يوسف العيسى (1870-9 تشرين الأول 1948)، صحفي فلسطيني مُقيم في دمشق، كان أحد الآباء المؤسسين الكتلة الوطنية في سورية وصاحب جريدة ألف باء الدمشقية المعارضة للانتداب الفرنسي.
البداية
ولِدَ يوسف العيسى في مدينة حيفا ودَرَس في مدارسها الحكومية. أطلق مع ابن عمّه عيسى العيسى جريدة يومية اسمها “فلسطين” سنة 1911 ثم توجه إلى دمشق عند تحريرها من الحكم العثمانية وفيها أسس صحيفة ألف باء اليومية التي صدر عددها الأول في 1 أيلول 1920، بعد شهر ونيّف من فرض الانتداب الفرنسي على سورية.
تأسيس الكتلة الوطنية
تعاون يوسف العيسى مع زعماء سورية على إنشاء الكتلة الوطنية لمحاربة الانتداب بكل الوسائل القانونية والسلمية وحضر اجتماعها التأسيسي في بيروت يوم 25 تشرين الأول 1927، بدعوة من رئيسها المؤسس هاشم الأتاسي. وعند بدأ عملها السياسي أثناء انتخابات عام 1928 وضِعت جريدة ألف باء تحت تصرف الكتلة الوطنية وظلت تنطق بلسانها لغاية جلاء القوات الفرنسية عن سورية في 17 نيسان 1946.
سورية الجديدة، صحيفة يومية أسسها حبيب كحالة في عهد الملك فيصل الأول واستمرت مع بداية الانتداب الفرنسي. صدر عددها الأول يوم 27 كانون الأول 1918، بعد شهرين من تحرير البلاد من الحكم العثماني ومبايعة الأمير فيصل حاكماً عربياً على سورية. كانت تصدر بأربع صفحات من القطع الصغير في كل أيام الأسبوع عدا يوم الأحد وجمعت بين أفراد أُسرتها عدداً من الصحفيين الكبار، كان أبرزهم نصوح بابيل، الذي عُرف لاحقاً عبر جريدة الأيام اليومية. توقفت جريدة سورية الجديدة عن الصدور عام 1926 بسبب موقفها الداعم للثورة السورية الكبرى حيث أغلق مكتبها وصدر قرار باعتقال صاحبها. وفي سنة 1929 عاد حبيب كحالة إلى جمهوره عبر مجلّة المضحك المبكي التي حققت نجاحاً باهراً في سورية واستمرت لغاية نطلع الستينيات.
بردى، جريدة يومية أسسها منير الريّس مع الصحفي جورج فارس بدمشق وصدر عددها الأول يوم 21 كانون الأول 1945. تأسست مع نهاية الحرب العالمية الثانية وظلّت تصدر بشكل يومي لغاية تعطيلها للمرة الأولى سنة 1948. عدّت من الصحف المعارضة لرئيس الجمهورية شكري القوتلي وأيدت الانقلاب العسكري الذي أطاح به في 29 آذار 1949.
ولكن مهندس الانقلاب حسني الزعيم شملها بقرار حجب بعض الصحف اليومية قبل أن يعود ويطلب إلى الريّس تأسيس صحيفة بديلة باسم الانقلاب، صدر عددها الأول في أيار 1949 والأخير يوم مقتل الزعيم في 14 آب 1949.
الفيحاء، جريدة يومية أسسها الصحفي سعيد تلاوي بدمشق وكانت محسوبة على رئيس الجمهورية شكري القوتلي. صدر عددها الأول في 2 تشرين الثاني 1947 والأخير يوم 8 آذار 1963. كانت الفيحاء أول صحيفة دمشقية تطلق بعد جلاء القوات الفرنسية عن سورية وعرفت بخطها المؤيد للرئيس القوتلي. عطّلت يوم الإطاحة به إبان انقلاب حسني الزعيم العسكري في 29 آذار 1949 لتعود إلى الصدور بعد مقتل الزعيم في 14 آب 1949. ولكنها توقفت مجدداً في زمن الوحدة السورية – المصرية سنة 1958 وعادت في مرحلة الانفصال، ليتم إيقافها بشكل نهائي وملاحقة صاحبها في مطلع عهد البعث سنة 1963.
ألف باء، صحيفة يومية أسسها الصحفي الفلسطيني المقيم بدمشق يوسف العيسى وصدر عددها الأول في 1 أيلول 1920 والأخير يوم 8 آذار 1963. ظهرت صحيفة “ألف باء” الدمشقية في الأسابيع الأولى من الانتداب الفرنسي في سورية وجاء في تعريف صاحبها لها إنها “جريدة سورية تبحث في السياسة والأخلاق.” كانت ناطقة لسان الكتلة الوطنية في زمن الانتداب ولها يعود الفضل في اكتشاف عدد كبير من الكتّاب السوريين، مثل الصحفي وجيه بيضون والأديب حنا مينه والشاعر بدوي الجبل والشاعرة عزيزة هارون.
