محمد كرد علي (1876 – 2 نيسان 1953)، كانت ومؤرخ وصحفي سوري من دمشق، أسس مجلّة المقتبس في القاهرة قبل تحويلها إلى جريدة يومية ونقلها إلى دمشق سنة 1909. هو الرئيس المؤسس لمجمع اللغة العربية بدمشق منذ سنة 1919 وحتى وفاته عام 1953، وقد تولّي حقيبة المعارف مرتين، كانت الأولى في مطلع عهد الانتداب الفرنسي سنة 1920 والثانية في عهد الشّيخ تاج الدين الحسني (1928-1930). وله العديد من المؤلفات التاريخية عن دمشق، كان أبرزها كتاب خطط الشّام الصادر في منتصف العشرينيات.
البداية
ولِد محمد كرد علي في دمشق في أسرة كردية متواضعة أصلها من السليمانية وكان والده رجلاً بسيطاً، عمل خياطاً ثم تاجراً صغيراً وتمكن من شراء قطعة أرضٍ زراعية لأسرته في غوطة دمشق.(1)
دَرَس في مدرسة الحبّال بحيّ القيمرية، ثمّ في مدرسة الآباء العازاريين في باب توما وفي المدرسة الرشدية العسكرية.(2) تتلمذ علي يد شيوخ عصره، وكان يحضر حلقات الشّيخ طاهر الجزائري بدمشق الذي أثر به محمد كرد علي كثيراً.(3) بدأ حياته المهنية كاتباً في ديوان الشؤون الأجنبية قبل تعينه رئيساً لتحرير جريدة الشّام الأسبوعية الصادرة عن مجلس ولاية سورية سنة 1897.
جريدة المقتبس
عمِل كرد علي في جريدة الشّام طوال مدة ثلاثة سنوات، وكان ينشر الأبحاث التاريخية والأدبية في مجلّة المقتطف المصرية.(4) سافر بعدها إلى القاهرة سنة 1901 حيث لازم الشّيخ محمد عبده وأصبح رئيساً لتحرير جريدة الرائد المصري. وفي مصر أنشأ محمد كرد علي مجلّة المقتبس الشهرية وأصبح رئيساً لتحرير جريدة الظاهر اليومية حتى سنة 1908، عندما عاد إلى دمشق على أثر انقلاب جمعية الاتحاد والترقي على السلطان عبد الحميد الثاني. وعد الاتحاديون بإعادة العمل بالصحافة الحرة، واستثمر محمد كرد علي بذلك لإطلاق جريدة سياسية حملت اسم المقتبس والتي صدر العدد الأول منها بدمشق يوم 17 كانون الأول 1908.
ولكنه إقامته في سورية لم تستمر طويلاً بسبب المضايقات التي تعرض لها من قبل السلطات العثمانية فسافر إلى باريس للعمل على تحقيق الكتب الأدبية والتاريخية.(5) عاد بعدها إلى مصر حتى نهاية الحرب العالمية الأولى وسقوط الحكم العثماني في سورية نهاية شهر أيلول من العام 1918.
تأسيس مجمع اللغة العربية
بايع الأمير فيصل بن الحسين حاكماً عربياً على سورية وفي 12 شباط 1919، صدر قرار تعيينه رئيساً لديوان المعارف (قبل إنشاء وزارة المعارف السورية) للنظر في أمور المعارف والترجمة والنشر. كما كلّف بتأسيس دار للآثار والإشراف على المكتبات، ولا سيما المكتبة الظاهرية، وإنشاء المدارس والإشراف على مناهج التعليم والكتب المدرسية.(6)
نظراً لأعباء هذا المنصب اقترح محمد كرد علي على الأمير فيصل فصل بعض صلاحياته وإلحاقها بمجمعٍ للغة العربية، يكون الأول من نوعه في الوطن العربي للعناية باللغة العربية وحفظها وتطويرها. أقتنع الأمير فيصل بذلك وأصدر مرسوماً بإنشاء مجمع اللغة العربية بتاريخ 8 حزيران 1919. عقد الآباء المؤسسون اجتماعهم الأول في المدرسة العادلية بباب البريد، برئاسة محمد كرد علي الذي تم انتخابه رئيساً مدى الحياة للمجمع في يوم 30 تموز 1919.
محمد كرد علي يتوسط أعضاء مجمع اللغة العربية سنة 1919.
وفي سنة 1921 أطلق محمد كرد علي مجلّة مجمع اللغة العربية وكتب المقالة الافتتاحية لعددها الأول. وظلّ يكتب فيها بشكل منتظم حتى العدد 28، حيث بلغ عدد مقالاته البحثية 519 مقال في الفترة ما بين 1921-1946. كما ألقى 64 محاضرة في ردهة المجمع تنوعت مواضيعها ما بين العِلم في بلاد الشّام وتاريخ بني أمية وعهد إبراهيم باشا المصري في سورية. وفي سنة 1932 أُنشئ مجمع اللغة العربية في القاهرة واختير محمد كرد علي عضواً عاملاً فيه.(7)
وفي 15 شباط 1928 اختاره الشّيخ تاج الدين الحسني لحقيبة المعارف مجدداً، حيث قام بإنشاء مجلس التعليم لمراقبة المناهج وسير العملية التعليمية في المدارس السورية. ضم المجلس كلاً من وزير المعارف ورئيس مجمع اللغة العربية (مما أعطى محمد كرد علي صوتين من أصل 11 صوت فيه)، وقرر إلحاق جامعة دمشق بوزارة المعارف، لتفقد الاستقلالية التي كانت تتمتع بها منذ تأسيسها وتصبح تابعة للحكومة السورية.(8) وقد حافظ كرد علي على منصبه الحكومي حتى استقالة حكومة الشّيخ تاج في 27 تشرين الأول 1930.
في جامعة دمشق
ترشّح محمد كرد علي لرئاسة جامعة دمشق عند تأسيسها في صيف العام 1923 وكانت المنافسة بينه وبين عميد كلية الطب الدكتور رضا سعيد وعميد كلية الحقوق عبد القادر العظم. وقد وقع الاختيار على رضا سعيد ليكون أول رئيسٍ للجامعة وعُيّن محمد كرد علي، كنوع من الترضية، أستاذاً لمادة اللغة العربية في كلية الحقوق.(9)
بين الحواصل، جادة ممتدة من سوق النحاسين إلى العمارة البرانية، تعود تسميتها لتمركز حواصل الخشب فيها. والحواصل هي مستودعات الخشب المنشور والجذوع المشذبة لاستعمالات البناء والنجارة المختلفة. كانت تُعرف قديماً حتى منتصف العهد العثماني بمحلّة الأبّارين لوجود سوق الأبّارين في وسطها، والأبّارين هم من يصنعون الابر والمسلات والسنانير.
