
شهداء 6 أيار، هم إحدى وعشرون شخصية قيادية، من سياسيين وعسكريين وأدباء وصحفيين، أعدموا شنقاً في ساحات بيروت ودمشق في الساعة السادسة من صباح يوم 6 أيار 1916 بأمر من جمال باشا، قائد الجيش الرابع في سورية. كان ذلك أثناء الحرب العالمية الأولى وقد نُفّذ حكم الإعدام في ساحة المرجة بدمشق وفي ساحة البرج في بيروت، التي باتت تعرف من يومها بساحة الشهداء. بعد تحرير البلاد من الحكم العثماني سنة 1918 اتخذ من هذا التاريخ يوماً وطنياً للشهداء في كل من سورية ولبنان، تعطل فيه المدارس والدوائر الحكومية كافة. ويعتبر يوم السادس من أيار من أبرز الأعياد الوطنية في سورية، لا يضاهيه إلّا عيد الجلاء في الذي يُصادف في السابع عشر من شهر نيسان.
البداية
بعد وصول جمال باشا إلى دمشق وتعيينه قائداً للجيش الرابع سنة 1914، حصل صِدام بينه وبين المفكرين السوريين المنادين بالقومية العربية. معظم هؤلاء كانوا قد استثمروا كثيراً في الحريات التي منحتها السلطات العثمانية بعد الانقلاب الذي قادته جمعية الاتحاد والترقي ضد السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1908. رُفعت الرقابة عن المطبوعات وسارع عدد من الصحفيين بإصدار صحف تدعوا إلى القومية العربية، مثل جريدة نهر العاصي التي أطلقها محمد علي الأرمنازي من حماة وجريدة العصر الجديد التي حررها جرجي حداد، ابن مدينة زحلة، وصحيفة لسان الحال التي كان يُشرف عليها الصحفي اللبناني سعيد عقل، ابن الدامور، وهي معارضة في نهجها لسياسات جمعية الاتحاد والترقي. وفي سنة 1913، ظهرت جريدة القبس بدمشق لشكري العسلي، التي صنّفت بالمعارضة أيضاً، على الرغم من تولّي صاحبها مقعداً نيابياً في مجلس المبعوثان في إسطنبول.
وكانت جمعية الاتحاد والترقي قد دعت إلى انتخابات نيابية في أرجاء السلطات كافة نهاية العام 1908، وفاز بالنيابة عن المدن العربية عدد من المفكرين والسياسيين العرب مثل رشدي الشمعة وشفيق مؤيد العظم. شكلوا كتلة داخل مجلس المبعوثان، معارضة لسياسة التتريك وقرار دخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى إلى جانب روسيا القيصرية. تحالف هؤلاء النواب مع الجمعيات الأهلية التي ظهرت قُبيل الحرب العالمية الأولى، كالجمعية القحطانية وجمعية الإخاء والمنتدى الأدبي، وبعيداً أن أعين الدولة، عمل الكثير منهم مع جمعية العربية الفتاة السريّة التي كانت قد ظهرت في باريس سنة 1911، وكانت تنادي بنهوض الأمة العربية وتعزيز اللغة العربية داخل السلطنة العثمانية. وفي سنة 1913، شاركوا في المؤتمر العربي الأول المنعقد في باريس، الذي هدف إلى توسيع صلاحيات الأقضية العربية مع الحفاظ على هويتها عربية المستقلة عن الهوية العثمانية.
إعدامات 21 نيسان 1915
غضب جمال باشا من هذه النزعة القومية، التي تزامنت مع فشل حملته العسكرية لاستعادة مصر من يد الإنكليز وتزايد الكلام عن نية الحلفاء القيام بإنزال عسكري في الساحل السوري، تمهيداً لسلخ المنطقة عن الدولة العثمانية ووضعها تحت حماية فرنسية. أمر أجهزته الأمنية بترصد الزعماء العرب واعتقال كل من يدور حوله أدنى شكوك، وكانت بداية الاعتقالات مع المحامي اللبناني عبد الكريم خليل، رئيس المنتدى الأدبي. جاء اعتقاله بوشاية من مفتي الجيش الرابع الشيخ أسعد الشقيري، الذي قال لجمال باشا إن عبد الكريم خليل كان يُحضر لعصيان ضد الدولة في صور وصيدا. كما قيل إنه كان المسؤول أيضاً عن مضبطة باسم المفكرين العرب، تطالب بتدخل أجني لحماية المعارضين ووضع الولايات العربية تحت حماية فرنسية.