البداية
بدأت بأربع صفحات من القطع الكبير وتحولت إلى ثماني صفحات، لتصبح من أكبر المطبوعات السورية حجماً وأكثرها رواجاً وتأثيراً في زمن الانتداب. وبعد مشاركة العيسى في تأسيس الكتلة الوطنية سنة 1927، اعتُمدت صحيفته كأحد الأذرع الإعلامية للحركة الوطنية في سورية، ما أدى إلى تعطيلها مراراً وحجبها قصراً من قبل أجهزة الأمن الفرنسية.
بعد وفاة يوسف العيسى
توفي يوسف العيسى سنة 1948 وذهبت ملكية الصحيفة مع رئاسة تحرير الصحيفة إلى نجله خالد العيسى. وفي سنة 1952 دُمجت مع صحيفة النضال الدمشقية بقرار من العقيد أديب الشيشكلي، وصارت تصدر باسم الأنباء لغاية 30 كانون الأول 1953. وفي زمن الوحدة مع مصر سنة 1958 توقفت ألف باء عن الصدور، لتعود لفترة وجيزة في عهد الرئيس ناظم القدسي قبل إلغاء ترخيصها مع ترخيص كل الصحف السورية الخاصة إبان الانقلاب العسكري الذي قاده مجموعة من الضباط الناصريين والبعثيين في 8 آذار 1963.
رؤساء التحرير
تعاقب على رئاسة تحرير صحيفة ألف باء عدد من الصحفيين الكبار، ومنهم:
العاصمة، الصحيفة الرسمية الناطقة بلسان حكومة الملك فيصل الأول، صَدرت بدمشق من 1919 ولغاية عام 1929. أُسست العاصمة بعد انهيار الحكم العثماني في سورية، وكانت الجريدة الرسمية الناطقة بلسان حكومة الأمير فيصل بن الحسين قبل تتويجه ملكاً على البلاد يوم 8 آذار 1920. صَدر عددها الأول في 17 شباط 1919 وعُين الصحفي والأديب محب الدين الخطيب رئيساً للتحرير، يعاونه المحامي شاكر الحنبلي.
غطّت العاصمة كل المراسيم والقوانين الصادرة عن الحكومة السورية، وكانت تصدر مرتين في الأسبوع بثماني صفحات من القطع المتوسط. وبعد سقوط حكم الملك فيصل وفرض الانتداب الفرنسي على سورية، أصبحت الصحيفة الرسمية باسم دولة الانتداب وتحولت سنة 1923 إلى نشرة شهرية ثمّ إلى جريدة رسمية للدولة السورية عام 1929 وهي مستمرة في الصدور حتى عشرينيات القرن الواحد والعشرين.
بعد تجريده من منصبه أميراً للحج مع نهاية الحرب العالمية الأولى، قرر عبد الرحمن اليوسف دخول معترك السياسية عبر حزب سياسي أطلق عليه اسم “الحزب السوري الوطني.” اتخذ من إحدى قاعات قصره في منطقة سوق ساروجا مقراً للحزب، فعرف شعبياً بحزب الذوات والافندية والبشوات.
أهداف الحزب
تألف الحزب من هيئة إدارية من ستة عشر عضواً وهيئة استشارية فيها خمسة وعشرون عضواً، جميعهم من الأعيان. طالبوا باستقلال سورية بحدودها الطبيعية وضمان وحدة أراضيها، دون ذكر تحفظاتهم على الدولة الهاشمية التي أُقيمت في دمشق نهاية عام 1918، ولا على أميرها الشاب فيصل بن الحسين.
في بيانهم التأسيسي طالب أعضاء الحزب بنظام ملكي دستوري، يقيّد صلاحيات الأمير فيصل ويجعله مسؤولاً أمام مجلس نواب مُنتخب. وطالبوا أيضاً بالتساوي والحقوق بين جميع مكونات الشعب السوري، دون التفريق بين أي عرق أو دين. ولكيلا يبقى الحزب مُرتبطاً بالذوات، دعا أعضاؤه إلى إنشاء صناديق تعاونية اقتصادية لجمع التبرعات ورفع السوية المعيشية لأبناء الشعب السوري. وكان ضمن أهدافهم تنشيط التجارة والصناعة وصون حقوق النقابات والعمال.