بين الحكرين، محلّة تقع شرقي العمارة البرانية، سمّيت بهذا لاسم لأن موقعها كان بين حكر السرايا في محلّة السادات وحكر النعنع خارج باب السلام. ظلّت تُعرف بهذا الاسم حتى منتصف القرن العشرين وكانت مليئة بالبساتين ذات الأشجار المثمرة، ولكنها أزيلت مع توسع الإعمار في مدينة دمشق مطلع الخمسينيات.
بين التربتين، جادة في الشاغور البراني، تخترق مقبرة الباب الصغير من الشمال إلى الجنوب، وتقع بين جادتي البدوي والسويقة. كان الامتداد الشرقي لها الواصل إلى مصلبة الشاغور يُدعى جادة الجرّاح، فعمم هذا الاسم على كامل الجادة. أمّا اسم بين التربتين فهو لأن الجادة تفصل مقبرة الباب الصغير إلى شطرين.
أديب الشيشكلي (1909 – 27 أيلول 1964)، ضابط سوري من حماة، قاد انقلابين عسكريين وكان رئيساً للوزراء ورئيساً للجمهورية من 11 تموز 1953 حتى 25 شباط 1954. شارك في تأسيس الجيش السوري وقاتل في حرب فلسطين الأولى سنة 1948. شهد عهده نهضة اقتصادية وصناعية كبيرة، وتقارباً مع كل من السعوديةومصر.
ساند ثورة رشيد علي الكيلاني ضد الإنكليز في العراق سنة 1941 ومن ثمّ أطلق ثورة محلية ضد الفرنسيين في حماة، وكان ذلك بعد انشقاقه عن جيش الشرق بسبب قصف الفرنسيين لمدينة دمشق يوم 29 أيار 1945. بالتعاون مع شقيقه صلاح الشيشكلي ومع صديقه أكرم الحوراني، تمكن الشيشكلي من احتلال قلعة حماة، وكان يخطط للزحف نحو دمشق لولا تدخل من الجيش البريطاني، أجبره على تسليم موقعه للفرنسيين. وكان أديب الشيشكلي وفي هذه المرحلة من حياته شديد التأثر بفكر الحزب السوري القومي الاجتماعي ومؤسسه أنطون سعادة، وقد انضم إلى هذا الحزب وظلّ يعمل في صفوفه حتى وصوله إلى رئاسة الجمهورية سنة 1953.
الشيشكلي في حرب فلسطين سنة 1948.
الشيشكلي في جيش الإنقاذ
عند جلاء الفرنسيين عن سورية في 17 نيسان 1946 التحق أديب الشيشكلي بصفوف الجيش السوري وشارك في الاستعراض العسكري الذي أقيم في دمشق تحت رعاية وبحضور رئيس الجمهورية شكري القوتلي.
وخلال حرب فلسطين، تعرف الشيشكلي على قائد الجيش حسني الزعيم وولدت صداقة متينة بينهما. كان الزعيم ناقماً على الطبقة السياسية الحاكمة في دمشق وقد حمّلها وزر فشل الجيش السوري في فلسطين وتراجعه بعد تحقيق تقدم في قرية سمج وعند جسر بنات يعقوب. وكان الشيشكلي أحد الموقعين على معروض من ضباط الجيش إلى رئيس الجمهورية، يشكون فيه من كثرة التهجم عليهم من بعض النواب، وقد طالبوا بإحالتهم على القضاء بتهمة إثارة الفتن والإساءة للمؤسسة العسكرية. وعندما لم يستجيب الرئيس القوتلي إلى مطالبهم، قرر حسني الزعيم ورفاقه القيام بانقلاب عسكري في يوم 29 آذار 1949.
مع الانقلاب الأول: 29 آذار 1949
شارك المقدم أديب الشيشكلي في الانقلاب الأول وقاد وجدة مشاة ومدرعات تم سحبها من الجبهة السورية الإسرائيلية للتقدم نحو مدينة دمشق. نجح الانقلاب وتمكن حسني الزعيم من اعتقال الرئيس القوتلي ورئيس الحكومة خالد العظم، ليفرض نفسه حاكماً عسكرياً على سورية ابتداء من 1 نيسان 1949.
كان الزعيم غاضباً من زعماء لبنان لرفضهم الاعتراف بشرعية انقلابه وحكمه في سورية. وكان سعادة يطمع لقلب نظام الحكم في لبنان، لتعارض استقلالية لبنان مع مشروع سورية الكبرى الذي كان ينادي به القوميين السوريين. ولكن حسني الزعيم نكث بوعده والأمان الذي كان قد أعطاه لأنطون سعادة، وقام بتسليمه إلى السلطات اللبنانية ليتم إعدامه في 8 تموز 1948.
غضب الشيشكلي من هذا التصرف وقال إن فيه خيانة للشرف العسكري الذي أقسم عليه حسني الزعيم يوم إعطائه الأمان لأنطون سعادة. ولشدة انتقاداته لحادثة تسليم سعادة، قام الزعيم بتسريحه من الجيش في 1 آب 1949، لينضم الشيشكلي فوراُ إلى صفوف الضباط الذين كانوا يخططون لانقلاب جديد بدمشق، ينهي حكم حسني الزعيم، وكان على رأسهم اللواء سامي الحناوي.
أديب الشيشكلي جالساً أمام اللواء سامي الحناوي بعد انقلاب 14 آب 1949.
فور نجاح الانقلاب الثاني تولّى سامي الحناوي رئاسة الأركان، خلفاً لحسني الزعيم، وأصدر قراراً بعودة الشيشكلي إلى الجيش مع تعيينه قائداً للواء الأول في بلدة قطنا القريبة من دمشق. ثم أعلن الحناوي عن عدم رغبته بتسلّم الحكم وتمّت دعوة رئيس الجمهورية الأسبق هاشم الأتاسي للخروج عن تقاعده والعودة إلى دمشق ليكون رئيساً للدولة. وقد طلب اللواء الحناوي من الرئيس الأتاسي الإشراف على انتخابات مؤتمر تأسيسي تكون مهمته صياغة دستور جديد للبلاد بدلاً من الدستور القديم الذي كان حسني الزعيم قد عطله قبل أشهر.
