض مقالات الأخوين محمد وأحمد كرد عليّ في كتاب حوادث دمشق اليومية من 17 كانون الأول 1908 وحتى 29 كانون الأول 1909.

    الوفاة والتكريم

    توفي محمد كرد علي عن عمر ناهز 77 عاماً في 2 نيسان 1953 وسمّي شارع في كل من دمشق وحلب باسمه كما أُطلق اسم “محمد كرد عليّ” على مدرسة حكومية في منقطة القدم بريف دمشق تكريماً له وتقديراً لما قدمه من خدمات أدبية وعلمية. وفي مئويته الأولى سنة 1976 أصدرت الدولة السورية طابعاً يحمل رسم محمد كرد عليّ.

    المناصب

    رئيساً لمجمع اللغة العربية (30 تموز 1919 – 2 نيسان 1953)
    وزيراً للمعارف (6 أيلول – 10 آذار 1922)
    وزيراً للمعارف (15 شباط 1928 – 11 حزيران 1932)
  • بين الحواصل

    Damas 020

    بين الحواصل، جادة ممتدة من سوق النحاسين إلى العمارة البرانية، تعود تسميتها لتمركز حواصل الخشب فيها. والحواصل هي مستودعات الخشب المنشور لاستعمالات البناء والنجارة المختلفة. كانت المنقطة قديماً ولغاية منتصف العهد العثماني تُعرف بمحلّة الأبّارين لوجود سوق الأبّارين في وسطها، والأبّارين هم من يصنعون الإبر والمسلات والسنانير.

  • بين الحكرين

    Damas 020

    بين الحكرين، محلّة تقع شرقي العمارة البرّانية، سمّيت بهذا لاسم لأن موضعها كان بين حكر السرايا في محلّة السادات وحكر النعنع خارج باب السلام. ظلّت تُعرف بهذا الاسم لغاية منتصف القرن العشرين وكانت مليئة بالبساتين ذات الأشجار المثمرة، ولكنها أزيلت مع توسع الإعمار في مدينة دمشق في خمسينيات القرن العشرين.

  • بين التربتين

    مقبرة الباب الصغير
    مقبرة الباب الصغير

    بين التربتين، جادة في الشاغور البراني، تخترق مقبرة الباب الصغير من الشمال إلى الجنوب، وتقع بين جادتي البدوي والسويقة. كان الامتداد الشرقي لها الواصل إلى مصلبة الشاغور يُدعى جادة الجرّاح، فعمم هذا الاسم على كامل الجادة. أمّا اسم “بين التربتين” فهو لأن الجادة تفصل مقبرة الباب الصغير إلى شطرين.

  • أديب الشيشكلي

    الرئيس أديب الشيشكلي

    أديب بن حسن الشيشكلي (1909 – 27 أيلول 1964)، ضابط سوري من حماة وقائد انقلابين في مطلع عهد الاستقلال: الأول في كانون الأول 1949 والثاني في تشرين الثاني 1951. بعد نجاح انقلابه الثاني، حكم سورية من خلال اللواء فوزي سلو، الذي قام بتنصيبه رئيساً للدولة، قبل أن يطلب إليه الاستقالة ويخلفه بالرئاسة من 11 تموز 1953 حتى وقوع الانقلاب العسكري الذي أطاح به في 25 شباط 1954. يُعد الشيشكلي أحد أبرز الآباء المؤسسين للجيش السوري، وقد خاض حرب فلسطين عام 1948، متطوعاً في جيش الإنقاذ، وشارك في انقلاب حسني الزعيم على الرئيس شكري القوتلي في 29 آذار 1949، ثم في انقلاب سامي الحناوي على حسني الزعيم في 14 آب 1949.

    شهد عهده الرئاسي تقارباً مع مصر عقب انقلاب الضباط الأحرار عام 1952، ومع السعودية بعد تولي الملك سعود العرش عند وفاة والده عام 1953. أسس لنهضة اقتصادية في سورية، ووضع قانون تأسيس مصرف سورية المركزي عام 1953، وأسس معرض دمشق الدولي عام 1954، إلا أنه خرج من الحكم قبل أن يرى كلا المشروعين النور. داخلياً، ألغى جميع الأحزاب العاملة في البلاد وحصر النشاط السياسي بحركة التحرير العربي التي أسسها عام 1952. انطلقت معارضة منظمة ضده من حمص، بقيادة الرئيس الأسبق هاشم الأتاسي، ومن جبل الدروز بقيادة سلطان الأطرش، ما أرغم الشيشكلي على قصف السويداء، قبل أن ينقلب ضده مجموعة من الضباط، ما أرغمه على الاستقالة في 25 شباط 1954.

    عاش سنوات في المنفى، وحاول العودة إلى الحكم بانقلاب عسكري ممول من العراق عام 1956، لكنه انسحب منه باكراً وحُكم عليه بالإعدام غيابياً في سورية. بعد عشر سنوات من مغادرته الحكم، اغتيل أديب الشيشكلي في البرازيل على يد المواطن الدرزي نواف غزالة عام 1964، انتقاماً لقصفه جبل الدروز عام 1953.

    البداية

    وُلد أديب الشيشكلي في حماة، وهو سليل عائلة كبيرة من الملاكين والآغوات. درس في المدرسة الزراعية بمدينة السلمية وفي كلية حمص الحربية، وعند تخرجه، التحق بجيش الشرق التابع لسلطة الانتداب الفرنسي في سورية. عُرِف بنزعته القومية وشدّة معارضته للفرنسيين، ما أثّر في ترفيعه وتسبّب في تعيينه في مناطق نائية في ريف الرقة أولاً، ثم في مدينة البوكمال.

    الشيشكلي ضابطاً في جيش الشرق.
    الشيشكلي ضابطاً في جيش الشرق.

    الانشقاق عن جيش الشرق

    ساند ثورة رشيد علي الكيلاني ضد البريطانيين في العراق عام 1941، وعند قصف دمشق من قبل الفرنسيين في 29 أيار 1945، انشقّ الشيشكلي عن جيش الشرق واحتلّ قلعة حماة بالتعاون مع شقيقه صلاح وصديقه أكرم الحوراني. كانت نيتهم الزحف نحو دمشق لتحريرها من الفرنسيين، لولا تدخل الجيش البريطاني لمنعهم. حكمت عليه فرنسا بالإعدام، وبقي متوارياً عن الأنظار مدة، قبل صدور عفو عنه وعن بقية الضباط المنشقين عند تأسيس الجيش السوري في 1 آب 1945. والجدير بالذكر أن الشيشكلي في هذه المرحلة من حياته كان شديد التأثر بفكر الحزب السوري القومي الاجتماعي ومؤسسه أنطون سعادة، وقد انضمّ إلى هذا الحزب وظلّ يعمل في صفوفه حتى وصوله إلى رئاسة الجمهورية عام 1953.

    جيش الإنقاذ (1947)

    شارك الشيشكلي في الاستعراض العسكري الذي أقيم بدمشق يوم عيد الجلاء الأول في 17 نيسان 1946، وفي 1 كانون الأول 1947 تطوع في جيش الإنقاذ للقتال في فلسطين. عُيّن قائداً لفوج اليرموك الثاني وخدم في شرقي الجليل الأعلى، حيث حققت قواته انتصارات ميدانية كبيرة أدت إلى منحه أرفع الأوسمة الحربية من قبل رئيس الجمهورية شكري القوتلي. كانت مرحلة حرب فلسطين حاسمة في مسيرة أديب الشيشكلي العسكرية، فبعد المشاركة الطوعية في جيش الإنقاذ، عُيّن ضابطاً في القوات النظامية التي دخلت فلسطين بعد ساعات من إعلان ديفيد بن غوريون قيام دولة إسرائيل يوم 14 أيار 1948. تعرّف يومها على قائد الجيش حسني الزعيم وتوطدت صداقة متينة بينهما، وجمعهما هدف مشترك بالتخلص من الطبقة السياسية الحاكمة، الممثلة بالرئيس القوتلي، وتحميلها مسؤولية الهزائم المتتالية في فلسطين.

    الشيشكلي في حرب فلسطين سنة 1948.
    الشيشكلي في حرب فلسطين سنة 1948.