أعضاء الحزب
ضم الحزب السوري الوطني شخصيات بارزة من المجتمع الدمشقي مثل:
عند صدور إنذار الجنرال الفرنسي هنري غورو في 14 تموز 1920، الذي دعا فيه الملك فيصل إلى حل الجيش السوري وجمع السلاح من الأهالي تمهيداً لفرض الانتداب الفرنسي على سورية، هبت الجماهير وطالبت بفتح باب الجهاد لقتال الفرنسيين. ولكن موقف الحزب كان مختلفاً حيث دعا إلى حل سياسي وعدم الدخول في أي مواجهة عسكرية مع الفرنسيين. وقال الحزب إن الجيش السوري الوليد كان صغيراً للغاية وغير قادر على محاربة دولة عظمى مثل فرنسا.
نهاية الحزب
انهار الحزب الوطني السوري يوم مقتل عبد الرحمن اليوسف في قرية خربة غزالة في 21 آب 1920، بعد أقل من شهر على سقوط الحكم الملكي وفرض الانتداب الفرنسي على سورية. وفي مطلع عهد الاستقلال ظهر بدمشق حزباً يحمل اسماً مشابهاً وهو الحزب الوطني ولكن لا علاقة له بالحزب السوري الوطني الذي زال كلياً عن الوجود منذ سنة 1920.
ولِد سعد الله الجابري في حيّ السُّوَيقةبحلب وهو سليل عائلة معروفة من الأشراف، تعود زعامتها المحلية في حلب إلى منتصف القرن الثامن عشر. سمّي والده الحاج عبد القادر لطفي الجابري مُفتِياً على المدينة في العهد الحميدي أمّا والدته حسنى مالك فقد كانت ربة منزل من أصول شركسيّة. دَرَس الجابري في المدرسة الرشدية الحكومية وفي الكلية السُلطانيّة في إسطنبول، حيث تخصص بالحقوق قبل سوقه إلى الخدمة الإلزامية في الجيش العثماني في أثناء الحرب العالمية الأولى.
وفي آذار 1920 وبعد تتويج فيصل ملكاً على سورية، سمّي الجابري عضواً في لجنة صياغة دستور سورية الملكي التي كانت برئاسة رئيس المؤتمر هاشم الأتاسي. تحالف الجابري وزميله في المجلس رياض الصلح وأسسوا كتلة نيابية من الشباب التقدميين المُطالبين بتحرير المرأة وإعطائها حق الانتخاب وحق الترشح للمناصب السياسية. وقد توطدت صداقة قوية بين الجابري والصلح بعد زواج الأخير من فايزة الجابري سنة 1930، بنت نافع باشا الجابري، الشقيق الأكبر لسعد الله الجابري. أما سعد الله الجابري فلم يتزوج وبقي عَزَباً طوال حياته.
مع إبراهيم هنانو
ولكن عهد الملك فيصل لم يستمر طويلاً وسقط بعد مواجهة عسكرية مع الجيش الفرنسي في معركة ميسلون يوم 24 تموز 1920، أدّت إلى خلع فيصل عن العرش وفرض الانتداب الفرنسي على سورية. لم يلتحق الجابري بالثورة العسكرية التي اندلعت ضد الفرنسيين في شمال البلاد، ولكنّه قدّم لها المال وعمل مستشاراً لقائدها العام إبراهيم هنانو، زميله في المؤتمر السوري. حُكم عليه بالإعدام فهرب إلى مصر وحصل على لجوء سياسي من الملك فؤاد الأول. بقي مقيماً في القاهرة حتى سنة 1922، عند السماح له بالعودة إلى سورية بعد صدور عفو فرنسي عن مجموعة من الوطنيين السوريين، كان الجابري في مقدمتهم.
كانت ثورة الشمال قد أُجهِضت وهرب إبراهيم هنانو إلى إمارة شرق الأردن ثمّ إلى فلسطين، حيث اعتُقِل من قبل السلطات البريطانية وسُلّم إلى السلطات الفرنسية في سورية. شُكّل مجلس عرفي لمحاكمته في حلب، ووجّهت له تهم شتّى، منها السلب والنهب وقيادة عصيان مسلّح ضد الجمهورية الفرنسية. كان الجابري يحضر جلسات المحكمة بانتظام بعد أن استُدعي مع شقيقه فاخر الجابري شهوداً للدفاع، وفي إحدى الجلسات خاطب رئيس المجلس العسكري هنانو قائلاً: “إنك تزعم أنك قاتلت فرنسا باسم الشعب السوري، فهل يُمكنك أن تأتيني بشخص واحد كلّفك بهذه المُهمّة؟”
وقف الجابري بشجاعة وقال للقاضي الفرنسي:
يا سيدي الرئيس، أنا أدعى سعد الله الجابري من أبناء هذا البلد ومثقفيه. أنا والألوف معي كلفنا إبراهيم هنانو مقاتلة فرنسا التي دخلت بلادنا دون حق، ومن حقنا أن نقاوم الاحتلال الأجنبي. وإن المجرم هو من يعتدي على سلامة الناس وحريّة الشعوب، لا ذلك الذي يدافع عن استقلال بلاده ويجابه في سبيل تحرير آبائه وأجداده. لقد أعلنإبراهيم هنانو الحرب عليكم باسم الشعب السوري العربي، والقتل والفتك والتدمير نتيجة طبيعية للحرب التي خضتم غمارها.