ولكن الأمور تسارعت وجاء الوصي على عرش العراق، الأمير عبد الإله بن علي، إلى دمشق للتفاوض على أسس الوحدة ودعا رئيس الحكومة ناظم القدسي إلى بغداد للتوقيع على ميثاقها. كانت هذه الوحدة مدعومة من قبل اللواء سامي الحناوي، فقرر الشيشكلي التخلص منه لكي ينهي أي دعم عسكري كان الهاشميون يعولون عليه لتحقيق آمالهم في سورية.
انقلاب الشيشكلي الأول: 19 كانون الأول 1949
في 19 كانون الأول 1949 قام الشيشكلي بانقلاب جديد، كان الثالث في أقل من عشرة أشهر، وأمر باعتقال سامي الحناوي الذي كان قد أعاده إلى الجيش، وزجه في سجن المزة. وقد جاء في البلاغ رقم واحد الذي أذيع باسم أديب الشيشكلي عبر إذاعة دمشق:
ثبت لدى الجيش أن رئيس الأركان العامة اللواء سامي الحناوي وعديله السيد أسعد طلس، وبعض ممتهني السياسة في البلاد، يتآمرون على سلامة الجيش وسلامة البلاد ونظامها الجمهوري مع بعض الجهات الأجنبية، وكان الجيش يعلم هذا الأمر منذ البداية وقد حاول ضباطه بشتى الطرق، بالامتناع تارة وبالتهديد تارة أخرى، أن يحولوا دون إتمام المؤامرة وأن يقنعوا المتآمرين بالرجوع عن غايتهم فلم يفلحوا، فاضطر الجيش حرصاً على سلامة البلاد وسلامته، وحفاظاً على النظام الجمهوري، أن يقصي هؤلاء المتآمرين، وليس للجيش أي غاية أخرى، وأنه يترك البلاد في يدي رجالها الشرعيين، ولا يتدخل إطلاقاً في القضايا السياسية، اللهم إلّا إذا كانت سلامة البلاد وكيانها يستدعيان ذلك.
وقد أعلن الشيشكلي أن الانقلاب لا يستهدف رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي، بل أنه مجرد حركة جراحية داخل الجيش، هدفها إجهاض مشروع الوحدة مع العراق ومن يقف خلفه من الضباط السوريين. جاء باللواء أنور بنود إلى رئيسة الأركان، وأبقى لنفسه منصب نائب رئيس الأركان الذي بدا وللوهلة الأولى وكأنه منصب متواضع، مع الاشتراط على الرئيس الأتاسي تعيين أحد أعوانه، وهو اللواء فوزي سلو، في حقيبة الدفاع في كل الحكومات المقبلة. وكان الهدف من هذا الشرط هو منع الوزراء المحسوبين على حزب الشعب من طرح فكرة الوحدة مجدداً من داخل السلطة التشريعية. قبِل الرئيس الأتاسي هذا الشرط وفي 24 كانون الأول 1949، سمّي فوزي سلو وزيراً للدفاع في حكومة الدكتور ناظم القدسي الجديدة.
اغتيال العقيد محمد ناصر
حكم الشيشكلي البلاد من خلف ستارة فوزي سلو، وقد اتهم في تموز 1950 باغتيال العقيد محمد ناصر، قائد القوى الجوية الذي كان يُعتبر من أقوى منافسيه داخل المؤسسة العسكرية. كان العقيد ناصر عضواً في مجلس العقداء الذين اجتمعوا على الإطاحة بسامي الحناوي وكان من ألمع ضباط الجيش وأكثرهم جرأة، وهو لم يُشارك بانقلاب الشيشكلي.
بعد اطلاق النار عليه وصل محمد ناصر إلى المستشفى العسكري حياً، وعند سؤاله من الجناة، أدخل أصبعه في فمه، حيث كان الدم يسيل منه بغزارة، وكتب على بنطاله اسم شخصين، كلاهما من أعوان الشيشكلي، وهما المقدم إبراهيم الحسينيوالملازم عبد الغني قنوت. ولكن محكمة عسكرية قررت براءتهم من تهمة القتل، لعدم وجود دلائل كافية ضدهم.
محاولة اغتيال الشيشكلي
تعرض أديب الشيشكلي لمحاولة اغتيال في 12 تشرين الأول 1950، وقف خلفها تنظيم سري يُدعى كتائب الفداء العربي. ضم التنظيم رجل مصري اسمه حسين توفيق، كان مدان بعملية اغتيال أمين عثمان، أحد وزراء الملك فاروق، وكان معه في كتائب الفداء كل من الدكتور جورج حبش (مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين)، وجهاد ضاحيوهاني الهندي من سورية. كانت خطتهم تهدف للتخلص من الشيشكلي، وتبين أنهم حاولوا اغتيال مراسل جريدة التايمز في سورية، وقاموا بزرع قنابل في المدارس اليهودية وفي مقر المفوضية الأمريكية بدمشق. أحيلوا إلى المحاكمة ولكن الشيشكلي تدخل بنفسه وزار حسين توفيق في سجنه ثم أمر بإطلاق سراحه والعفو عنه.
انقلاب الشيشكلي الثاني: 29 تشرين الثاني 1951
ظلّ الشيشكلي يحكم سورية من خلف الستار وحافظ على فوزي سلو في وزارة الدفاع في كل الحكومات المدنية التي تعاقبت على البلاد، إلى أن جاء الدكتور معروف الدواليبي رئيساً للحكومة في 28 تشرين الثاني 1951، وهو من أركان حزب الشعب. شكل الدواليبي حكومة ذهبت جميع حقائبها إلى حزب الشعب. وفي تحدي واضح للشيشكلي رفض تسمية فوزي سلو وزيراً، كما جرت العادة منذ نهاية عام 1949.
أديب الشيشكلي مع اللواء فوزي سلو سنة 1952.