    وقّع الشيشكلي على عريضة خاصة بضباط الجيش، نظمها الزعيم لرفعها إلى رئيس الجمهورية، يشكون فيها من التهجم المتكرر عليهم من فيصل العسلي، نائب الزبداني في البرلمان السوري. اتهمهم العسلي بالتخاذل في الميدان وطالب بمحاكمتهم، فرد الشيشكلي ورفاقه مطالبين بإحالة العسلي إلى القضاء بتهمة إثارة الفتن والإساءة إلى المؤسسة العسكرية. وعندما لم يستجب القوتلي إلى مطالبهم، قرر حسني الزعيم ورفاقه القيام بانقلاب عسكري ضد رئيس الجمهورية.

    تسليم أنطون سعادة (1949)

    شارك المقدم أديب الشيشكلي في انقلاب حسني الزعيم وتولى قيادة فوج مشاة ومدرعات نحو مدينة دمشق، تم سحبه من الجبهة السورية – الإسرائيلية ليلة 29 آذار 1949. بعد نجاح الانقلاب واعتقال القوتلي، فرض الزعيم نفسه حاكماً عسكرياً على سورية ثم رئيساً للجمهورية في 26 تموز 1949، وقد بقي الشيشكلي وفيّاً له حتى تسليم أنطون سعادة إلى السلطات اللبنانية، ليُعدم في 8 تموز 1949. كان سعادة قد جاء إلى دمشق بوساطة من الشيشكلي، وحصل على لجوء سياسي من الزعيم، الذي وعد بألا يسلمه إلى لبنان مهما كانت الظروف ومهما بلغت الضغوط. وعد الشيشكلي بمساعدة سعادة على إطلاق ثورة في لبنان، تُطيح برئيس الجمهورية بشارة الخوري ورئيس وزرائه رياض الصلح، ولكنّ خيانة الزعيم لسعادة أنهت هذه المخططات. غضب الشيشكلي كثيراً من حادثة تسليم سعادة، وعندما كثرت انتقاداته للزعيم، أمر الأخير بتسريحه من الجيش في 1 آب 1949.

    الانقلاب الثاني: 14 آب 1949

    انضم الشيشكلي إلى صفوف الضباط المعارضين للزعيم، وفي 14 آب 1949 شارك في الانقلاب العسكري الذي أطاح به وأودى بحياته. بعد إعدام الزعيم، أخذ الشيشكلي قميصه الملطخ بالدم وقدمه إلى جوليت المير، أرملة أنطون سعادة الموجودة يومها في دير سيدة صيدنايا، قائلاً لها: “إليك الدليل على انتقامنا من الغادر، لقد غسلنا الدم بالدم.”

    تولّى مهندس الانقلاب اللواء سامي الحناوي رئاسة أركان الجيش وأعاد الشيشكلي إلى الخدمة العسكرية، مع تعيينه قائداً للواء الأول في بلدة قطنا القريبة من دمشق. من موقعه الجديد، أخذ الشيشكلي يعارض التقارب بين سورية والعراق الذي أطلقه الحناوي بدعم من حزب الشعب، المسيطر على السلطة التشريعية، وسعيهم لتوحيد البلدين تحت العرش الهاشمي.

    أديب الشيشكلي جالساً أمام اللواء سامي الحناوي بعد انقلاب 14 آب 1949.
    أديب الشيشكلي جالساً أمام اللواء سامي الحناوي بعد انقلاب 14 آب 1949.

    كان ينظر إلى الأسرة الهاشمية الحاكمة في بغداد على أنها أداة في يد بريطانيا، ويرى أنها تريد نسف نظام سورية الجمهوري والإتيان بنظام حكم ملكي، وقد نُقل عنه قوله: “ستزول الجمهورية على جثتي.” ومع اقتراب التوقيع على ميثاق الوحدة السورية – العراقية، قام الشيشكلي بانقلاب عسكري يوم 19 كانون الأول 1949 – الثالث بعد انقلاب الزعيم في العام نفسه – وأمر باعتقال سامي الحناوي. هدف الانقلاب إلى حرمان رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي وقادة حزب الشعب من الدعم العسكري الذي كان يوفره لهم الحناوي، وذلك لقطع الطريق على إقامة الوحدة مع العراق. سُرّح الحناوي من الجيش بتهمة “التآمر على نظام سورية الجمهوري،”  كما جاء في البلاغ العسكري رقم واحد الذي أُذيع باسم أديب الشيشكلي عبر إذاعة دمشق:

    ثبت لدى الجيش أن رئيس الأركان العامة اللواء سامي الحناوي وعديله السيد أسعد طلس، وبعض ممتهني السياسة في البلاد، يتآمرون على سلامة الجيش وسلامة البلاد ونظامها الجمهوري مع بعض الجهات الأجنبية. وكان الجيش يعلم هذا الأمر منذ البداية، وقد حاول ضباطه بشتى الطرق، بالامتناع تارة وبالتهديد تارة أخرى، أن يحولوا دون إتمام المؤامرة وأن يقنعوا المتآمرين بالرجوع عن غايتهم فلم يفلحوا. فاضطر الجيش حرصاً على سلامة البلاد وسلامته، وحفاظاً على النظام الجمهوري، أن يقصي هؤلاء المتآمرين. وليس للجيش أي غاية أخرى، وهو يترك البلاد في يدي رجالها الشرعيين، ولا يتدخل إطلاقاً في القضايا السياسية، اللهم إلا إذا كانت سلامة البلاد وكيانها يستدعيان ذلك.

    أعلن الشيشكلي أن انقلابه لا يستهدف السلطة المدنية المنتخبة والممثلة برئيس الجمهورية، بل إنه مجرد “حركة جراحية” داخل الجيش، هدفها القضاء على سامي الحناوي. جاء باللواء أنور بنود إلى رئاسة الأركان، واكتفى بأن يكون نائباً له، مشترطاً على الطبقة السياسية تعيين صديقه الوفي فوزي سلو في وزارة الدفاع، مع حق الاعتراض على أي طرح لاستعادة مفاوضات الوحدة مع العراق قد يتقدم به وزراء حزب الشعب. تفادياً لأي صدام مع المؤسسة العسكرية، قبِل الرئيس هاشم الأتاسي بهذا الشرط وحاول التعايش مع أديب الشيشكلي ابتداءً من شهر حزيران 1950، عند تعيين فوزي سلو وزيراً للدفاع في حكومة الدكتور ناظم القدسي.

    اغتيال العقيد محمد ناصر

    بعدها بأسابيع، اغتيل العقيد محمد ناصر، قائد القوى الجوية، يوم 31 تموز 1950. كان العقيد ناصر عضواً في مجلس العقداء الذي أجمع على الإطاحة بسامي الحناوي، ومن ألمع ضباط الجيش وأكثرهم جرأة ونفوذاً. وصل إلى المستشفى العسكري حيّاً، وقبل مفارقة الحياة أدخل أصبعه في فمه، حيث كان الدم يسيل منه بغزارة، وكتب اسم شخصين بدمه، كليهما من أعوان الشيشكلي. قال إنهما من أطلق عليه النار، وأثارت هذه القصة عاصفة من الشائعات، ورأى مراقبون أن الشيشكلي أمر بتصفية محمد ناصر للحد من شعبيته داخل الجيش، باعتباره رفض المشاركة في انقلاب الشيشكلي وجاهر في انتقاده له. ولكن المحكمة العسكرية التي شُكلت لأجل جريمة مقتل محمد ناصر قررت تبرئة أعوان الشيشكلي، وهما عبد الغني قنوت وإبراهيم الحسيني، لعدم توفر أدلة كافية ضدهم.

    محاولة اغتيال الشيشكلي

    وفي 12 تشرين الأول 1950، تعرّض الشيشكلي لمحاولة اغتيال، وقف خلفها تنظيم سري حمل اسم “كتائب الفداء العربي.” ضمت الكتائب مواطناً مصرياً مداناً باغتيال أمين عثمان، أحد وزراء الملك فاروق، وقد اشترك معه في محاولة اغتيال الشيشكلي كل من جهاد ضاحي وهاني الهندي، إضافة إلى الدكتور جورج حبش من حركة القوميين العرب. تبين في التحقيق أنهم حاولوا اغتيال مراسل جريدة التايمز في سورية، وزرعوا القنابل في مدارس يهودية وفي مقر المفوضية الأمريكية. أُحيلوا إلى المحاكمة وكان من المفترض إعدامهم لولا تدخل مفاجئ من الشيشكلي، الذي زار المواطن المصري حسين توفيق في سجنه وتحدث معه مطولاً قبل أن يأمر بإطلاق سراحه والعفو عنه وعن رفاقه.