نتيجة تلك المحاكمة كانت براءة إبراهيم هنانو من كل التهم الموجهة إليه، وعودته إلى العمل الوطني ولكن من باب النضال السياسي هذه المرة، لا المُسلح، برفقة سعد الله الجابري.
الانتساب إلى الكتلة الوطنية
في هذه المرحلة من حياته أسس سعد الله الجابري تنظيماً سريّاً لمحاربة الانتداب الفرنسي في حلب، أطَلَق عليه اسم “اليد الحمراء.” وقد ضمّ التنظيم عدداً من أعيان المدينة مثل الدكتور عبد الرحمن كيالي وحسن فؤاد إبراهيم باشا وفؤاد المُدرّس وأسعد الكواكبي. عَلِمْت السلطات الفرنسية بنشاطه فاعتقلته ونفته إلى مدينة صافيتا. وفي سنة 1925 أُلقي القبض عليه مرة ثانية لإسهامه في الثورة السورية الكبرى، فسُجِن في حلب ثمّ في جزيرة أرواد. وكان الاعتقال الثالث في سنة 1934 بسبب نشاطه في الكتلة الوطنية. كان إبراهيم هنانو أحد مؤسسي الكتلة الوطنية مع فاخر الجابري سنة 1927، وقد أشرف بنفسه على انتساب سعد الله الجابري وانتخابه عضواً في مجلسها الدائم، ثم نائباً لرئيسها المؤسس هاشم الأتاسي.
دستور عام 1928
خاضت الكتلة الوطنية أولى معاركها السياسية سنة 1928 عند ترشّح زعمائها في انتخابات المؤتمر التأسيسي المكّلف بوضع دستور جديد لسورية بدلاً من الدستور الملكي الذي قامت فرنسا بتعطيله بعد احتلال دمشق سنة 1920. فاز الجابري بعضوية المؤتمر التأسيسي، وانتُخب هاشم الأتاسي رئيساً له، وكانت هذه هي ثاني تجربة دستورية له مع الأتاسي عملهما معاً في اللجنة الدستورية سنة 1920. تمكن الجابري ورفاقه من صياغة مسودة دستور ليس فيه أية إشارة إلى الانتداب الفرنسي، ما أغضب المفوضية الفرنسية العليا. اعترضت فرنسا على ست مواد في مسودة الدستور وطلبت من أعضاء المؤتمر التأسيسي تعديلها وإضافة مادة جديدة رقمها 116، فيها ذكر واضح وصريح للانتداب. ولكنّ أعضاء المؤتمر أصرّوا على موقفهم الرافض لهذه التعديلات وقاموا بتبني الدستور كاملاً دون أي تعديل، فردّت فرنسا بتعطيل الدستور وحلّ المؤتمر التأسيسي إلى أجل غير مُسمّى.
الإضراب الستيني
وعند وفاة إبراهيم هنانو في تشرين الثاني 1935، نُصّب الجابري خليفة له في زعامة حلب والشمال السوري. قاد موكب المشيعين رافعاً شعارات مناهضة للانتداب ومطالبة باستقلال سورية، فاعتقله الفرنسيون واقتحموا منزل هنانو لمصادرة كلّ ما فيه من مُستندات ووثائق. وفي 21 كانون الأول 1936، أمرت سلطة الانتداب باعتقال زميله في الكتلة فخري البارودي، ما أشعل الإضراب الستيني في المدن السورية كافّة. وفي شباط 1936 توصل هاشم الأتاسي إلى تفاهم مع الفرنسيين يؤدي إلى إنهاء الإضراب مقابل إطلاق سراح جميع المعتقلين، وفي مقدمتهم الجابري والبارودي، وسفر وفد رفيع من الكتلة الوطنية إلى فرنسا للتفاوض على مستقبل سورية.
سمح لهم بإنشاء وزارة للخارجية وأخرى للدفاع، للمرة الأولى منذ سنة 1920، عند تولّي فرنسا شؤون سورية الخارجية والعسكرية وجعلها حكراً على دبلوماسيين وضباط فرنسيين. دافع سعد الله الجابري عن منجز الكتلة الوطنية في فرنسا وعدّه نصراً كبيراً، وقد نقلت الصحف السورية قوله: “لم يبق على فرنسا إلّا أن تُعطينا مارسيليا.”