طلب منه الشيشكلي الاستقالة أو العدول عن موقفه، وعندما لم يفعل، قام بانقلاب جديد في صباح يوم 29 تشرين الثاني 1951، أعتقل فيه الرئيس الدواليبي وكل أعضاء حكومته، ومعهم رئيس مجلس النوابناظم القدسي. حاول الرئيس الأتاسي تدارك الموقف وعندما لم يفلح، قدم استقالته إلى مجلس النواب بتاريخ 2 كانون الأول 1951.
على الفور أصدر الشيشكلي بلاغاً عسكرياً، استولى بموجبه على السلطة التنفيذية وعيّن بموجبه االلواء فوزي سلو رئيساً للدولة.
كما قام بحل مجلس النواب وأمر بتعطيل الدستور وفرض الأحكام العرفية، وشكل حكومة من الأمناء العامين في الوزارات، ليس فيها أي شخصية حزبية. وأخيراً قام بحل جميع الأحزاب في يوم 6 نيسان 1952، إلّا الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي ظلّ قريباً إلى قلب الشيشكلي وعقيدته السياسية.
السياسة الداخلية
كانت جمهورية الشيشكلي هي الأكثر صرامة وانضباط من أي عهد سبق في تاريخ سورية الحديث وكان يقول إن الدول مثل الجيوش الحديثة، لا تُحكم إلى بالانضباط والقوانين الصارمة.
في عهده فُرض على رجال الدين ارتداء اللباس الديني التقليدي، ومنعوا من الإفتاء وإلقاء الخطب دون أخذ موافقة الدولة. وضعت قوانين لمن يرغب بدخول سورية ورفعت سمة الدخول المجانية (الفيزا) التي كانت تُعطي للزائرين العرب في السابق، وطُلب من أي متقدم أن يُبرز شهادة مصرفية ودليل ملاءة مادية وذلك لمنع الفقراء والمتسولين من دخول الأراضي السورية.
ومنع الشيشكلي المؤسسات التعليمية الخاصة من تلقي المعونات المادية من الخارج، وطبق هذا الأمر على المدارس الأجنبية كافة وعلى جامعة دمشق.
وكان هذا التقارب السوري الأردني ناتج عن اغتيالالملك عبد الله الأول في القدس سنة 1951، الذي كان الشيشكلي يتهمه بالعمالة ويحمله وزر هزيمة الجيوش العربية في حرب فلسطين.
اقتصادياً اتبع الشيشكلي سياسة ليبرالية وفرض على مؤسسات الدولة عدم التدخل في الحياة الصناعية والتجارية، قائلاً إن دورهم يجب أن يختصر على جبي الضرائب فقط. وصل عدد الشركات المساهمة في عهده إلى سبعة وثلاثين شركة، مجموع رأس مالها سبعون مليون ليرة سورية، جميعها مستقلة استقلالاً تاماً عن الدولة.
مصرف سورية المركزي
وقد ألغى الشيشكلي امتياز مصرف سورية ولبنان، القائم منذ زمن الانتداب الفرنسي، الذي كان يُصدر النقد السوري ويُعتبر العميل الحكومي الوحيد بموجب امتياز اعطي له سنة 1924. الغي هذا الامتياز بأمر من الشيشكلي وصدر قرار تأسيس مصرف سورية المركزي وسط ساحة السبع بحرات بدمشق. وخلال الفترة الانتقالية ما بين المصرفين الفرنسي والسوري، شُكّلت مؤسسة حكومية لإصدار النقد ونقلت إليها جميع ودائع الحزينة السورية.
كما أصدر الشيشكلي قرار تنظيم عمل المصارف وأنشأ فريق اقتصادي مؤلف من وزير الاقتصاد منير دياب وحاكم المصرف المركزي الجديد الدكتور عزت طرابلسي ونائبه الدكتور عوض بركات. فرضوا على جميع البنوك ضرورة تعريف عملياتها المصرفية وتحديد الحد الأدنى لرأس مالها واحتياطها النقدي، مع شروط الانتساب إلى مجالس إدارتها والواجبات المترتبة عليها بتقديم البيانات والميزانيات لحماية ودائع الزبائن وحماية ملاءة المصارف وأموالها. كما أرسل الشيشكلي مستشاريه إلى فرنساوبلجيكاوسويسرا للاستفادة من التجربة المصرفية في تلك الدول وتعاقد مع نائب حاكم مصرف فرنسا المركزي ليكون مستشاراً لصرف سورية المركزي خلال مرحلة التأسيس.
ولكن مصرف سورية المركزي لم يفتح أبوابه إلّا بعد مغادرة الشيشكلي السلطة، وقد تم افتتاحه في عهد الرئيس شكري القوتلي سنة 1956. كما تم في عهده وضع أساسات معرض دمشق الدولي ولكنه لم يرى النور حتى شهر أيلول من العام 1954، أي بعد سبعة أشهر من سقوط حكم الشيشكلي في سورية.
حركة التحرير العربي
وفي 24 آب 1952 أشهر الشيشكلي حزبه الجديد، الذي أطلق عليه اسم حركة التحرير العربي وكان تدشينها في مهرجان خطابي كبير وسط دمشق في ساحة باتت تُعرف من يومها بساحة التحرير. خطب الشيشكلي بالجماهير المحتشدة وأعلن عن برنامجه السياسي المؤلف من 31 نقطة، منها السعي لتوحيد البلاد العربية وتحريرها من الهيمنة الأجنبية، مع ضمان حقوق الأقليات والمرأة. طالب بإعادة توزير أراضي الدولة على الفلاحين وبإنشاء مدارس زراعية وصناعية مع جعل التجنيد العسكري إجبارياً لكل مواطن بلغ الثامنة عشرة من عمره.
وفي 24 تشرين الأول 1952، افتتح فرح حركة التحرير العربي في حلب، معقل حزب الشعب، ودخل الشيشكلي على المدينة في استعراض كبير مؤلف من ألف سيارة ومركبة. وقد وصف الشيشكلي حزبه الجديد قائلاً:
كانت حركة التحرير العربي وليدة الانقلاب العسكري والضرورات الوطنية التي دعت إليه، فهي حركة انقلابية إصلاحية لا علاقة لها بأي حركة سابقة أو حزب قديم، ولكنها تفتح صدرها لجميع العناصر الطيبة دون تفريق أو تمييز. وهذا قلبي وهذه يدي، أمدهما للمواطنين الصادقين إذا أحبوا العمل لمصلحة سورية ومصلحة العروبة، وما على الرسول إلا البلاغ.