    انقلاب الشيشكلي الثاني: 29 تشرين الثاني 1951

    لم تؤثر حادثة اغتيال محمد ناصر على مسيرة أديب الشيشكلي، وظلّ يحكم من خلف ستار فوزي سلو حتى 28 تشرين الثاني 1951، يوم شكّل معروف الدواليبي حكومته ورفض إسناد حقيبة الدفاع للواء سلو. طلب الشيشكلي من الدواليبي العدول عن موقفه، وعندما لم يستجب، أمر باعتقاله في 29 تشرين الثاني 1951، واعتقل معه معظم وزراء حزب الشعب. احتجاجاً على الانقلاب، استقال الرئيس هاشم الأتاسي من منصبه في 3 كانون الأول 1951، فأصدر الشيشكلي قراراً بحل مجلس النواب وتسمية فوزي سلو رئيساً للدولة والحكومة. عطّل الدستور وفرضت الأحكام العرفية، وفي 6 نيسان 1952، صدر أمر بحل جميع الأحزاب السياسية. وحده الحزب السوري القومي الاجتماعي استُثني من هذا القرار، بسبب علاقة الشيشكلي به، وعُيّن أمينه العام عصام المحايري مستشاراً له في بعض الأمور السياسية.

    العقيد أديب الشيشكلي مع اللواء فوزي سلو.
    العقيد أديب الشيشكلي مع اللواء فوزي سلو.

    السياسة الداخلية

    كانت مرحلة الشيشكلي هي الأكثر صرامة وانضباطاً منذ استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، وكان دائم القول إن الدول “مثل الجيوش الحديثة… لا تُحكم إلا بالانضباط والقوانين الصارمة.” شهد عهده منع المشايخ والأئمة من الإفتاء وإلقاء خطب الجمعة في المساجد إلا بعد حصولهم على إذن مسبق من الدولة، كما وُضعت قوانين صارمة لمن يرغب بزيارة سورية بقصد السياحة أو العمل، منعاً لمجيء أصحاب السوابق الجنائية والمتسولين وبائعات الهوى من أوروبا الشرقية. أُلغيت تأشيرة الدخول المجانية (الفيزا) التي كانت تُعطى للزائرين العرب في السابق، وجاء في قرارات الشيشكلي أن على أي زائر إبراز شهادة مصرفية ودليل ملاءة مادية. كما مُنعت المؤسسات التعليمية الخاصة من تلقي المعونات المادية من الخارج، وطُبّق هذا الأمر على المدارس الأجنبية كافة وعلى الجامعة السورية.

    السياسة الإقليمية

    الرئيس الشيشكلي مع الرئيس محمد نجيب سنة 1952.
    الرئيس الشيشكلي مع الرئيس محمد نجيب سنة 1952.

    اعترفت جميع الدول العربية بانقلاب الشيشكلي، وجاء اعتراف الولايات المتحدة وبريطانيا في 17 كانون الأول 1952، بعد قرابة أسبوعين من استقالة هاشم الأتاسي. قاد الشيشكلي انفتاحاً على جميع دول الجوار إلا العراق، وفُتحت أول سفارة أردنية بدمشق في عهده بعد زيارة رسمية قام بها إلى عمّان للقاء الملك طلال في 19 آذار 1952. جاء هذا التقارب بعد اغتيال الملك عبد الله الأول في القدس سنة 1951، الذي كان الشيشكلي يتهمه بالعمالة للغرب ويحمّله وزر هزيمة الجيوش العربية في فلسطين. وفي 8 نيسان 1952 زار الشيشكلي الرياض والتقى بالملك عبد العزيز آل سعود، ثم انتقل إلى القاهرة لتهنئة الضباط الأحرار على انقلابهم على الملك فاروق. اجتمع مطولاً بالرئيس محمد نجيب ووزير الداخلية جمال عبد الناصر، الذي كان قد سمع به منذ مشاركته في معركة الفالوجة عام 1948.

    السياسة الاقتصادية

    اقتصادياً، اتبع الشيشكلي سياسة ليبرالية وطلب من مؤسسات الدولة السورية عدم التدخل في الحياة الصناعية والتجارية، قائلاً إن دورها يجب أن يقتصر على جباية الضرائب وسن القوانين النافذة. وصل عدد الشركات المساهمة في عهد الشيشكلي إلى سبع وثلاثين شركة، مجموع رأس مالها سبعين مليون ليرة سورية، جميعها مستقلة استقلالاً تاماً عن الدولة. ألغى الشيشكلي امتياز “مصرف سورية ولبنان” القائم منذ زمن الانتداب الفرنسي، والذي كان يُصدر النقد السوري ويُعدّ العميل الحكومي الوحيد بموجب امتياز أُعطي له منذ سنة 1924. في 28 آذار 1953، أصدر المرسوم 87 بتأسيس مصرف سورية المركزي، وفي أثناء تصفية أعمال “مصرف سورية ولبنان” شُكّلت مؤسسة حكومية لإصدار النقد، نُقلت إليها كل ودائع الخزينة السورية. أنشأ الشيشكلي فريقاً اقتصادياً مؤلفاً من وزير الاقتصاد منير دياب وحاكم المصرف المركزي الدكتور عزت طرابلسي ونائبه الدكتور عوض بركات، فرضوا على جميع البنوك العاملة في سورية ضرورة تعريف عملياتها المصرفية وتحديد الحد الأدنى لرأس مالها واحتياطها النقدي، مع شروط الانتساب إلى مجالس إدارتها.

    أرسل مستشاريه إلى فرنسا وبلجيكا وسويسرا للاستفادة من التجربة المصرفية في تلك الدول، وتعاقد مع نائب حاكم مصرف فرنسا المركزي ليكون مستشاراً لمصرف سورية المركزي في مرحلة التأسيس. ولكنّ مصرف سورية المركزي لم يرَ النور إلا بعد مغادرة الشيشكلي السلطة، وافتُتح في عهد الرئيس شكري القوتلي في 1 آب 1956، كما حدث مع معرض دمشق الدولي الذي وُضعت أساساته في عهد الشيشكلي.

    حركة التحرير العربي

    بعد حل الأحزاب، أسس الشيشكلي تنظيماً سياسياً جديداً يُدين له بالولاء المطلق، أطلق عليه اسم حركة التحرير العربي. عُيّن الدكتور مأمون الكزبري أميناً عاماً للحركة، واختار الشيشكلي لنفسه لقب “الرئيس المؤسس.” وُلدت الحركة في مهرجان خطابي كبير وسط دمشق يوم 27 آب 1952، وكان تدشينها في ساحة باتت تُعرف من يومها باسم “ساحة التحرير.” خطب الشيشكلي أمام الجماهير المحتشدة، معلناً برنامجه السياسي المؤلف من 31 نقطة، منها توحيد البلاد العربية وتحريرها من الهيمنة الأجنبية، مع ضمان حقوق الأقليات والمرأة. طالب بإعادة توزيع أراضي الدولة على الفلاحين وإنشاء مدارس زراعية وصناعية، وجعل التجنيد العسكري إجبارياً لكل مواطن بلغ الثامنة عشرة من عمره.

    كانت حركة التحرير العربي عبارة عن خليط أيديولوجي بين القومية العربية ومبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي التي رافقت الشيشكلي منذ مرحلة الشباب. ومن أهم سماتها كان فتح الانتساب أمام النساء والسماح لهن بالترشح لعضوية المجلس النيابي، عكس الأحزاب التقليدية مثل حزب الشعب والحزب الوطني التي كانت عضويتها محصورة بالذكور فقط. في 24 تشرين الأول 1952، افتُتح فرع حركة التحرير العربي في حلب، معقل حزب الشعب، ودخل الشيشكلي المدينة في استعراض جماهيري كبير عبر رأس موكب من ألف سيارة ومركبة. وفي خطابه، وصف حركته قائلاً:

    كانت حركة التحرير العربي وليدة الانقلاب العسكري والضرورات الوطنية التي دعت إليه، فهي حركة انقلابية إصلاحية لا علاقة لها بأي حركة سابقة أو حزب قديم، ولكنها تفتح صدرها لجميع العناصر الطيبة دون تفريق أو تمييز. وهذا قلبي وهذه يدي، أمدهما للمواطنين الصادقين إذا أحبوا العمل لمصلحة سورية ومصلحة العروبة، وما على الرسول إلا البلاغ.