الجابري وزيراً للداخلية والخارجية (1936-1939)
عاد وفد الكتلة الوطنية إلى سورية رافعاً شعار النصر يوم 29 أيلول 1936، وعلى الفور قدم رئيس الجمهورية محمد علي العابد استقالته، داعياً لانتخابات نيابية ورئاسية مبكرة. فازت الكتلة الوطنية بغالبية مقاعد المجلس النيابي وانتخب هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية في 21 كانون الأول 1936. وفي الحكومة الأولى التي شكلها جميل مردم بك، سمّي سعد الله الجابري وزيراً للداخلية والخارجية، وذهبت بقية الحقائب إلى زملائه في الكتلة الوطنية. أول نشاط كبير قام به الجابري بعد تسلمه المنصب الجديد كان دعوة الدول العربية لعقد مؤتمر حول القضية الفلسطينية في بلدة بلودان القريبة من دمشق يومي 8-9 أيلول 1937، تقرر فيه رفض الهجرة اليهودية وعدم الاعتراف بشرعية الانتداب البريطاني في فلسطين.
تعرض العهد الجديد إلى تحدّيات كبير بعد عودة الزعيم الوطني عبد الرحمن الشهبندر من المنفى، وهو أحد أبرز قادة الثورة السورية الكبرى المعارضين لمعاهدة عام 1936. رأى الشهبندر أن المعاهدة فرطت بحقوق سورية وقال إنها جاءت على حساب شهداء الثورة، دون أن تنصفهم أو تُعطي وعداً صريحاً بالاستقلال. لم يهاجم الشهبندر رئيس الجمهورية، احتراماً لماضي هاشم الأتاسي الوطني، بل صوّبت انتقاداته بشكل كامل تجاه جميل مردم بك وسعد الله الجابري، ورأى أنهما وقفا خلف كل التنازلات الواردة في معاهدة عام 1936.
ضاعف الشهبندر من معارضته للعهد الجديد بعد رفض البرلمان الفرنسي المصادقة على معاهدة عام 1936، خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى تراجع نفوذ فرنسا في الشرق الأوسط. سافر الجابري إلى باريس مع رئيس الحكومة، في محاولة منهم لإقناع المُشرعين الفرنسيين بالعدول عن موقفهم، وقدموا بعض التنازلات الإضافية، مثل إعطاء فرنسا حق التنقيب عن النفط في المنطقة الشرقية وحماية الأقليات في سورية. ولكن كل ذلك لم يُقنع المجلس الفرنسي بتغيير موقفه، وبقيت المعاهدة حِبراً على ورق، على الرغم من كل محاولات الاستنهاض من قبل الجابري ومردم بك.
سلخ لواء إسكندرون
ثم جاءت قضية سلخ منطقة لواء إسكندرون عن سورية عبر استفتاء أجرته عصبة الأمم، والتي أخفق الجابري بمنعه ومنع ضم المنطقة برمتها إلى تركيا. وجهت اتهامات له وإلى جميل مردم بك، بالتنازل عن اللواء بعد لقاء جمع بينهم وبين الرئيس التركي كمال أتاتورك في أنقرة، واتهمهم الشهبندر بالتقصير في حماية الأراضي السورية، مطالباً باستقالتهم ومحاسبتهم أمام القضاء. رد مردم بك على هذه الانتقادات بوضع الشهبندر قيد الإقامة الجبرية في منزله الصيفي في الزبداني وراقب الجابري بصفته وزيراً للداخلية تحرّكاته ومنعه من عقد أي اجتماع سياسي. وعندما تقدم الشهبندر إلى وزارة الداخلية بطلب تأسيس حزب سياسي، جاء جواب الرفض موقعاً من قبل الوزير سعد الله الجابري.
اغتيال الشهبندر
استقالت الحكومة المردمية في 23 شباط 1939 وبعدها بأشهر، تبعها الرئيس هاشم الأتاسي باستقالته، منهياً عهد الكتلة الوطنية في الحكم. وفي 6 تموز 1941، اغتيل عبد الرحمن الشهبندر في عيادته الطبية وسط دمشق، ووجّهت أصابع الاتهام فوراً إلى خصومه في الكتلة الوطنية. خضع سعد الله الجابري إلى جلسة تحقيق في حلب، وتمكن من الهروب إلى العراق قبل صدور مذكرة توقيف بحقه وحق جميل مردم بكولطفي الحفار. حصلوا على لجوء سياسي من حكومة الرئيس جميل المدفعي، وشُكل في دمشق فريق من المحامين للدفاع عنهم بعد أن قال أحد الجناة فور اعتقاله إنه تلقى المال والسلاح لتنفيذ الجريمة من الجابري ورفاقه. بعد محاكمة غيابية بدمشق تبين أنه لا علاقة لهم بمقتل الشهبندر فصدر قرار براءة بحقهم، ليعودوا إلى سورية مطلع العام 1941.