دعا أديب الشيشكلي إلى انتخابات نيابية سنة 1953، بعد تقليص عدد مقاعد مجلس النواب من 114 إلى 82 مقعداً. وكانت هذه الانتخابات هي الأولى في تاريخ سورية التي تُشارك فيها المرأة السورية، وذلك عبر المدرسة ثريا الحافظ، التي ترشحت عن مدينة دمشق ولكنها لم تنجح. أجريت الانتخابات، في ظلّ مقاطعة شاملة من جميع الأحزاب التقليدية، وفازت حركة التحرير العربي بستون مقعداً من أصل 82 مقعد، وحصل الحزب السوري القومي الاجتماعي على مقعد واحد نظراً لتحالفه من الشيشكلي. وقد انتُخب مأمون الكزبري، أمين عام حركة التحرير العربي، رئيساً لمجلس النواب.
الرئيس أديب الشيشكلي يلقي القسم الرئاسي في 11 تموز 1953.
الشيشكلي رئيساً للجمهورية
وبعدها قام مجلس النواب الجديد بترشيح أديب الشيشكلي إلى رئاسة الجمهورية (من دون أي منافس)، وانتُخب رئيساً في 11 تموز 1953 بعد فوزه على 90% من أصوات الناخبين، الذين قدر عددهم بمليوني مواطن سوري.
كما بدأ العمل بدستور جديد كان الرئيس الشيشكلي قد وضعه وصدّق عليه رئيس الدولة فوزي سلو في 16 حزيران 1953. وكان أبرز في جاء في دستور الشيشكلي فيما يتعلق بصلاحيات رئيس الجمهورية وطريقة انتخابه، فأصبح ينُتخب من الشعب مباشرة لا من مجلس النواب، كما جرت العادة منذ سنة 1932، وصار الوزراء مسؤولون أمامه فقط وليس أمام المجلس النيابي.
حكومة الشيشكلي
تولّى الرئيس الشيشكلي رئاسة الحكومة، إضافة لمهامه في رئاسة الجمهورية، وشكّل حكومته الأولى من المستقلين التكنوقراط التي جاءت على الشكل التالي:
خلت حومة الشيشكلي من جميع الأحزاب التقليدية التي اجتمعت على معارضتها تحت لواء الرئيس الأسبق هاشم الأتاسي، والذي نظّم جبهة معارضة لحكم الرئيس لشيشكلي ودعا إلى اجتماع كبير في داره بحمص في تموز 1953، حضره ممثلين عن الحزب الوطنيوحزب الشعبوحزب البعث.
تقرر في هذا الاجتماع عدم الاعتراف بشرعية حكم الشيشكلي وبضرورة محاربته بكل الطرق القانونية. ومن مقره في جبل الدروز، أيد الزعيم سلطان باشا الأطرش مقررات مؤتمر حمص وأصدر بياناً وصف فيه الشيشكلي بالديكتاتور الذي يجب على السوريين إسقاطه. نظراً لتقدمهم بالسن ومكانتهم الرفيعة في المجتمع السوري، لم يستطع الشيشكلي من اعتقال هاشم الأتاسي وسلطان الأطرش، ولكنه أمر باعتقال نجليهما عدنان الأتاسي (وهو من أعضاء حزب الشعب) ومنصور الأطرش (وهو من قادة حزب البعث).
كانت عبارة الشيشكلي الشهيرة: “إن أعدائي يشبهون الأفعى، رأسها في جبل الدروز (معقل سلطان الأطرش) ومعدتها في حمص (مركز هاشم الأتاسي) ، أما ذيلها هو في حلب (مقر حزب الشعب). إذا سحقت الذيل ماتت الأفعى.”(18) وقد بدأ الشيشكلي بضرب خصومه في جبل الدروز بعد اكتشاف سلاح مهرب قد وصل إلى قرية القريا قادماً من الأردنوالعراق، التي كانت تمول فصيل من المنشقين عن الجيش السوري، المعروفين بقوات سورية الحرة. وقد عثر على مناشير في السويداء تدعو إلى إسقاط الشيشكلي، مما جعل الرئيس يفرض الإقامة الجبرية على سلطان باشا الأطرش.
دعا الرئيس الشيشكلي قادة أركانه إلى اجتماع عاجل في قصر الضيافة في شارع أبي رمانة، تقرر فيه تنحي الشيشكلي ومغادرته البلاد إلى السعودية، مروراً بالأراضي اللبنانية. وقد اتخذ هذا القرار على الرغم من أن الشيشكلي كان ما يزال قادراً على سحق التمرد عن الطريق الدبابات والمدافع الثقيلة التي بقيت تحت إمرته في قطناوالقابون، وعبر قوى الهجانة التي كانت بقيادة شقيقه صلاح الشيشكلي.
قبل مغادرته دمشق أذاع الشيشكلي البيان التالي:
رغبة مني في تجنب سفك دماء الشعب الذي أحب، والجيش الذي ضحيت بكل غال من أجله، والأمة العربية التي حاولت خدمتها بإخلاص صادق، أتقدم باستقالتي من رئاسة الجمهورية إلى الشعب السوري الذي انتخبني والذي أولاني ثقته آملاً أن تخدم مبادرتي هذه قضية وطني، وأبتهل من الله أن يحفظه من كل سوء وأن يوحده ويزيده منعة وأن يسير به إلى قمة المجد.
توجه الشيشكلي إلى بيروت، ومن بعدها إلى السعودية، وتولّى رئاسة الجمهورية بالوكالة رئيس مجلس النواب مأمون الكزبري من 26 شباط وحتى 1 آذار 1954. عاد يومها هاشم الأتاسي من حمص لإكمال ما تبقى من ولايته الدستورية التي كانت قد قُطعت إثر انقلاب الشيشكلي الثاني سنة 1951. وقد اعتبر أن مرحلة الشيشكلي لم تمر على سورية وفور دخوله القصر الجمهوري قام الرئيس الأتاسي بإبطالدستور الشيشكلي وبرلمان الشيشكلي ومعظم القرارات التي صدرت في عهده.
الشيشكلي في سنوات المنفى.
المؤامرة العراقية
بعد سنتين من خروجه من سورية وقع الاختيار على أديب الشيشكلي للقيام بانقلاب عسكري ضد الرئيس شكري القوتلي الذي كان قد عاد إلى دمشق وتم انتخابه رئيساً للجمهورية سنة 1955.