    الانتخابات النيابية

    دعا الشيشكلي إلى انتخابات نيابية عام 1953، بعد تقليص عدد مقاعد المجلس من 114  إلى 82 مقعداً. كانت هذه الانتخابات هي الأولى التي تُشارك فيها المرأة السورية، وقد ترشحت ثلاث سيدات، تتقدمهن المربية ثريا الحافظ، لكن ثلاثتهن لم ينجحن بسبب معارضة رجال الدين والمحافظين دخول المرأة في الحياة السياسية. أُجريت الانتخابات في ظلّ مقاطعة شاملة من جميع الأحزاب التقليدية، وفازت حركة التحرير العربي بستين مقعداً، كما حصل الحزب السوري القومي الاجتماعي على مقعد واحد، ذهب لعصام المحايري. انتُخب مأمون الكزبري رئيساً لمجلس النواب، لكونه رئيس أكبر كتلة نيابية في البرلمان.

    الرئيس أديب الشيشكلي يلقي القسم الرئاسي في 11 تموز 1953.
    الرئيس أديب الشيشكلي يلقي القسم الرئاسي في 11 تموز 1953.

    الشيشكلي رئيساً للجمهورية

    وُضع دستور جديد لسورية في 16 حزيران 1953، وبموجبه ترشّح الشيشكلي لرئاسة الجمهورية، وخاض المعركة دون أي منافسة. كانت الانتخابات مباشرة من الشعب لا من المجلس النيابي، وقد فاز الشيشكلي بما لا يقل عن 90% من أصوات الناخبين، الذين قُدّر عددهم بمليوني مواطن. أقسم اليمين الدستوري في 11 تموز 1953، وشكل الحكومة بنفسه ليجمع بين صلاحيات رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء.

    في الوقت ذاته، كان الرئيس الأسبق هاشم الأتاسي قد دعا إلى اجتماع كبير في داره بحمص في تموز 1953، حضره أعضاء من الحزب الوطني وحزب الشعب وحزب البعث، قرروا فيه عدم الاعتراف بشرعية دستور الشيشكلي والانتخابات التي أوصلته إلى الرئاسة. أعلنوا نيتهم إسقاطه بكل السبل المتاحة أمامهم، فأيدهم سلطان باشا الأطرش من مقره في جبل الدروز، وأصدر بياناً وصف فيه الشيشكلي بالديكتاتور.

    نظراً لتقدمهما في السن ومكانتهما الرفيعة في المجتمع السوري، لم يتمكن الشيشكلي من اعتقال هاشم الأتاسي وسلطان الأطرش، لكنّه أمر باعتقال نجليهما عدنان الأتاسي (من أعضاء حزب الشعب) ومنصور الأطرش (من قادة حزب البعث). كان حزب البعث قد أيد انقلاب الشيشكلي في البداية، لكنه ابتعد عنه لاحقاً وانضم إلى المعارضة، فأمر الشيشكلي باعتقال ميشيل عفلق وصلاح البيطار ومعهم أكرم الحوراني، ابن حماة وصديق طفولة الشيشكلي، الذي كان يرأس الحزب الاشتراكي العربي. هرب ثلاثتهم إلى لبنان وشكّلوا تحالفاً ضد الشيشكلي تمثل في دمج حزبيهم في حزب واحد أطلق عليه اسم حزب البعث العربي الاشتراكي.

    قصف جبل الدروز

    كان الشيشكلي يقول: “إن أعدائي يشبهون الأفعى، رأسها في جبل الدروز (معقل سلطان الأطرش) ومعدتها في حمص (معقل هاشم الأتاسي)، أما ذيلها فهو في حلب (معقل حزب الشعب). إذا سحقت الذيل ماتت الأفعى.” بدأ بضرب خصومه في جبل الدروز عند اكتشاف كمية من السلاح في القريا، جاءت بالسر من الحكم الهاشمي في الأردن. لا يوجد رقم محدد بعدد الضحايا الدروز في حملة الشيشكلي العسكرية على الجبل، لكن الأمير حسن الأطرش قدّر الرقم لاحقاً بما لا يقل عن 600 شهيد درزي. لكيلا يُقال إن رئيساً سنياً يقوم بقصف جبل الدروز، اعتمد الشيشكلي على رئيس أركانه الدرزي، اللواء شوكت شقير، وأوكل إليه مهمة ضرب المعاقل الدرزية واعتقال المطلوبين من نشطاء وسياسيين.

    سقوط الشيشكلي

    منذ انقلابه على حزب الشعب وعمله على إجهاض أي تقارب مع العراق، وضع الشيشكلي نفسه في مواجهة مع الأسرة الحاكمة في بغداد، وتحديداً الأمير عبد الإله، خال الملك فيصل الثاني. أسس العراق فصيلاً من المنشقين عن الجيش السوري، المعروفين بقوات “سورية الحرة”، وقام بدفع مبالغ من المال لبعض الشخصيات السياسية لمعارضة الشيشكلي، منهم صبري العسلي رئيس الحزب الوطني. انطلقت مظاهرات كبيرة ضد الشيشكلي من حلب، فقام باعتقال عدد من زعماء حزب الشعب المحرضين ضده، مثل رشدي الكيخيا. ثم توسعت الاعتقالات لتشمل قيادات حزبية في بقية المدن: فيضي الأتاسي في حمص، والأمير حسن الأطرش في جبل الدروز، وصبري العسلي في دمشق.

    في 25 شباط 1954، احتل النقيب مصطفى حمدون إذاعة حلب وطلب من الشيشكلي الاستقالة ومغادرة البلاد فوراً. اشترك معه في هذا العصيان العقيد فيصل الأتاسي (ضابط أركان اللواء الثاني)، والعقيد أمين أبو عساف (قائد اللواء الثالث في دير الزور)، والمقدم عبد الجواد رسلان (قائد حامية الساحل الغربي في اللاذقية)، والعقيد محمود شوكت (قائد المنطقة الوسطى)، والعقيد عمر قباني (قائد حامية حوران).

    دعا الشيشكلي قادة أركانه إلى اجتماع عاجل في قصر الضيافة في شارع أبي رمانة، قرر من بعده التنحي تجنباً لسفك المزيد من الدماء. اتُخذ هذا القرار على الرغم من أن الشيشكلي كان ما يزال قادراً على سحق التمرد عن طريق الدبابات والمدافع الثقيلة التي بقيت تحت إمرته في قطنا والقابون، وقوى الهجانة التي كانت بقيادة شقيقه صلاح الشيشكلي. قبل مغادرته دمشق، أذاع الشيشكلي البيان التالي:

    رغبة مني في تجنب سفك دماء الشعب الذي أحب، والجيش الذي ضحيت بكل غال من أجله، والأمة العربية التي حاولت خدمتها بإخلاص صادق، أتقدم باستقالتي من رئاسة الجمهورية إلى الشعب السوري الذي انتخبني والذي أولاني ثقته، آملاً أن تخدم مبادرتي هذه قضية وطني. وأبتهل إلى الله أن يحفظه من كل سوء، وأن يوحده ويزيده منعة، وأن يسير به إلى قمة المجد.

    توجه الشيشكلي إلى بيروت، لكن الزعيم الدرزي كمال جنبلاط هدد باغتياله، فانتقل فوراً إلى السعودية وتولّى رئيس مجلس النواب مأمون الكزبري رئاسة الجمهورية بالوكالة من 26 شباط وحتى 1 آذار 1954. عاد هاشم الأتاسي من حمص لإكمال ما تبقى من ولايته الدستورية التي كانت قد قُطعت بسبب انقلاب الشيشكلي الثاني عام 1951، معلناً إبطال انتخابات الشيشكلي ودستوره ومجلس النواب الذي جاء به. عدّ الأتاسي أن مرحلة الشيشكلي لم تكن شرعية، وفور دخوله القصر الجمهوري قام بشطب معظم القرارات التي صدرت في عهده وحملت توقيعه.