أعتقل عبد الكريم خليل وأشرف جمال باشا على التحقيق معه بنفسه. صدر بحقه قراراً بالإعدام شنقاً في ساحة البرج في بيروت يوم 21 آب 1921، مع عبد القادر الخرسا والشيخ مسلّم عابدين ونايف تللو (جميعهم من دمشق)، نور الدين الحاج زين القاضي ومحمود نجا العجم ومحمد ومحمود المحمصاني (بيروت)، وصالح حيدر (بعلبك)، وسليم عبد الهادي (نابلس)، ومحمد عليّ الأرمنازي (حماة). كما حُكم بالإعدام يومها على حافظ السعيد، مندوب يافا في مجلس المبعوثان، وعلى الشيخ سعيد الكرمي، مفتي قضاء طولكرم، ولكنّ الحكم خفف إلى المؤبد بسبب كبر سنهما (ومات الأول تحت في سجون جمال باشا).

إعدامات 6 أيار 1916
في خريف العام 1915 تم اعتقال مجموعة جديدة من السياسيين والمفكرين العرب، بتهمة التخابر مع دول أجنبية لقلب نظام الحكم العثماني في سورية. ضمّت هذه القائمة نواباً معروفين في مجلس المبعوثان مع محامين وضباط، إضافة لرئيس مؤتمر باريس الشيخ عبد الحميد الزهراوي. وكان من الغريب إعدام الزهراوي دون محاكمة لأنه كان عضواً في مجلس الأعيان ولم يكن تجوز محاكمته إلا بأمر من السلطان نفسه.
ضُربت أيديهم جميعاً بالحديد وسيقوا مهانين للمثول أمام الديوان الحربي في مدينة عاليه الذي شكّله جمال باشا برئاسة الضابط العثماني شكري بك. جاء في قرار الادعاء أن أسماءهم وردت في وثائق القنصلية الفرنسية في بيروت، وأنهم تقاضوا أموالاً من الحكومة الفرنسية. وكان جمال باشا قبل تنفيذ الاعتقالات قد أمر بمداهمة جميع القنصليات الأجنبية التابعة للدول المعادية للسلطنة العثمانية، وقال إنه حصل على وثائق تُدين النواب العرب، مودعة داخل القنصلية الأميركية من قبل القنصل الفرنسي جورج بيكو.
بعض المعتقلين يومها لم يطالهم قرار الإعدام، مثل الدكتور أحمد قدري، أحد مؤسسي الجمعية العربية الفتاة ومعتمدها بدمشق شكري القوتلي. كما استثني من الإعدام كل من النائب المسيحي السابق في مجلس المبعوثان فارس الخوري، المعتقل في دمشق، والضباط عبد الحميد باشا القلطقجي وشكري باشا الأيوبي. وكان بعض المطلوبين من قبل جمال باشا جوا من الموت بحكم وجودهم خارج البلاد، مثل جميل مردم بك، أحد مؤسسي العربية الفتاة.
جاء فؤاد بك، رئيس أركان جمال باشا، إلى مكتبه الكائن في فندق فكتوريا وأخبره أن المحكمة قد انتهت، وأن رئيس الديوان الحربي شكري بك قد سطر أحكاماً بالإعدام بحق ثلاثة من الموقوفين فقط، أدينوا بالخيانة العظمى. أمّا بقية الموقوفين فقد تراوحت أحكامهم بين النفي والسجن المؤبد. رفض جمال باشا هذه النتائج وأوصى بضرورة إعدامهم جميعاً، فتضرع شكري بك وطلب منه إظهار العطف قائلاً: “أرجوك يا باشا…فكّر في التاريخ.” رفض جمال باشا النصيحة، ومسك بقلمه وكتب حذاء كل اسم: “إعدام…إعدام…إعدام.” بناء عليه، رُفعت المشانق في الساحات العامة، وعلّق عليها 21 شخصية وطنية سورية، نقلوا مخفورين من عاليه إلى بيروت بالعربات وإلى دمشق بالقطار. وكانت حصيلة الإعدامات على الشكل التالي:
شهداء دمشق في 6 أيار 1916:
الشيخ عبد الحميد الزهراوي (عضو مجلس الأعيان)
شفيق مؤيد العظم (عضو مجلس المبعوثان سابق)
رشدي الشمعة (عضو مجلس المبعوثان سابق)
شكري العسلي (عضو مجلس المبعوثان سابق)
الشاعر رفيق سلّوم (نائب رئيس المنتدى الأدبي)
المحامي عبد الوهاب الإنكليزي
شهداء بيروت في 6 أيار 1916
الأمير عارف الشهابي (أحد مؤسسي جمعية النهضة العربية)