حكومة الجابري الأولى (19 آب 1943 – 14 تشرين الثاني 1944)
ترشح الجابري في الانتخابات النيابية وعند انتخاب صديقه شكري القوتلي رئيساً للجمهورية في 17 آب 1943، سمّي أول رئيس حكومة في عهده. واجه الجابري معارضة منظمة، ليس من دمشق هذه المرة بل من حلب، عند ظهور جيل جديد من الوطنيين الشباب المعارضين له وللقوتلي، بقيادة رشدي الكيخياوناظم القدسي، وهما عضوان سابقان في الكتلة الوطنية انشقّا عنها سنة 1939 بسبب سلخ لواء إسكندرون.
كان سعد الله الجابري مُنفتحاً من الناحية الثقافية ومُشجّعاً للفنون بأشكالها كافة، على الرغم من تربيته الدينية المحافظة. قدّم دعماً كبيراً للفرق المسرحية السورية وحضر عرض مسرحية قيس وليلى في شباط 1944، لتكون هي المرة الأولى التي يُقدم فيها مسؤول سوري دعماً من هذا النوع للفنانين السوريين. عند خروجهم من المسرح، طلب الجابري إلى بطل المسرحية تيسير السعدي أن يأتيه إلى دار الحكومة وأوصى مدير مكتبه كاظم الداغستاني أن يؤمّن له كل ما يحتاجه هو وفرقته من نفقات ورعاية.
الصدام مع المشايخ
اصطدم الجابري بالشارع الديني المحافظ، بعد رفع عدة معروضات له من قبل الأئمة والمشايخ، تطالب بفصل الإناث عن الذكور في المدارس، وتخصيص عربات خاصة لهن في الترامواي مع فرض رقابة على السافرات. قرر تجاهل كل مطالبهم، وفي ربيع العام 1944 نزل المشايخ إلى الشارع مطالبين باستقالة حكومته بعد رفضه الاستجابة لمطلبهم بمنع السيدات من حضور حفل خيري في نادي الشرق، نظمته جمعية نقطة الحليب النسائية. اعترضت الجمعيات الإسلامية على هذا النشاط لأن المُنظمين أرادوا إقامة الحفل في ناد عُرف عنه تقديم الخمر للزبائن. وأُشيع يومها بأن عدداً من زوجات المسؤولين السوريين كانوا ينوون حضور الحفل سافرات الرأس والوجه.
في 19 أيار 1944 وُحّدت خطب الجمعة في مساجد دمشق كافة، للتحذير من الفلتان والتحرر، وقد حمّل فيها الخطباء حكومة الجابري مسؤولية ما وصفوه بالتراخي الاجتماعي والفجور. في مُذكّراته، يصف الشيخ علي الطنطاوي الرئيس سعد الله الجابري قائلاً إنه “سوّد صفحته” بدعمه لحركة التحرر النسائية، “وأفسد وطنيته.”
اجتمع 300 شخص بعد صلاة الظهر في جامع تنكز، وخرجوا بمظاهرة حاشدة باتجاه السراي الحكومي في ساحة المرجة، مُطالبين بإلغاء الحفل الخيري أو منع النساء المُسلمات من حضوره، وهتفوا ضد رئيس الحكومة ووزير الداخلية لطفي الحفار. أمر مدير شرطة دمشق أحمد اللحّام بتفريق المُتظاهرين بالقوة، وفي الاشتباكات التي حصلت، قُتل اثنان من الشبّان.
رفض الجابري معاقبة عناصر الشرطة، قائلاً إنهم كانوا يقومون بواجبهم الوطني والأمني، ورأى أنهم أطلقوا النار دفاعاً عن النفس بعد رفع السلاح في وجههم من قبل المُتظاهرين. وأمر باعتقال زعيم المتظاهرين الشيخ محمد الأشمر، أحد قادة الثورة السورية الكبرى، ونقله مخفوراً إلى سجن تدمر بتهمة التحريض ضد الدولة.