    المؤامرة العراقية (1956)

    بعد سنتين من خروجه من سورية، وقع الاختيار على أديب الشيشكلي للقيام بانقلاب عسكري ضد شكري القوتلي الذي كان قد عاد إلى رئاسة الجمهورية عام 1955، وكان مقرباً من الرئيس جمال عبد الناصر، عدو رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد. قرر العراق الإطاحة بالقوتلي وكل السياسيين المحسوبين على مصر والاتحاد السوفيتي، وعلى الرغم من انعدام الود بين بغداد والشيشكلي، إلا أن المخابرات العراقية رأت بأنه الأقدر على القيام بانقلاب عسكري في سورية. تناسى الأمير عبد الإله كل خلافات الماضي مع الشيشكلي، وتواصل معه عبر شقيقه صلاح لتنفيذ انقلاب يسقط القوتلي وينهي هيمنة عبد الحميد السراج في سورية (مدير المكتب الثاني – شعبة المخابرات العسكرية).

    في نيسان 1956، توجه وفد من ضباط الجيش العراقي لمقابلة الشيشكلي في باريس، ثم سافر إلى لبنان للقاء شخصيات عسكرية سورية كانت من حلقته الضيقة في الماضي القريب، يمكنه الاعتماد عليها في تنفيذ الانقلاب. وصل الشيشكلي متخفياً إلى بيروت في تموز 1956 واجتمع مع ضباطه السابقين، وهنا قرر الانسحاب من الانقلاب لأن نجاحه لم يكن مضموناً، ما سيعرّض أفراد أسرة الشيشكلي في حماة إلى مضايقات وعواقب جسيمة. بعد انسحاب الشيشكلي من “المؤامرة العراقية،” قرر الأمير عبد الإله التعاون مع مجموعة من السياسيين للقيام بالانقلاب المطلوب، ولكنّ المخطط كُشف من قبل المخابرات السورية، وأمر عبد الحميد السراج باعتقال كل المشتركين به من وزراء ونواب. مثلوا أمام القضاء العسكري في دمشق، وحُكم على أديب الشيشكلي غيابياً بالإعدام بتهمة “الخيانة العظمى.”

    الاغتيال

    عاش أديب الشيشكلي سنواته الأخيرة في البرازيل، في منزل قريب من جسر نهر داس، واغتيل على يد المواطن السوري الدرزي نواف غزالة في الساعة الثالثة من عصر يوم 27 أيلول 1964. اعترف غزالة أنه قتل الشيشكلي انتقاماً لأهله الذين قُتلوا في حملته على جبل الدروز سنة 1953.

     

    آخر صورة للشيشكلي في منفاه في البرازيل.
    آخر صور للشيشكلي في منفاه في البرازيل.

    ذكرى الشيشكلي

    صدرت في سنوات لاحقة مجموعة دراسات عن حياة أديب الشيشكلي، منها:

    أهم ما جاء في الكتاب الأخير كان اتهام حمد عبيد، وزير الدفاع (الدرزي) عام 1964، بتصفية الشيشكلي انتقاماً لما حدث بينه وبين الدروز. وكان هذا الاتهام يشير إلى ضلوع نظام البعث الحاكم منذ عام 1963 بمقتل الشيشكلي.

    وضع الشيشكلي مقدمة كتاب من مذكرات حكومة حسني الزعيم للوزير والمحامي فتح الله صقال عام 1951، واجتمع بالصحفي البريطاني باتريك سيل وأعطاه شهادة تاريخية أثناء التحضير لكتابه الأول، الصراع على سورية، الذي صدر في لندن عام 1965، بعد أشهر من وفاة الشيشكلي. وفي عام 1997، ظهرت شخصية أديب الشيشكلي في الجزء الثاني من مسلسل حمام القيشاني، ولعب دوره الفنان أسامة الروماني.

    المناصب الرسمية

    المنصب الفترة سبقه خلفه
    رئيس أركان الجيش السوري 3 كانون الأول 1951 – 11 تموز 1953 أنور بنود شوكت شقير
    رئيس الحكومة 11 تموز 1953 – 25 شباط 1954 فوزي سلو صبري العسلي
    رئيس الجمهورية 11 تموز 1953 – 25 شباط 1954 فوزي سلو مأمون الكزبري

     

  • بوابة الصالحية

    بوابة الصالحية بدمشق.
    بوابة الصالحية بدمشق.

    بوابة الصالحية، أو ساحة يوسف العظمة، ساحة شهيرة وسط مدينة دمشق، يربط شارع 29 أيار بينها وبين ساحة السبع بحرات، ولا علاقة عقارية بينها وبين منطقة الصالحية الواقعة على سفح جبل قاسيون. فيها يقع مبنى محافظة دمشق، وهي ملاصقة لمنطقة البحصة ومجاورة لفندق الشام وسُمّيت رسمياً باسم ساحة يوسف العظمة، تكريماً لوزير الحربية الذي استشهد في معركة ميسلون يوم 24 تموز 1920.

    البداية

    في نهايات القرن التاسع عشر، اشتد العمار في منطقة الصالحية، وكان يفصلها عن أحياء دمشق القديمة سلسلة من البساتين الخاوية، يربط بينها طرق صغيرة ومتعرجة أنشأت في العهد العثماني. وفي سنة 1903 فُتحت جادة رئيسية سمّيت بطريق الصالحية، تحوّلت مع مرور الوقت إلى مركز تجاري، تبدأ شمالي منطقة البحصة إلى الطريق النازل جنوباً مخترقاً الطرف الغربي من محلّة ساروجا.

    أطلق على طريق شمالي البحصة اسم “بوابة الصالحية،” وسمّيت الجادة بجادة الصالحية، علماً أنه لم يكن هناك بوابة في هذه المنطقة، وقد سمّيت بالبوابة رمزياً لكونها تؤدي إلى منطقة الصالحية الأصلية. ولما امتد العمار في المنطقة في النصف الأول من القرن العشرين، وشيّد من حولها محلّة الشهداء وشارع العابد، صارت تعرف بالصالحية بعد أن أسقط الناس كلمة “بوابة” من اسمها. ومن أشهر معالمها مبنى محافظة دمشق وتمثال الشهيد يوسف العظمة في وسطتها، ومصرف سورية المركزي المقابل لها في نهاية شارع 29 أيار والمركز الثقافي الروسي القريب وفندق الشام القريبين منها.

    طريق الصالحية قديماً.
    طريق الصالحية قديماً.

     

  • البرامكة

    البرامكة سنة 1915.
    البرامكة سنة 1915.

     

    البرامكة، حي سكني وتجاري وسط مدينة دمشق الحديثة خارج السور، فيه شيّد معهد الطب العثماني بالقرب من المستشفى الحميدي الذي شكّل مع معهد الحقوق نواة الجامعة السورية سنة 1923. سمّيت المحلّة بالبرامكة نسبة إلى مقبرة آل برمك التي كانت في موضعها قديماً. أما قبلها فكانت منطقة البرامكة قرية صغيرة في العصر الأموي، عرفت باسم “صنعاء دمشق” وتعود تسميتها إلى أهالي اليمن الذين نزلوا فيها وسمّوها باسم مدينتهم.

    كان لها شأن كبير في زمن الفرع المرواني الأموي وفي عصر المماليك سُمّيت المحلّة بمقبرة الصوفية. وفي منطقة البرامكة اليوم قبور لعدد من مشايخ الإسلام أمثال ابن تيمية وابن كثير وابن صلاح الحنبلي وقطب الدين الخُضيري.

    معهد الطب الجامعة السورية

    بقيت البرامكة مقبرة خاوية من أي إعمار حتى مرحلة متقدمة من العهد العثماني، يوم قرر السلطان عبد الحميد الثاني تحويلها إلى منطقة علمية وأنشأ فيها المستشفى الحميدي، الذي عرف لاحقاً بمشفى الغرباء (أو المستشفى الوطني بعد سنة 1946). وفيها كان المقر الدائم لمعهد الطب العثماني، الذي افتتح بداية في منطقة الصالحية في ذكرى جلوس السلطان عبد الحميد على العرش يوم 1 أيلول 1903 ونُقل لاحقاً إلى البرامكة.

    زمن الانتداب الفرنسي

    في زمن الانتداب الفرنسي، أصبحت البرامكة مربضاً للدبابات الفرنسية وفيها كان مركز التلغراف العسكري أيام الثورة السورية الكبرى. وفي سنة 1923 دمجت سلطة الانتداب معهد الطب مع معهد الحقوق في مؤسسة تعليمية عُرفت بالجامعة السورية  لغاية تحويل اسمها إلى جامعة دمشق سنة 1958.