اجتمع الشيشكلي بشقيقه بباريس في شهر نيسان من العام 1956 وطلب الاجتماع مع أحد الضباط العراقيين الكبار، ثم بالسفر إلى لبنان للقاء شخصيات سورية من حلقته الضيقة في الماضي القريب، يمكنه الاعتماد عليها في تنفيذ الانقلاب. وقد وصل الشيشكلي إلى بيروت في تموز 1956 متخفياً واجتمع مع ضباطه السابقين قبل أن يعدل عن فكرة الانقلاب خوفاً من عواقبها على أفراد أسرته في حماة، في حال أن الانقلاب لم ينجح.
بعد انسحاب الشيشكلي من المؤامرة العراقية قرر الأمير عبد الإله التعاون مع مجموعة من السياسيين للقيام بالانقلاب المطلوب، ولكن المؤامرة كشفت من قبل المخابرات السورية وتم اعتقال المشتركين بها من وزراء ونواب. مثلوا أمام القضاء العسكري في محكمة علنية على مدرج جامعة دمشق، غاب عنها الشيشكلي وحكم عليه فيها بالإعدام بتهمة الخيانة العظمى.
الوفاة
عاش أديب الشيشكلي سنواته الأخيرة في البرازيل، في منزل قريب من جسر نهر داس وفيه تم اغتياله على يد المواطن السوري نواف غزالة في الساعة الثالثة من عصر يوم 27 أيلول 1964. وقال غزالة أنه قتل الشيشكلي انتقاماً لأهله وشهداء الدروز الذين قتلوا خلال حملة الشيشكلي على جبل الدروز سنة 1953.
في نهايات القرن التاسع عشر، اشتد العمار في الصالحية، وكان يفصلها عن أحياء دمشق القديمة سلسلة من البساتين الخاوية، وكان يربط بينها طرق صغيرة ومتعرجة أنشأت في العهد العثماني.
وفي سنة 1903 فُتحت جادة رئيسية سمّيت بطريق الصالحية، تحوّلت مع مرور الوقت إلى مركز تجاري. مبتدأ جادة الصالحية كان من شمالي منطقة البحصة وكان امتداد الطريق النازل جنوباً مخترقاً الطرف الغربي من حيّ ساروجا.
أطلق على الطريق شمالي البحصة اسم “بوابة الصالحية،” وسمّيت الجادة بجادة الصالحية، علماً أنه لم يكن هناك بوابة في هذه المنطقة، وقد سمّيت بالبوابة رمزياً لكونها تؤدي إلى منطقة الصالحية الأصلية. ولما امتد العمار في هذه المنطقة في النصف الأول من القرن العشرين، وشيّد من حولها محلّة الشهداء وشارع العابد، صارت يُعرف بالصالحية بعد أن أسقط الناس كلمة “بوابة” من اسمها.
وصل التمثال إلى دمشق في النصف الأول من العام 1938 وشُكّلت لجنة لاستلامه ووضعه في وسط بوابة الصالحية، مؤلفة من وزير الدفاع شكري القوتلي ووزير الخارجية فائز الخوري ونائب دمشق فخري البارودي. ولكن بعض المشايخ عارضوا هذه الفكرة، معتبرين أن التماثيل مرفوضة رفضاً قاطعاً في دين الإسلام.
نزولاً عند رغبتهم، وضع التمثال في حديقة هامشية في مبنى الأركان القديم، لكون العظمة شخصية عسكرية، وبقيت القاعدة التي أنشأت من أجله خاوية وسط بوابة الصالحية.
وظلّت الساحة من دون تمثال حتى سنة 1966 عندما وضع في وسطها تمثال للفلاح العربي، رمز ثورة حزب البعث. أمّا تمثال يوسف العظمة فقد تم نقله إلى مبنى الأركان الجديد في ساحة الأمويين، حيث تعرض لأضرار خلال القصف الإسرائيلي على العاصمة السورية خلال حرب تشرين سنة 1973.
وفي سنة 2007، نُقل تمثال الفلاح العربي إلى جوار مبنى اتحاد الفلاحيين، وفي مكانه وضع تمثال جديد ليوسف العظمة، واقفاً بلباسه العسكري وسيفه في غمده، عكس التمثال الأصلي الذي ظهر فيه يوسف العظمة رافعاً السيف في وجه الفرنسيين. ومع وضع التمثال الجديد، قامت محافظة دمشق بإعادة تأهيل الساحة وتم رصفها بحجر البازلت الأسود.
البرامكة، حي سكني وتجاري في وسط مدينة دمشق الحديثة خارج السور، فيه يقع البناء الرئيسي لجامعة دمشق الذي افتُتح في عهد السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1913.
أما قبل ذلك فكانت البرامكة عبارة عن قرية في العصر الأموي، دُثرت ولم يعد لها وجود، وكان اسمها صنعاء دمشق. وتعود هذه التسمية إلى اليمنيون الذين نزلوا فيها وسمّوها باسم مدينتهم. وكان لها شأن كبير في زمن الفرع المرواني الأموي الذي ارتكز كثيراً على اليمانية. ثم غلب عليها اسم “تل الثعالب” الذي كان محادياً لها. وفي عصر المماليك، سُمّيت بمقبرة الصوفية. وفي البرامكة قبور عدد من مشايخ الإسلام أمثال ابن تيمية وابن كثير وابن صلاح الحنبلي وقطب الدين الخُضيري.
في زمن الانتداب الفرنسي، أصبحت البرامكة مربضاً للدبابات الفرنسية وفيها كان مركز التلغراف العسكري أيام الثورة السورية الكبرى. وفي سنة 1923 تم دمج معهد الطب ومعهد الحقوق في مؤسسة تعليمية واحدة أطلق عليها اسم الجامعة السورية، التي تحول اسمها إلى جامعة دمشق سنة 1958.
ولد عبد الحميد السراج في حماة وكان والده رجلاً بسيطاً يملك حانوتاً صغيراً لأغراض السمانة.(1) دَرَس في مدارس حماة وبعد نيله الشهادة الثانوية انتسب إلى مدرسة الدرك ومن ثمّ إلى كلية حمص الحربية، التي تخرج منها سنة 1947.