انتفض أهل الميدان دفاعاً عن محمد الأشمر، وخرجوا بمظاهرات كبيرة أُحرقت فيها المباني الحكومية في باب مصلّى، أغلقت أسواق دمشق تضامناً مع الحراك الشعبي يومي 21-22 أيار 1944. أقيمت حواجز لاعتراض الناس في منطقة الشاغور، وأُطلقت النار على الشرطة وعُطّلت حركة الترامواي في دمشق بعد التهجم بالحجارة على إحدى الحافلات. وهاجم المتظاهرون سينما أمبير في طريق الصالحية، التي كانت تقيم عروضاً مسائية للنساء، وحطموا أبوابها، محاولين الدخول على السيدات المجتمعات في داخلها.
حاولت جمعية الهداية الإسلامية ومعها جمعية التمدّن الإسلامي طباعة مناشير تُطالب الأهالي باستمرار العصيان حتى إسقاط حكومة الجابري، وفي شمال البلاد، عُثر على منشورات مُرسلة من الإخوان المسلمين في مصر تُطالب أهالي حلب بنصرة أهل الشّام وإقامة حكم شرعي في سورية. وصفت تلك المناشير سعد الله الجابري بالمُلحد، وقالت إنه “عدو الله وعدو الإسلام.”
غضب سعد الله الجابري من هذا التحدي وخطب في مجلس النواب مُدافعاً عن عناصر الدرك الذين أطلقوا النار: “هل كان من الممكن أن يسمحوا لهؤلاء المُشاغبين قصيري النظر باقتحام دار السينما والتعرض للنساء الموجودات في داخله؟ كلا!” ودافع عن حكومته قائلاً:
لم تأتِ حكومة من قبل حاربت الفساد والانحلال الأخلاقي كما فعلنا نحن، فنحن نرفض الاعتداء على الحريات الدينية بالشدة نفسها التي نرفض فيها التهجم على مؤسسات الدولة. أملنا أن يقوم كل جامع، وكل كنيسة وكل كنيس بفتح أبوابها بحرية تامة، من دون أي خوف أو ترهيب من أحد.
وختم خطابه برسالة موجهة إلى رجال الدين: “عليهم أن يعلموا جيداً أن الحكومة منهم، وهي موجودة لأجلهم، ولكنها يجب أن تُطاع.”
العدوان الفرنسي 29 أيار 1945
وفي 29 أيار 1945 وقع عدوان فرنسي على مدينة دمشق، كان الهدف منه اعتقال الجابري وجميل مردم بك ورئيس الجمهورية شكري القوتلي. افتعلت فرنسا حادثة على مدخل مجلس النواب، وأنزل عناصرها العلم السوري ورفعوا العلم الفرنسي مكانه، ثم أمروا عناصر حامية الدرك المرابطة على أبواب المجلس النيابي بتحيته. وعند رفضهم تنفيذ تلك الأوامر أطلقوا النار عليهم وقتلوهم. دخلت قوات السنغال مبنى البرلمان بحثاً عن الجابري بنية اعتقاله أو اغتياله. كان الجابري قد غادر المبنى وعندما لم يجدوه أضرموا النار في مكتبه بعد مصادرة جميع الوثائق قصفت فرنسا المجلس.
وصل الجابري إلى مكان إقامته في فندق الأورينت بالاس في ساحة الحجاز، بعد أن قطعت فرنسا جميع الاتصالات داخل مدينة دمشق وأغلقت حدود سورية البريّة. ثم قُطعت الكهرباء عن مدينة دمشق وبدأ القصف المدفعي على قلعة دمشق ومحيط السراي الحكومي في ساحة المرجة. كان بطريرك موسكو ألكسي الأول نزيلاً في فندق الأورينت بالاس مع الجابري، وقد وصل دمشق صباح يوم 29 أيار. طلبت السفارة السوفيتية إلى الحاكم العسكري الفرنسي الكولونيل أوليفيا روجيه وقف القصف لإجلاء البطريرك وفتح طريق آمن له لكي يتمكن من السفر إلى لبنان.
عرض على الجابري السفر معه إلى بيروت، وعندما وصلوا إلى حدود المصنع لم يرغب الجابري أن يدخل الأراضي اللبنانية تحت حماية روسية فترجّل من سيارة البطريرك واستقل سيارة نقل سورية، أوصلته إلى مقر السراي الحكومي في بيروت، حيث كان في استقباله رئيس الحكومة اللبنانية عبد الحميد كرامي. وضع كرامي مكتبه تحت تصرف الجابري، الذي عقد مؤتمراً صحفياً وتكلّم عن المجزرة التي حصلت في دمشق، ثم سافر إلى القاهرة لحضور اجتماع عاجل في مقر جامعة الدول العربية، خصص لمناقشة الأوضاع في سورية.