    البرامكة اليوم

    إضافة للبناء الرئيسي للجامعة، تحتوي البرامكة اليوم على المؤسسة العامة للصناعات الكيميائية والمؤسسة العامة للصناعات الهندسية، وفيها مقر الوكالة العربية السورية للأنباء (سانا) ومدينة تشرين الرياضية. و

     

  • عبد الحميد السراج

    العقيد عبد الحميد السراج
    العقيد عبد الحميد السراج

    عبد الحميد السراج (1925 -23 أيلول 2013)، ضابط سوري من حماة  وأحد أشهر الشخصيات العسكرية العربية في خمسينيات القرن العشرين. خاض حرب فلسطين في صفوف جيش الإنقاذ سنة 1948 وكان رئيساً للمكتب الثاني (شعبة المخابرات العسكرية) في سورية من سنة 1955 ولغاية تعيينه وزيراً للداخلية في الجمهورية العربية المتحدة عام 1958. لعب دوراً محورياً في إقامة الوحدة وكان من أشد المعجبين بالرئيس المصري جمال عبد الناصر وأقرب المقربين منه. عينه عبد الناصر رئيساً للمجلس التنفيذي في سورية – بمنزلة رئيس حكومة – ثم نائباً لرئيس الجمهورية لغاية 22 أيلول 1961. ارتبط اسمه بتصفية الحزب السوري القومي الاجتماعي في الخمسينيات وضرب الحزب الشيوعي السوري في زمن الوحدة وكان له دور كبير في تسليح المعارضة اللبنانية ضد الرئيس كميل شمعون سنة 1958. اعتقل في زمن الانفصال ونفذّت عملية استخباراتية دقيقة لإخراجه من سجن المزة ونقله إلى القاهرة. عاش ضيفاً على كل رؤساء مصر من عبد الناصر إلى محمد مرسي والرئيس المؤقت عدلي منصور وتوفي في القاهرة يوم 23 أيلول 2013.

    البداية

    ولد عبد الحميد السراج في حماة وكان والده رجلاً بسيطاً يملك حانوتاً صغيراً لأغراض السمانة. دَرَس في مدارس حماة الحكومية وبعد نيله الشهادة الثانوية انتسب إلى مدرسة الدرك ثمّ إلى كلية حمص الحربية. عُيّن في بداية حياته المهنية في مخفر باب الفرج في مدينة حلب قبل أن يتقدم بطلب الانضمام إلى جيش الإنقاذ لمحاربة الصهاينة في فلسطين سنة 1947.

    في جيش الإنقاذ (1947-1948)

    رُفض طلبه بداية من قبل فوزي القاوقجي، قائد جيش الإنقاذ، نظراً لقلّة خبرته العسكرية فتوسط لأجله صديقه أديب الشيشكلي، ابن مدينة حماة وقائد فوج اليرموك في جيش الإنقاذ. أقنع الشيشكلي قائد جيش الإنقاذ بقدرات عبد الحميد السراج، فدخل في صفوف المتطوعين العرب وشارك في معارك فلسطين حيث تعرّف إلى قائد الجيش السوري حسني الزعيم. أحبه ووثق به وعند قيامه بانقلاب على رئيس الجمهورية شكري القوتلي يوم 29 آذار 1949 عينه مرافقاً عسكرياً له.

    مرافقاً لحسني الزعيم سنة 1949

    رافق السراج حسني الزعيم أثناء فترة حكمه القصيرة بدمشق وكان من المفترض أن يكون مناوباً في بيته ليلة الانقلاب العسكري الذي أطاح به يوم 14 آب 1949. غياب السراج عن عمله في تلك الليلة أثار الكثير من التساؤلات حول علمه المسبق بالانقلاب أو حتى مشاركته به إلى جانب أديب الشيشكلي.

    في زمن الشيشكلي (1951-1954)

    وبعد اعتقال الزعيم ومقتله، دخل السراج في وحدات سلاح المشاة وشارك في انقلاب الشيشكلي على رئيس أركان الجيش اللواء سامي الحناوي في كانون الأول 1949. وعندما أصبح الشيشكلي رئيساً للجمهورية في تموز 1953 أرسل السراج إلى فرنسا لاتباع دورة عسكرية مكثفة. وعند عودته إلى دمشق عُيّن مديراً للشعبة الأولى لغاية سقوط حكم الشيشكلي في شباط 1954. تعرض السراج لمضايقات من الضباط الذين قاموا بالانقلاب على أديب الشيشكلي، وطالبوا تسريحه من الجيش بسبب قربه من الشيشكلي ومن حسني الزعيم من قبله. توسط السراج لدى رئيس الحكومة صبري العسلي وقال إن علاقته بالشيشكلي انتهت يوم خروجه من سورية. اكتفى العسلي بإبعاده عن الجيش وفي صيف العام 1954، عينه ملحقاً عسكرياً في السفارة السورية بباريس.

    في رئاسة المكتب الثاني (1955-1958)

    تزامنت عودة السراج إلى سورية مع اغتيال العقيد عدنان المالكي، رئيس شعبة العمليات، في 22 نيسان 1955. قُتل المالكي في الملعب البلدي بدمشق وقرر رئيس الأركان شوكت شقير تكليفه بإدارة الشعبة الثانية خلفاً للعقيد مصطفى رام حمداني. كان السراج في الثلاثين من عمره يومها، وأعطي صلاحيات مطلقة لتعقب الجناة ومحاسبتهم. أثبتت تحقيقاته ضلوع عناصر من الحزب السوري القومي الاجتماعي في جريمة المالكي، فأمر باعتقال رئيس الحزب عصام المحايري وجوليت المير، أرملة الرئيس لمؤسس أنطون سعادة. شملت اعتقالات السراج كل عناصر الحزب المقيمين في سورية، ومنهم الشعراء محمد الماغوط وأدونيس، وطلب إلى رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي إعلان الأحكام العرفية لكي يتمكن من استكمال التحقيقات والمداهمات بحق بقية القوميين. وعندما رفض الأتاسي طلبه، هدده السراج قائلاً: “إن كنت يا فخامة الرئيس لا تعلن الأحكام العرفية فلن أستطيع ضمان حياة المعتقلين.” نهره الأتاسي وطلب إليه الخروج من مكتبه فوراً، مهدداً بتسريحه ومعاقبته على هذا التطاول على مقام الرئاسة.

    السراج والعدوان الثلاثي

    وعلى الرغم من انزعاج الأتاسي الكبير من أسلوبه وتصرفاته، إلى أنه قرر الاحتفاظ بالسراج لحين انتهاء التحقيقات في جريمة مقتل المالكي، خشياً أن يؤدي تسريحه المبكر إلى نقمة من الضباط. وكانت النتيجة أن السراج بقي في منصبه إلى بعد انتهاء ولاية الأتاسي وانتخاب شكري القوتلي رئيساً للجمهورية في 18 آب 1955. لم تُعجب سياساته البوليسية الرئيس القوتلي ولكنه أبقاه في منصبه نظراً لتفانيه بالعمل ونزعته العروبية والشعبية الكبيرة التي كان يحظى بها في المؤسسة العسكرية. وعندما وقع العدوان الثلاثي على مصر في تشرين الأول 1956، سافر القوتلي إلى موسكو لحشد الدعم الدولي لصالح الرئيس جمال عبد الناصر، واستغل السراج غيابه لنسف أنابيب شركة نفط العراق (IPC) المارة عبر الأراضي السورية، دون عِلم أو موافقة رئيس الجمهورية. وقد أدى هذا التصرف إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين دمشق ولندن، ولكنه قرّب السراج كثيراً من جمال عبد الناصر، أعجب كثيراً بشجاعته وإخلاصه.