بعد سقوط حكم الشيشكلي وهروبه خارج البلاد في شباط 1954، حاولت القيادة السياسية تفريق كتلة الضباط المحسوبين على الشيشكلي وطردهم عن الجيش. ولكن السراج طلب مساعدة رئيس الحكومة صبري العسلي، قائلاً أن علاقته بالشيشكلي قد انتهت منذ خروجه عن سورية وسفره إلى لبنان، فاكتفى العسلي بإبعاده دون فصله عن الجيش، وصدر قرار بتعيينه ملحقاً عسكرياً في باريس منتصف العام 1954.
بعد تعيينه في المكتب الثاني دخل السراج على رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي وطلب منه إعلان الأحكام العرفية في البلاد لكي يتمكن من استكمال التحقيقات والمداهمات بحق القوميين السوريين. ولكن الرئيس الأتاسي رفض ذلك فرد السراج: “إن كنت يا فخامة الرئيس لا تعلن الأحكام العرفية فلن أستطيع ضمان حياة المعتقلين.(4)
السراج والعدوان الثلاثي
أبقى الرئيس الأتاسي على السراج في رئاسة المكتب الثاني مجبراً وقد ورثه الرئيس شكري القوتلي عند عودته إلى الحكم في أيلول 1955. لم تعجبه السياسة البوليسية التي اتبعها السراج في سورية، ولا تفرده بالقرارات العسكرية والأمنية. وعندما بدأ العدوان الثلاثي على مصر في تشرين الأول 1956، سافر الرئيس القوتلي إلى موسكو لحشد دعم دولي لصالح مصر ورئيسها، واستغل السراج غيابه لنسف أنابيب شركة نفط العراق (IPC) المارة عبر الأراضي السورية، دون عِلم الرئيس القوتلي. وقد أدى هذا التصرف إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين دمشق ولندن، ولكنه نجح في تقريب السراج كثيراً من الرئيس عبد الناصر.
ومن موقعه الجديد في وزارة الداخلية، ضرب السراج قواعد الحزب الشيوعي السوري في سورية وقام باعتقال جميع قياداته، باستثناء خالد بكداش الذي هرب إلى أوروبا الشرقية، تفادياً لبطش السراج ورجاله. وكان من بين ضحايا السراج القائد الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو، الذي مات في سجون المكتب الثاني بدمشق يوم 25 حزيران 1959 وقيل أنه ذوب بالأسيد بأمر من السراج. جمع السراج رجال المباحث في قلعة دمشق وأعلن الحرب على الشيوعيين السوريين، وعندما اعترض البعض على طريقة معاملتهم، لأن الكثير منهم كانوا من المثقفين والمتعلمين، ردّ غاضباً: “كيف تريدون أن نعاملهم؟ هل نضعهم على الرف ونضرب لهم على الدف؟” (7)
الرئيس عبد الناصر ووزير الداخلية عبد الحميد السراج.
وكان نفوذ السراج ينمو يوماً بعد يوم، وقد عُيّن رئيساً للمجلس التنفيذي في الإقليم السوري يوم 20 أيلول 1960، إضافة لصلاحياته الواسعة في وزارة الداخلية. ولكن جفاء حصل بينه وبين الرئيس عبد الناصر، كان سببه المشير عبد الحكيم عامر، صديق الرئيس وممثله الشخصي في الإقليم الشمالي. كان الخلاف بين السراج والمشير عامر لا يخفى على أحد، وهو صراع نفوذ وسلطة.
وفي تموز 1961 زادت الهوة بينهما بسبب معارضة السراج لسياسة تأميم المصانع التي فرضها الرئيس عبد الناصر بإيعاز من المشير عامر، وفضل الاكتفاء بتأميم المصارف وشركات التأميم. اقترح مشاركة الدولة بربع رأس مال المصانع وقال بوضوح مخاطباً رئيس الجمهورية: “سيدي، أخاف على الوحدة من نقمة تجار دمشق وحلب.”(8) لم تكن معارضة السراج لقرارات التأميم ناجمة عن أي فكر اقتصادي أو تنموي، بل كانت مبرراته ومخاوفه أمنية بالمطلق، وهو كان يعتقد بأن تأميم المصانع سيزيد من غليان الشارع ويؤلّب الناس على الوحدة وعلى رئيسها، وهذا فعلاً ما حصل.
تنصّل السراج من دعم التأميم، ولكنه لم يكن حاسماً في موقفه، فاستدعاه عبد الناصر في الصباح الباكر إلى داره في منشية البكري، حيث وُبِّخ توبيخاً شديداً على موقفه الرمادي، بحضور مدير المخابرات المصرية صلاح نصر.(9) وجّه إليه عبد الناصر كلاماً قاسياً، وقال: “إنت عايز إيه يا عبد الحميد؟ عاوز أعملك أي عشان ترضى؟” ثم أضاف قائلاً: “إنني لا أستطيع أن أفهم تصرفاتك وتصرف رجالك في دمشق.”(10)
حاول السراج تدارك الموقف بسرعة، ونزل بنفسه إلى مقر الشركة الخماسية، كبرى الشركات الصناعية السورية، للإشراف على تأميمها، ولكن هذا لم ينفع في ترميم الثقة بينه وبين الرئيس عبد الناصر.(11) اتسعت الهوة أكثر فأكثر وقام عبد الناصر بنقله عن دمشق وعيّنه نائباً لرئيس الجمهورية للشؤون الداخلية، وهو منصب شكلي لا سلطة حقيقية له، بعد أن كان السراج رجل سورية الأقوى على مدى سنوات.(12) في كتابه عن الانفصال، ما الذي جرى في سورية يقول محمد حسنين هيكل، كاتم أسرار عبد الناصر ورئيس تحرير جريدة الأهرام في حينها، إن الرئيس عبد الناصر قال للسراج: “قلت لكم إنكم وأنتم دعاة الوحدة وأنصارها، قد سببتم لي من المتاعب ما لم يسببه لي أعداء الوحدة وخصومها.”(13)
اعتقال السراج
قبل ستة أيام من وقوع انقلاب الانفصال في 28 أيلول 1961، اشتد الخلاف بين السراج والمشير عامر فذهب الرجلان إلى القاهرة لمقابلة الرئيس عبد الناصر على متن طائرة واحدة. اجتمع عبد الناصر مع السراج خمس مرات لمدة عشرين ساعة، وعاد بعدها السراج إلى دمشق منفرداً ومستقيلاً من جميع مناصبه، في إشارة للجميع إلى أن عبد الناصر قد حسم خياره وفضل الوقوف مع صديقه المصري على حساب أكبر مؤيديه بين السوريين.(14) فُتحت سجون السراج بعد إقالة رجالاته من مناصبهم، وأُطلق سراح كل من كان معتقلاً بأمر مباشر منه. كذلك ختمت كافة مكاتبه بالشمع الأحمر، الواقعة في منطقة الطلياني وفي حيّ الروضة بدمشق.(15)
في الساعات الأولى من انقلاب الانفصال، حاول الانقلابيون استمالة السراج إلى صفوفهم، لكونه الأعلم بأسرار عبد الناصر وكافة تفاصيل حكمه.(16) دُعي إلى مبنى الأركان العامة للاجتماع مع حيدر الكزبري، أحد قادة الانقلاب، ولكنه رفض التعاون معه وحافظ على ولائه التام لجمهورية الوحدة ورئيسها.(17) وبعد أيام، اعتُقل السراج من داخل منزل أحد أقرباء زوجته في حيّ المالكي، واقتيد إلى سجن المزة العسكري.