وقد صدرت إدانات عربية ودولية بحق الفرنسيين، تبعها إنذار بريطاني شهير في 1 حزيران 1945، مُطالباً بوقف العدوان وبدء انسحاب القوات الفرنسية عن سورية. شارك سعد الله الجابري في المفاوضات النهائية مع فرنسا، حول تسلّم المصالح المشتركة مع لبنان، ومنها المطارات والسجون والمرافق الحيوية. وفي عيد الجلاء الأول يوم 17 نيسان 1946، شارك الجابري في رفع علم الاستقلال فوق السراي الكبير في ساحة المرجة، معلناً جلاء القوات الفرنسية عن سورية.
مرض الجابري واستقالته
بعدها بأيام معدودة، شكل الجابري حكومته الثالثة والأخيرة، وهي الأولى في عهد الاستقلال، وقد استمرت لغاية 27 كانون الأول 1946. ويعود سبب الاستقالة المبكرة إلى تدهور صحة الجابري الذي كان يُعاني من تشمّع بالكبد ما أفقده القدرة على مُمارسة أعباء الرئاسة. أُدخل إلى مستشفى المواساة في الإسكندرية وبقي مدة طويلة تحت مراقبة أطباء مصريين وإشراف صفية زغلول، حرم الزعيم المصري الراحل سعد زغلول. ومن على سرير المرض، قدم الجابري استقالة حكومته بنية السفر إلى الولايات المتحدة لتلقي العلاج، ولكنّه توفي قبل موعد السفر بأسابيع. وقد جاء في مذكرات خالد العظم أن الجابري استقال من منصبه بطلب من رئيس الجمهورية بسبب رفضه مقترح تعديل الدستور للسماح للقوتلي بولاية رئاسية ثانية. يقول العظم في مذكراته: “أرسل السيد محسن البرازي (أمين عام القصر الجمهوري) إلى الإسكندرية ليجتمع بالجابري ويأخذ منه كتاب الاستقالة إلى أن المشار إليه قابل الموفد باشمئزاز وحمله رسالة شديدة اللهجة للقوتلي، تتضمن معاتبة لأنه استعجل في طلب الاستقالة، وعدّ ذلك دليلاً على القنوط من شفائه، مما يؤدي إلى انهيار مقاومته المعنوية للمرض.”
تأسيس الحزب الوطني
آخر نشاط سياسي لسعد الله الجابري كان مشاركته في تأسيس الحزب الوطني، الذي أُشهر في دمشق يوم 29 آذار 1947. لم يكن الجابري حاضراً في مؤتمر التأسيس بسبب شدّة مرضه، وناب عنه شقيقه الأكبر فاخر الجابري. دعا الحزب الوطني إلى الحفاظ على وحدة سورية وطالب باحترام نظامها الجمهوري وتقويته، ما جعله في مواجهة مباشرة مع الأسرة الهاشمية الحاكمة في كلّ من بغدادوعمّان، التي كانت تطالب بضمّ سورية إمّا إلى الأردن أو العراق. انتُخب سعد الله الجابري رئيساً للحزب يوم 23 نيسان 1947 وعند وفاته بعد شهرين ذهبت الرئاسة لنبيه العظمة.
الوفاة
توفي سعد الله الجابري في حلب عن عمر ناهز 54 عاماً يوم 20 حزيران 1947. أعلن الحداد العام ثلاثة أيام وخرجت له جنازة رئاسية، رُفع فيها نعشه المجلل بالعلم السوري على عربة مدفع، وتقدّم المشيّعين رئيس الجمهورية شكري القوتلي. في مذكراته وصف الأمير عادل أرسلان مراسيم التشييع قائلاً: “كان سعد الله وطنياً، أبياً، صادقاً، مخلصاً، جواداً وفياً. تأبين شكري القوتلي له كان مؤثراً فقد بكى وأبكى السامعين.”
تكريم الجابري
أُطلق اسم سعد الله الجابري بعد وفاته على شارع رئيسي في كل المدن السورية، ونُصِب له تمثال نصفي في حلب وسط ساحة عريقة حملت اسمه منذ سنة 1947. وصدر طابع بريد يحمل رسمه مع عدد كبير من الدراسات، منها سعد الله الجابري وحوار مع التاريخ، للكاتبة رياض الجابري (دمشق 2006)، و”سعد الله الجابري: رجل الاستقلال وبناء الدولة” للمؤلف محمّد علي شحادة جمعة (دمشق 2008)، الذي قدّم له وزير الدفاع العماد أول مصطفى طلاس.
وصف سعد الله الجابري
في مذكراتها المنشورة سنة 1947، تقول الليدي سبيرز، حرم السفير البريطاني إدوارد سبيرز: “كان سعد الله الجابري أنيقاً رقيقاً، ذا رأس أشيب فضي، ووجه ناعم التكوين، ولكنه يؤذن بأن صاحبه من أولي العزم الشديد.”