    المؤامرة العراقية

    في نهاية العام 1956 أعلن السراج عن محاولة انقلاب ضد الرئيس القوتلي، بتمويل وتخطيط يقف من الوصي على عرش العراق الأمير عبد الإله. كان العراق يومها في أوج مواجهته مع مصر ورئيسها، وحاول قادته القيام بانقلاب عسكري في سورية لنسف تحالف القوتلي مع عبد الناصر. تعاون العراق مع فلول الحزب السوري القومي الاجتماعي ومع شخصيات سورية نافذة مثل الرئيس الأسبق أديب الشيشكلي والنواب منير العجلاني وميخائيل إليان وعدنان ابن هاشم الأتاسي. اتهمهم السراج بمحاولة تصفيته شخصياً وقتل الزعيم الاشتراكي أكرم الحوراني – المحسوب على عبد الناصر. وجاء في قرار الاتهام إنهم كانوا سيوجهون إنذاراً إلى القوتلي: إما قطع علاقة سورية مع مصر والاتحاد السوفيتي، أو التنحي عن الحكم.

    صدر حكم غيابي باعتقال الشيشكلي المقيم في أوروبا يومها وتمكن وميخائيل إليان من الهروب قبل صدور مذكرة اعتقاله. أما الأتاسي والعجلاني، فقد اعتقلوا بأمر مباشر من السراج بعد إسقاط عنهم الحصانة النيابية وسيقوا مكبلين مهانين إلى سجن المزة. أشرف السراج على التحقيق معهم بنفسه ولم يوفر نوعاً من أنواع التعذيب لاستنطاقهم. شكلت محكمة خاصة للمتهمين برئاسة الضابط الشيوعي عفيف البزري، وصدرت عنها أحكام تراوحت بين الإعدام والسجن المؤبد.

     محاولة إقصاء السراج

    حاول الرئيس القوتلي التخلّص من عبد الحميد السراج وفي سنة 1957 أصدر مرسوماً بتعيينه ملحقاً عسكرياً إلى مصر، إلى أنه تراجع عن قراره إبان تمرد بعض ضباط الجيش في معسكر قطنا القريب من دمشق، الذين هددوا بانقلاب عسكري في حال تعرض الرئيس للسراج وطالبوا بالمقابل بإقالة رئيس الأركان توفيق نظام الدين ومعاونه عزيز عبد الكريم، وعدوهم المسؤولين عن إبعاد السراج. وبعد طيّ القرار ضغط السراج على القوتلي لتسريح نظام الدين من منصبه واستبداله باللواء عفيف البزري، رئيس المحكمة التي حكمت بالإعدام على عدنان الأتاسي ومنير العجلاني ورفاقهم.

    الوحدة مع مصر سنة 1958  

    توجه عفيف البزري إلى القاهرة على رأس وفد من العسكريين في 11 كانون الثاني 1958، لمقابلة عبد الناصر ومطالبته بتوحيد مصر وسورية بأي شكل يراه مناسباً. سافر البزري ورفاقه دون علم رئيس الجمهورية، ودون أخذ موافقة وزير الدفاع خالد العظم، ولم يكن بحوزتهم لا تصريح أمني أو جوازات سفر. حصانتهم الوحيدة كانت أوامر عبد الحميد السراج الشفهية، الذي دعاهم للبقاء في مصر حتى إقناع عبد الناصر بالوحدة وطلب إلى القوتلي عدم اعتراضهم أو ملاحقتهم.

    خوفاً من نقمة الجيش والشارع الناصري، قبل القوتلي بـالإملاءات المفروضة عليه من قبل عفيف البزري وعبد الحميد السراج وأرسل وزير الخارجية صلاح البيطار إلى القاهرة لإضفاء شرعية سياسية على الوفد العسكري. وعند إتمام الاتفاق مع عبد الناصر، توجه القوتلي إلى القاهرة برفقة السراج ورئيس الحكومة صبري العسلي، وفي شباط 1958 أعلنوا رسمياً عن ولادة الجمهورية العربية المتحدة.

    الرئيس جمال عبد الناصر على شرفة قصر الضيافة بدمشق وخلفه عبد الحميد السراج في شباط 1958.
    الرئيس جمال عبد الناصر على شرفة قصر الضيافة بدمشق وخلفه عبد الحميد السراج في شباط 1958.

    محاولة اغتيال عبد الناصر في دمشق

    شارك السراج في الاستقبال الشعبي الكبير الذي أقيم لعبد الناصر بدمشق وكان مسؤولاً عن حمايته الشخصية. وأثناء وجود الرئيس في قصر الضيافة، أعلن السراج أن السعودية الممثلة بملكها سعود بن عبد العزيز آل سعود كانت تخطط لاغتيال عبد الناصر في سورية. قال السراج أنهم تواصلوا معه لترتيب عملية الاغتيال وبأنه تظاهر بقبول المشاركة بهدف كشفها أمام الرأي العام العربي. وعرض إلى عبد الناصر شيكات صادرة عن البنك العربي، قدّمت له من الملك سعود لتأمين نفقات عملية الاغتيال.

    الثورة اللبنانية سنة 1958

    وفي صيف العام 1958 كلف السراج بالتواصل مع المعارضة النيابية للرئيس كميل شمعون، المناهض لعبد الناصر والقريب من الولايات المتحدة الأمريكية. بدأ السراج بتمويل المعارضة في لبنان، الممثلة بكمال جنبلاط وحميد فرنجية ورئيس الحكومة الأسبق صائب سلام. شكلت كتائب مسلحة في بيروت جاء سلاحها من المكتب الثاني بدمشق مع كميات كبيرة من الديناميت والذخيرة، وتمكنت من إسقاط شمعون ومنعه من تجديد ولايته الرئاسية.

    الرئيس عبد الناصر مع عبد الحميد السراج في مصر.
    الرئيس عبد الناصر مع عبد الحميد السراج في مصر.

    تصفية الشيوعيين

    كافئ عبد الناصر عبد الحميد السراج بتعيينه وزيراً للداخلية في الإقليم الشمالي. استخدم جهاز الأمن لضرب قواعد الحزب الشيوعي في سورية وأمر باعتقال قادته، باستثناء خالد بكداش الذي هرب إلى أوروبا الشرقية تفادياً لبطش السراج ورجاله. جمع رجال المباحث في قلعة دمشق وأعلن حربه على الشيوعيين السوريين، وعند اعتراض بعض الضباط وقالهم إن الحزب الشيوعي فيه شعراء وكتاب لا يجب معاملتهم على أنهم مجرمون، ردّ السراج بسخرية: “كيف تريدون أن نعاملهم؟ هل نضعهم على الرف ونضرب لهم على الدف؟” ومن أبرز ضحايا السراج يومها كان القائد الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو، الذي مات تحت التعذيب في معتقلات المكتب الثاني يوم 25 حزيران 1959. قيل إنه ذوّب بالأسيد وظلّت هذه التهمة تلاحق السراج حتى الممات.

    عبد الحميد السراج في مصر سنة 1960.
    عبد الحميد السراج في مصر سنة 1960.

    السراج رئيساً للمجلس التنفيذي

    تصاعد نفوذ السراج بشكل كبير جداً وفي 20 أيلول 1960، عينه عبد الناصر رئيساً للمجلس التنفيذي في سورية، أي بمنزلة رئيس حكومة، إضافة لمنصبه وزيراً للداخلية. ولكنّه اصطدم مع ممثل عبد الناصر بدمشق، المشير عبد الحكيم عامر، وانطلقت بينهما صراعات مريرة على النفوذ والسلطة. اختلفا في عدة أمور كانت آخرها حول قرارات التأميم التي صدرت عن رئيس الجمهورية في تموز 1961. عارض السراج تأميم المصانع في سورية، محذراً من نقمة تجار وصناعي حلب ودمشق، واقترح الاكتفاء بتأميم المصارف السورية والعربية فقط. أمّا المشير عامر فقد أيد قرار التأميم ومن دون تحفظ.

    غضب عبد الناصر من موقف السراج وفي الصباح الباكر استدعاه إلى داره في منشية البكري في القاهرة ووبخه توبيخاً شديداً بحضور مدير المخابرات المصرية صلاح نصر. وجّه إليه عبد الناصر كلاماً قاسياً وقال: “أنت عايز إيه يا عبد الحميد؟ عاوز أعملك أي عشان ترضى؟ إنني لا أستطيع أن أفهم تصرفاتك وتصرف رجالك في دمشق.” وكان هذا الغضب الكبير ناجماً عن تحريض عبد الحكيم عامر المستمر على عبد الحميد السراج، الذي طالما كان يدعو عبد الناصر إلى كف يده عن سورية ونقله إلى مصر ليكون بعيداً عن قاعدته الأمنية وعناصره الذين يكنون له ولاءً مطلقاً.