الشاعر عمر حمد
العقيد أمين لطفي الحافظ من دمشق (أحد مؤسسي جمعية العهد)
العقيد سليم الجزائري من دمشق
سيف الدين الخطيب من دمشق (أحد مؤسسي المنتدى الأدبي)
محمود جلال البخاري من دمشق (أحد مؤسسي المنتدى الأدبي)
عبد الغني العريسي (صاحب جريدة المُفيد)
سعيد عقل (رئيس تحرير جريدة لسان العرب)
جرجي حداد (رئيس تحرير جريدة العصر الجديد)
الدكتور علي النشاشيبي من القدس (أحد مؤسسي الجمعية القحطانية)
محمد الشنطي من يافا
توفيق البساط من صيدا
الشيخ أحمد طبارة (إمام جامع النوفرة في بيروت ورئيس تحرير جريدة الاتحاد العثماني)
الصحفي بترو باولي، من التابعية اليونانية (مراسل مجلّة العروس وخطيب مؤسستها ماري عجمي)
قوائم الإعدام لم تُنشر في الصحف إلّا بعد تنفيذ الإعدامات صباح يوم 6 أيار، وفضّل جمال باشا مغادرة دمشق في هذا اليوم لكي يقضى يومه في إجارة ربيعية في بساتين الغوطة. أرهبت هذه الحادثة المجتمع السوري برمته وخلقت جواً من الإرهاب والذعر بين صفوف المثقفين العرب، الذين لقّبوا جمال باشا بالسفّاح من يومها. لم يكتفِ جمال باشا عند هذا الحد، بل أمر بنفي قرابة ثلاثمئة عائلة سورية، من رجال ونساء وأطفال، لا علاقة لهم بحادثة القنصلية الفرنسية. تُهمتهم الوحيدة كانت الجاه والنفوذ الذي كانوا يتمتعون به في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، مثل آل العابد. صادر جمال باشا أملاكهم وأراضيهم الزراعية وحاول استبدالهم بمواطنين أتراك، بهدف تغيير الواقع الديموغرافي في سورية.
زيّنو المرجة
ويعتقد الكثير من المؤرخين أن إعدامات 6 أيار 1916 ساهمت في إطلاق الثورة العربية الكبرى في 10 حزيران 1916، بقيادة أمير مكة الشريف حسين بن علي. كما أطلق أهالي دمشق أهزوجة “زيّنو المرجة” رداً على هذه الإعدامات، التي أصبحت من يومها من أشهر الأغاني الوطنية في سورية.
لا نعرف اسم ملحّن هذه الأغنية، ولا من غناها أولاً أو من وضع كلماتها. كما أننا لا نعرف إن كانت هذه الرواية حقيقة أم خيال. وهناك كم يقول إن هذه الأغنية لم تطلق في 6 أيار 1916 بل بعدها بعشر سنوات، يوم إعدام المجاهد أحمد مريود وعرض جثمانه في ساحة المرجة سنة 1926. كان ذلك في زمن الثورة السورية الكبرى، يوم قتل مريود وهو يحارب الفرنسيين في قريته في الجولان. خرج الدمشقيون من بيوتهم لتحية الشهيد، ورشّوا أرض المرجة بماء الزهر، بعد وضع أزهار عند أقدام الشهيد مريود وهم يغنّون “زيّنو المرجة.”
النسخة المتداولة اليوم من الأغنية هي من تأليف الفنان دريد لحام، الذي أعاد إحياءها في سبعينيات القرن العشرين، ثم جاء الملحن اللبناني منصور الرحباني وطورها مجدداً في مسرحية صيف 840، وغنى فيها المطرب اللبناني غسان صليبا أغنية “زيّنوا الساحة.”
عيد الشهداء في عهد الملك فيصل
وبعد سقوط الحكم العثماني ودخول القوات العربية دمشق في 3 تشرين الأول 1918، كانت أول خطوة قام بها حاكم سورية الجديد الأمير فيصل بن الحسين الوقوف في ساحة المرجة لقراءة سورة الفاتحة على أرواح شهداء 6 أيار، وإعلان هذا اليوم عيداً وطنياً، تخليداً لأرواح من سقطوا على يد جمال باشا سنة 1916. وقد بقي هذا العيد قائماً في سورية ولبنان حتى اليوم على الرغم من تقلب الأنظمة والحكام منذ سنة 1918. وفي سنة 1988، مُثّلت الإعدامات في المسلسل السوري أخوة التراب، حيث أدى الفنان فائز أبو دان دور جمال باشا.