تهريب السراج إلى مصر
شُكّلت محكمة برئاسة المحقق عمر الربّاط، وقيل إن السراج سيمثل أمامها بصفة “مجرم حرب،” وإن القضاء السوري سيوجه إليه ما يقارب 400 تهمة ،كانت أقلها ستودي به إلى حبل المشنقة.(18)
غضب عبد الناصر من هذا التصرف وأمر بتهريب السراج من داخل السجن، بمساعدة رئيس الحرس منصور الرواشدة، الموالي لعبد الناصر، الذي أعطى السراج بذلة عسكرية للتنكر برتبة “رقيب”، ثم أخرجه من الزنزانة وقدم إليه بطانية لرميها أمامه ودوسها لإخفاء خطواته في الدرب الترابي، وصولاً إلى ساحة قرب السجن، حيث كانت سيارة بانتظاره لنقله سراً إلى لبنان، ليكون بضيافة وحماية الزعيم اللبناني كمال جنبلاط.(19)
نُقل بعدها إلى الإسكندرية عبر سفينة حضرت لهذه المهمة، تحت إشراف السفير المصري في بيروتعبد الحميد غالب.(20) كافأه عبد الناصر بمنصب فخري في مؤسسة التأمينات الاجتماعية، بعيداً عن كافة الأمور السياسية والعسكرية، وبقي السراج مقيماً في القاهرة حتى وفاته في أيلول 2013.
شهادة السراج
قبل رحيل السراج بنحو عشر سنوات، اجتمع السراج مع الطبيب والباحث الفلسطيني كمال خلف الطويل، الخبير بالمرحلة الناصرية، الذي سأله: “حقاً، لِمَ أنت معتصم بالصمت بكل هذا الإصرار؟ هل هناك ما يدين أو يشين من يهمك أمره؟”
ابتسم السراج لما اعتبره تخابثاً، ثم عبس وردّ: “لأجله وحده لن أتكلم”، وأشار بسبابته إلى صورة على الحائط لجمال عبد الناصر بكامل قامته. وأضاف قائلاً: “هو أشرف الرجال وأطهر الرجال ولن يقيض الله للأمة أحداً مثله إلى أجل طويل. لكن مأساته أنه حمل على كتفيه من لا يستحق ولا يقدِر، فأوصله وأوصلنا والأمة معه إلى هاوية بدأت بالانفصال ومرّت باليمن ووصلت إلى الهزيمة (عام 1967). إنه عبد الحكيم عامر. كم نصحته وبتكرار: انتبه يا ريّس، لن يخرب الرجل بيت الإقليم الشمالي فقط، بل والجنوبي بعده، والوحدة برمتها والجيش بأسره.”(21)
سرّ السراج للدكتور الطويل: “زارني (المشير) في منزلي بعد إعلان الوحدة ببرهة، وبصحبته العميد عبد المحسن أبو النور، المعيَّن رئيساً لأركان الجيش الأول، وإثر ما غادرا اكتشفت مظروفاً على الكنبة التي جلس عليها عامر يحتوي على 5000 جنيه، فسارعت بالاتصال بعبد المحسن على اللاسلكي، وطلبت منه العودة للتو، وعندما وصل قلت له: “أبلغ المشير ألّا يعود إلى مسلك كهذا معي، فلست ممن يمكن شراء ولائهم”. فردّ الضابط المصري: “هوّ المشير لاحظ أن سجاد المنزل لا يليق بوزير داخلية، فارتأى أن يسهم في إبداله بلائقٍ، وهو العليم بضيق ذات يدك، فأخذ المبادرة بخفر ونية حسنة.”(22)
يقول الدكتور الطويل: “والحق أن السراج، في مواجهته مع عامر، لم ينحنِ ولم يتراجع، وواجه عبد الناصر بشجاعة المحب، محذراً إياه – بثقة العارف – من أن كارثة تنتظر الإقليمين ـ لا الشـمالي منهما فقط ـ إن تُرك عبد الحكيم على غاربه… وكأني به يرى الانفصال – وهو على مسافة أيام- وهزيمة 67، وسوء إدارة حرب اليمن، وأمراض البيروقراطية العسكرية داخل جسم النظام والدولة.”(23)
الوفاة
غاب السراج عن أي منصب سياسي من بعدها ورفض جميع الدعوات لإجراء إي لقاء صحفي أو تلفزيوني. في سنة 2005 توسط وزير الدفاع مصطفى طلاس للسراج لكي يعود إلى سورية ولكنه رفض ذلك على الرغم من عدم معارضة الرئيس حافظ الأسد. توفي عبد الحميد السراج في القاهرة صامتاً عن عمر ناهز 88 عاماً في 23 أيلول 2013 وأجريت له جنازة رسمية بصفته نائباً سابقاً للرئيس جمال عبد الناصر بأمر من الرئيس عبد الفتاح السيسي.
ذكرى السراج
وفي 1991 صدر كتاب عن عبد الحميد السراج في لندن، حمل عنوان السلطان الأحمر، وضعه عديله الصحفي السوري غسان زكريا. وبعدها بخمس سنوات، ظهرت شخصية عبد الحميد السراج على شاشة التلفزيون في الجزء الثاني من مسلسل حمام القيشاني، ولعب دوره الفنان محمد آل رشي.