    حاول السراج تدارك الموقف بسرعة ونزل بنفسه إلى مقر الشركة الخماسية، كبرى الشركات الصناعية السورية، للإشراف على تأميمها ولكنّ هذا لم ينفع في ترميم الثقة بينه وبين عبد الناصر. استجاب الرئيس لنصيحة المشير ونقل السراج إلى مصر مع استحداث منصب خاص به: نائباً لرئيس الجمهورية للشؤون الداخلية. كان منصباً شكلياً لا سلطة حقيقية له، وقد تألم السراج كثيراً بعد تعييه فيه وفي كتابه ما الذي جرى في سورية يقول محمد حسنين هيكل إن عبد الناصر قال للسراج: “قد سببتم ليّ من المتاعب ما لم يسببه لي أعداء الوحدة وخصومها.”

    اعتقال السراج

    اشتد الخلاف بين السراج والمشير عامر وفي 22 أيلول 1961 دعاهم عبد الناصر إلى مكتبه في القاهرة، قبل ستة أيام من انقلاب الانفصال الذي أطاح بجمهورية الوحدة. اجتمع خمس مرات مع السراج على مدى عشرين ساعة متقطعة، وعندما أدرك الأخير أن موقف الرئيس كان أكثر تعاطفاً مع موقف خصمه المشير، عاد السراج إلى دمشق واستقال من منصبه، وقيل إنه أُقيل. فُتحت سجون السراج وسرّح الكثير من ضباطه الأوفياء وخُتمت مكاتبه بالشمع الأحمر. غاب السراج عن المشهد في الأيام الأخيرة من الوحدة ليظهر بعد ساعات قليلة من انقلاب الانفصال في 28 أيلول 1961، عند دعوته إلى مبنى الأركان العامة بدمشق. حاول مهندس الانقلاب عبد الكريم النحلاوي استمالته لكونه الأعلم بأسرار عبد الناصر وكل تفاصيل حكمه في سورية، ولكنه رفض التعاون وقال إنه وعلى الرغم من خلافة الكبير مع عبد الناصر لا يزال موالياً له ولجمهورية العربية المتحدة، معترضاً وبشدة على الانفصال. بعدها بأيام معدودة، أمر النحلاوي باعتقاله من منزل أحد أقرباء زوجته في حيّ المالكي ونقله إلى سجن المزة، نحت حراسة مشددة.

    خبر وصول السراج إلى مصر في جريدة الأهرام.
    خبر وصول السراج إلى مصر في جريدة الأهرام.

    تهريب السراج إلى مصر

    شُكّلت محكمة خاصة لمحاكة السراج كمجرم حرب، برئاسة المحقق عمر الربّاط، الذي وجه له 400 تهمة، أصغرها ستودي به إلى حبل المشنقة. ولكن عبد الناصر لم يرض هذا الختام للسراج وأمر بتهريبه من السجن. نُفذت العملية من قبل المخابرات المصرية والسفير المصري في لبنان عبد الحميد غالب، بمساعدة رئيس حرس السجن منصور الرواشدة، الذي أعطى السراج بذلة عسكرية ليتنكر برتبة “رقيب” في الجيش السوري وأخرجه من الزنزانة بعد صرف الحراسة عنها إلى سيارة سوداء كانت بانتظاره لنقله إلى لبنان. استضافة الزعيم الدرزي كمال جنبلاط في بيروت ليلة واحدة قبل سفره إلى الإسكندرية عبر سفينة حضرت خصيصاً من مصر لأجل هذه المهمة. علمت السلطات السورية بهروبه من جريدة الأهرام التي عنونت صفحتها الأولى في اليوم التالي: “السراج وحارسه في الرئيس.”

    الوفاة

    وفي مصر عين السراج بمنصب مدني في مؤسسة التأمينات الاجتماعية، بعيداً عن الأمور السياسية والعسكرية. رفض إجراء إي لقاء صحفي أو تلفزيوني وفي سنة 2005 توسط وزير الدفاع مصطفى طلاس لأجله ودعاه للعودة إلى سورية ولكنه رفض وظلّ مقيمياً في مصر لغاية وفاته عن عمر ناهز 88 عاماً في 23 أيلول 2013. أجريت له جنازة رسمية بصفته نائباً سابقاً للرئيس جمال عبد الناصر، حضرها ممثل عن وزير الدفاع المشير عبد الفتاح السيسي، ومهندس الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس محمد مرسي قبل وفاة السراج بشهرين.

    شهادة السراج

    قبل رحيله بعشر سنوات، اجتمع السراج مع الطبيب والباحث الفلسطيني كمال خلف الطويل، الخبير بالمرحلة الناصرية، الذي سأله:

    “حقاً، لِمَ أنت معتصم بالصمت بكل هذا الإصرار؟ هل هناك ما يدين أو يشين من يهمك أمره؟”

    “لأجله وحده لن أتكلم”، وأشار بسبابته إلى صورة على الحائط لجمال عبد الناصر بكامل قامته.

    وأضاف السراج:

    هو أشرف الرجال وأطهر الرجال ولن يقيض الله للأمة أحداً مثله إلى أجل طويل. لكن مأساته أنه حمل على كتفيه من لا يستحق ولا يقدِر، فأوصله وأوصلنا والأمة معه إلى هاوية بدأت بالانفصال ومرّت باليمن ووصلت إلى الهزيمة (عام 1967). إنه عبد الحكيم عامر. كم نصحته وبتكرار: انتبه يا ريّس، لن يخرب الرجل بيت الإقليم الشمالي فقط، بل والجنوبي بعده، والوحدة برمتها والجيش بأسره.

    سرّ السراج للدكتور الطويل قائلاً:

    زارني (المشير) في منزلي بعد إعلان الوحدة ببرهة، وبصحبته العميد عبد المحسن أبو النور، المعيَّن رئيساً لأركان الجيش الأول، وإثر ما غادرا اكتشفت مظروفاً على الكنبة التي جلس عليها عامر يحتوي على 5000 جنيه، فسارعت بالاتصال بعبد المحسن على اللاسلكي، وطلبت منه العودة للتو، وعندما وصل قلت له: “أبلغ المشير ألّا يعود إلى مسلك كهذا معي، فلست ممن يمكن شراء ولائهم”. فردّ الضابط المصري: “هوّ المشير لاحظ أن سجاد المنزل لا يليق بوزير داخلية، فارتأى أن يسهم في إبداله بلائقٍ، وهو العليم بضيق ذات يدك، فأخذ المبادرة بخفر ونية حسنة.

    وقد ورد هذا الحديث كاملاً في كتاب عبد الناصر والتأميم الصادر سنة 2019 للكاتب السوري سامي مروان مبيّض.

    ذكرى السراج

    وفي 1991 صدر كتاب عن حياة عبد الحميد السراج في لندن بعنوان السلطان الأحمر، وضعه عديله الصحفي السوري غسان زكريا. وبعدها بخمس سنوات، ظهرت شخصية السراج على شاشة التلفزيون في الجزء الثاني من مسلسل حمام القيشاني، ولعب دوره الفنان محمد آل رشي.

    المناصب:

    رئيس المكتب الثاني (نيسان 1955 – آذار 1958)
    وزيراً للداخلية (6 آذار 1958 – 16 آب 1961)
    رئيساً للمجلس التنفيذي (20 أيلول 1960 – 16 آب 1961)
    نائباً لرئيس الجمهورية للشؤون الداخلية (16 آب – 22 أيلول 1961)
    • سبقه في المنصب: لا يوجد
    • خلفه في المنصب: لا يوجد

     

     

  • بستان الكركة

    Damas 020بستان الكركة، بستان قديم كان موضعه في المنطقة التي تلي سوق ساروجا إلى الغرب حتى شارع العابد ومن ناحية الشمال وصولاً إلى ساحة السبع بحرات. يُنسب إلى نائب دمشق في العهد المملوكي محب الدين الكركي وقد أزيل كلياً وظهر في مكانه شارع 29 أيار الممتد بين ساحة السبع بحرات وبوابة الصالحية.

  • بوابة الآس

    Damas 020بوابة الآس، محلّة في العمارة البرّانية كانت كان موضها بالقرب من مقبرة الدحداح وقد عُرفت بشجيرات الآس التي يستخدمها أهالي دمشق لتزيين شواهد قبورهم.

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !