محمد بن عبد الرزاق كرد عليّ (1876 – 2 نيسان 1953)، كانت ومؤرخ وصحفي وناشر سوري من دمشق، أسس مجلّة المقتبس الشهيرة في القاهرة قبل نقلها إلى دمشق وتحويلها إلى جريدة يومية سنة 1909، هو الرئيس المؤسس لمجمع اللغة العربية بدمشق منذ سنة 1919 وحتى وفاته عام 1953. تولّي حقيبة المعارف في زمن الانتداب الفرنسي وكان مرشحاً لرئاسة جامعة دمشق عند تأسيسها سنة 1923، وله الكثير من الكتب والأبحاث التاريخية عن تاريخ دمشق، من أبرزها خطط الشّام الموسوعي الصادر في منتصف العشرينيات.
البداية
ولِد محمد كرد عليّ في دمشق وهو سليل أسرة كردية متواضعة يعود أصلها إلى السليمانية. وكان والده رجلاً بسيطاً، عمل خياطاً ثم تاجراً صغيراً وتمكن من شراء قطعة أرضٍ زراعية لأسرته في غوطة دمشق. دَرَس كرد عليّ في مدرسة الحبّال بحيّ القيمرية وفي مدرسة الآباء العازاريين في منطقة باب توما ثمّ في المدرسة الرشدية العسكرية. تتلمذ علي يد شيوخ عصره من أمثال الشيخ سليم البُخاريوالشّيخ طاهر الجزائري، وبدأ حياته المهنية كاتباً في ديوان الشؤون الأجنبية قبل تعينه رئيساً لتحرير جريدة الشّام الأسبوعية الصادرة عن مجلس ولاية سورية سنة 1897.
محمد كرد علي في شبابه
جريدة المقتبس
عمل في جريدة الشّام طيلة ثلاثة سنوات، وكان ينشر الأبحاث التاريخية والأدبية في مجلّة المقتطف المصرية. سافر إلى القاهرة سنة 1901 ولازم الشّيخ محمد عبده وحضر مجالسه، وعُيّن رئيساً لتحرير جريدة “الرائد” المصري. وفي مصر أنشأ محمد كرد عليّ مجلّة المقتبس الشهرية وأصبح رئيساً لتحرير جريدة “الظاهر” اليومية ومديراً لجريدة المؤيد حتى سنة 1908.
عندما عاد إلى دمشق على إثر انقلاب جمعية الاتحاد والترقي على السلطان عبد الحميد الثاني بعدما وعد الاتحاديون بإعادة العمل بالصحافة الحرة في البلاد. استثمر كرد عليّ بهذا الوعد وأطلاق جريدة المقتبس في 17 كانون الأول 1908 مع شقيقه أحمد كرد عليّ. ولكن عمله الصحفي توقف بسبب المضايقات التي تعرض لها من قبل السلطات العثمانية بعد التضيق على الصحافة المستقلة، فسافر إلى باريس وعاش فيها ينقّب عن أمهات الكتب التاريخية والاجتماعية والأدبية، والتقى بعض ساستها ومفكريها. زار إيطالياوسويسراوالمجر، وقد كتب عن هذه الرحلة 35 مقالة نُشرت في كتاب غرائب الغرب الصادر سنة 1901.
تأسيس مجمع اللغة العربية
عاد إلى دمشق عشية انسحاب القوات العثمانية سنة 1918 وبايع الأمير فيصل بن الحسين حاكماً عربياً على سورية. وفي 12 شباط 1919، صدر مرسوم تعيينه رئيساً لديوان المعارف للنظر في أمور الترجمة والنشر، وكلّف بتأسيس دار للآثار والإشراف على المكتبات الدمشقية، ولا سيما المكتبة الظاهرية. نظراً لأعباء هذا المنصب الحساسة اقترح على الأمير فيصل فصل بعض صلاحيات ديوان المعارف وإلحاقها بمجمعٍ مخصص للغة العربية، هدفه العناية باللغة وحفظها وتطويرها. صدر مرسوم مجمع اللغة العربية وفي جلسته الأولى في المكتبة العادلية في منطقة باب البريد يوم 30 تموز 1919 انتخب محمد كرد عليّ أول رئيساً له.
محمد كرد علي يتوسط أعضاء مجمع اللغة العربية سنة 1919.
وفي سنة 1921 أصدر كرد عليّ مجلّة مجمع اللغة العربية وكتب افتتاحية عددها الأول. وصلت عدد مشاركاته في مجلة المجمع في الفترة ما بين 1920-1953 إلى 519 مقالاً علمياً، ليكون أكثر الكتّاب نشراً في المجلّة. كما ألقى أربعة وستين محاضرة في ردهة المجمع، تنوعت مواضيعها في مختلف الشؤون التاريخية:
وبعد انتهاء العهد الفيصلي وفرض الانتداب الفرنسي على سورية، سمّي محمد كرد علي وزيراً للمعارف في حكومة جميل الألشي الأولى يوم 6 أيلول 1920، والتي تم في عهدها تقسيم سورية إلى دويلات. وفي حكومة حقي العظم الأولى نهاية العام 1920، جدد له في وزارة المعارف ولكنّه استقال في 10 آذار 1922 لعدم قدرته على تحمل أعباء الوزارة والمجمع معاً. اختاره الشّيخ تاج الدين الحسني ليكون وزيراً للمعارف في حكومته الأولى سنة 1928، حيث أنشأ مجلس التعليم لمراقبة المناهج وسير العملية التعليمية في المدارس السورية. قرر هذا المجلس إلحاق جامعة دمشقبوزارة المعارف السورية، لتفقد الاستقلالية التي كانت تتمتع بها منذ تأسيسها وتصبح تابعة للحكومة السورية من يومها.
مدرساً في جامعة دمشق
ترشّح محمد كرد عليّ لرئاسة جامعة دمشق عند تأسيسها سنة 1923 وكانت المنافسة بينه وبين عميد كلية الطب الدكتور رضا سعيد وعميد كلية الحقوق عبد القادر العظم. وقع الاختيار على رضا سعيد ليكون أول رئيسٍ للجامعة وعُيّن كرد عليّ أستاذاً لمادة اللغة العربية في كلية الحقوق.
مؤلفاته
خلال مسيرته الطويلة وضع محمد كرد عليّ عدداً من الدراسات والأبحاث التاريخية والأدبية، كان أولها يتيمة الزمان في قبعة ليفمان” وهي رواية مترجمة صدرت في مصر سنة 1894. وقد تلاها:
توفي محمد كرد علي عن عمر ناهز 77 عاماً في 2 نيسان 1953 وسمّي شارع في كل من دمشق وحلب باسمه كما أُطلق اسم “محمد كرد عليّ” على مدرسة حكومية في منقطة القدم بريف دمشق تكريماً له وتقديراً لما قدمه من خدمات أدبية وعلمية. وفي مئويته الأولى سنة 1976 أصدرت الدولة السورية طابعاً يحمل رسم محمد كرد عليّ.
المناصب
رئيساً لمجمع اللغة العربية (30 تموز 1919 – 2 نيسان 1953)
بين الحواصل، جادة ممتدة من سوق النحاسين إلى العمارة البرانية، تعود تسميتها لتمركز حواصل الخشب فيها. والحواصل هي مستودعات الخشب المنشور والجذوع المشذبة لاستعمالات البناء والنجارة المختلفة. كانت تُعرف قديماً حتى منتصف العهد العثماني بمحلّة الأبّارين لوجود سوق الأبّارين في وسطها، والأبّارين هم من يصنعون الابر والمسلات والسنانير.
بين الحكرين، محلّة تقع شرقي العمارة البرّانية، سمّيت بهذا لاسم لأن موقعها كان بين حكر السرايا في محلّة الساداتوحكر النعنع خارج باب السلام. ظلّت تُعرف بهذا الاسم حتى منتصف القرن العشرين وكانت مليئة بالبساتين ذات الأشجار المثمرة، ولكنها أزيلت مع توسع الإعمار في مدينة دمشق مطلع الخمسينيات.
بين التربتين، جادة في الشاغور البراني، تخترق مقبرة الباب الصغير من الشمال إلى الجنوب، وتقع بين جادتي البدوي والسويقة. كان الامتداد الشرقي لها الواصل إلى مصلبة الشاغور يُدعى جادة الجرّاح، فعمم هذا الاسم على كامل الجادة. أمّا اسم بين التربتين فهو لأن الجادة تفصل مقبرة الباب الصغير إلى شطرين.
أديب بن حسن الشيشكلي (1909 – 27 أيلول 1964)، ضابط سوري من حماة وقائد انقلابين في مطلع عهد الاستقلال، كان الأول في شهر كانون الأول من العام 1949 والثاني في تشرين الثاني 1951. وفي 11 تموز 1953 انتُخب رئيساً للجمهورية وبقي يحكم سورية لغاية الإطاحة به واستقالته في 25 شباط 1954. يُعد أحد الآباء المؤسسين للجيش السوري، وقد شارك في حرب فلسطين، متطوعاً في جيش الإنقاذ ثم في الجيش السوري، وأسهم إسهاماً بارزاً في انقلاب حسني الزعيم يوم 29 آذار 1949 وانقلاب سامي الحناوي في 14 آب 1949. وقد شهد عهده نهضة اقتصادية وصناعية كبيرة، وتقارباً مع كل من السعوديةومصر. عاش سنواته الأخيرة في المنفى، وحاول المشاركة في انقلاب جديد سنة 1956 ولكنّه انسحب منه باكراً وحكم عليه بالإعدام بسببه. وقد اغتيل في البرازيل بعد عشر سنوات من مغادرته الحكم سنة 1964.
البداية
ولِد أديب الشيشكلي في حماة وهو سليل عائلة كبيرة من الملّاكين والآغوات. دَرَس في المدرسة الزراعية بمدينة السلمية وفي كلية حمص الحربية، وعند تخرجه عُيّن ضابطاً في جيش الشرق التابع لسلطة الانتداب الفرنسي في سورية. عرف بنزعته القومية وشدّة معارضته للفرنسيين، ما أثّر في ترفيعه وأدى إلى تعيينه في مناطق نائية، في ريف الرقة أولاً ثمّ في مدينة البوكمال.
الشيشكلي ضابطاً في جيش الشرق.
الانشقاق عن جيش الشرق
ساند ثورة رشيد علي الكيلاني ضد الإنكليز في العراق سنة 1941 وقاد ثورة مماثلة ضد الفرنسيين في حماة. وعند قصف دمشق في 29 أيار 1945 انشقّ الشيشكلي عن جيش الشرق واحتلّ قلعة حماة، بالتعاون مع شقيقه صلاح الشيشكلي وصديقه أكرم الحوراني. كانت نيتهم الزحف نحو مدينة دمشق لتحريرها من الفرنسيين، ولكن تدخلاً من الجيش البريطاني منعهم من ذلك وأجبرهم على تسليم مواقعهم. والجدير بالذكر أن الشيشكلي في هذه المرحلة من حياته كان شديد التأثر بفكر الحزب السوري القومي الاجتماعي ومؤسسه أنطون سعادة، وقد انضمّ إلى هذا الحزب وظلّ يعمل في صفوفه حتى وصوله إلى رئاسة الجمهورية سنة 1953.
الشيشكلي في جيش الإنقاذ
ومع بدء انسحاب القوات الفرنسية عن سورية انتسب الشيشكلي إلى الجيش السوري الوليد يوم تأسيسه في 1 آب 1945، وشارك في الاستعراض العسكري الذي أقيم بدمشق يوم عيد الجلاء الأول في 17 نيسان 1946.
الشيشكلي في حرب فلسطين سنة 1948.
وفي 1 كانون الأول 1947 تطوع في جيش الإنقاذ مع فوزي القاوقجي لمحاربة العصابات الصهيونية في فلسطين وعُيّن قائداً لفوج اليرموك الثاني. خدم في شرقي الجليل الأعلى، حيث حقق انتصارات ميدانية كبيرة أدت إلى منحه أرفع الأوسمة الحربية من قبل رئيس الجمهورية شكري القوتلي. كانت مرحلة حرب فلسطين حاسمة في مسيرة الشيشكلي العسكرية، فبعد المشاركة الطوعية في جيش الإنقاذ، عُيّن ضابطاً في القوات النظامية التي دخلت فلسطين بعد ساعات من إعلان ديفيد بن غوريون ولادة دولة إسرائيل يوم 14 أيار 1948. وقد تعرف يومها على قائد الجيش حسني الزعيم وتوطدت صداقة متينة بينهما كما وجمعهما هدف مشترك بالتخلص من الطبقة السياسية الحاكمة في سورية، الممثلة بالرئيس شكري القوتلي، وتحميلها مسؤولية الهزائم المتتالية في فلسطين.
وكان الشيشكلي أحد الموقعين على معروض خاص من ضباط الجيش إلى رئيس الجمهورية، يشكون فيه من كثرة التهجم عليهم من بعض النواب. طالب الضبّاط، وفي مقدمتهم حسني الزعيم، بإحالة النواب إلى القضاء بتهمة إثارة الفتن والإساءة إلى المؤسسة العسكرية. وعندما لم يستجب القوتلي إلى مطالبهم، قرر حسني الزعيم ورفاقه التحرك والقيام بانقلاب عسكري.
تسليم أنطون سعادة
شارك المقدم أديب الشيشكلي في انقلاب الزعيم بقيادة فوج مشاة ومدرعات نحو مدينة دمشق، سُحب من الجبهة السورية – الإسرائيلية ليلة 29 آذار 1949. وبعد نجاح الانقلاب واعتقال القوتلي، فرض حسني الزعيم نفسه حاكماً عسكرياً على سورية ثم رئيساً للجمهورية في 26 تموز 1949. وقد بقي الشيشكلي وفيّاً له لغاية تسليم أنطون سعادة إلى السلطات اللبنانية، ليُعدم في 8 تموز 1949. وكان سعادة قد جاء إلى دمشق بواسطة من أديب الشيشكلي، وحصل على لجوء سياسي من حسني الزعيم، الذي وعد بألا يسلمه إلى لبنان مهما كانت الظروف والضغوطات. ووعد الشيشكلي بمساعدة سعادة على إطلاق ثورة عسكرية في لبنان، تُطيح برئيس الجمهورية اللبنانية بشارة الخوري ورئيس وزرائه رياض الصلح، ولكنّ خيانة الزعيم لسعادة أنهت كل هذه المخططات. غضب الشيشكلي كثيراً من حادثة تسليم سعادة، وعندما كثرت انتقاداته للزعيم قام الأخير بتسريحه من الجيش في 1 آب 1949.
مع الانقلاب الثاني: 14 آب 1949
انضم الشيشكلي إلى صفوف الضباط المعارضين، وفي 14 آب 1949 شارك في الانقلاب العسكري الذي أطاح بحسني الزعيم وأودى بحياته. في ليلة الانقلاب وبعد إعدام الزعيم، قام الشيشكلي بأخذ قميصه الملطخ بالدم وقدمه إلى جوليت المير، أرملة أنطون سعادة الموجودة يومها في دير سيدة صيدنايا، قائلاً لها: “إليك بالدليل على انتقامنا من الغادر، لقد غسلنا الدم بالدم.”
أديب الشيشكلي جالساً أمام اللواء سامي الحناوي بعد انقلاب 14 آب 1949.
تولّى مهندس الانقلاب اللواء سامي الحناوي، رئاسة أركان الجيش وأعاد الشيشكلي إلى الخدمة العسكرية، مع تعيينه قائداً للواء الأول في بلدة قطنا القريبة من دمشق. من موقعه الجديد عارض الشيشكلي التقارب بين سورية والعراق ومحاولة توحيد البلدين تحت العرش الهاشمي التي وقف وراءها كل من سامي الحناوي ورئيس الدولة هاشم الأتاسي، بدعم من حزب الشعب المسيطر على السلطة التشريعية منذ سقوط حسني الزعيم. كان الشيشكلي ينظر إلى الأسرة الهاشمية الحاكمة في بغداد على أنها أداة في يد بريطانيا، ويرى أنها تريد نسف نظام سورية الجمهوري والإتيان بنظام حكم ملكي. وقد نُقل عنه مراراً قوله: “ستزول الجمهورية على جثتي.”
ومع اقتراب التوقيع على ميثاق الوحدة، قام الشيشكلي بتنفيذ انقلاب عسكري يوم 19 كانون الأول 1949 – هو الثالث بعد انقلاب الزعيم في آذار وانقلاب الحناوي في آب – وكان يهدف إلى حرمان هاشم الأتاسي وقادة حزب الشعب من الدعم العسكري الذي كان يوفره لهم سامي الحناوي. أمر الشيشكلي باعتقال الحناوي وتسريحه من الجيش بتهم التآمر على نظام سورية الجمهوري. وقد جاء في البلاغ العسكري رقم واحد الذي أذيع باسم أديب الشيشكلي عبر إذاعة دمشق:
ثبت لدى الجيش أن رئيس الأركان العامة اللواء سامي الحناوي وعديله السيد أسعد طلس، وبعض ممتهني السياسة في البلاد، يتآمرون على سلامة الجيش وسلامة البلاد ونظامها الجمهوري مع بعض الجهات الأجنبية، وكان الجيش يعلم هذا الأمر منذ البداية وقد حاول ضباطه بشتى الطرق، بالامتناع تارة وبالتهديد تارة أخرى، أن يحولوا دون إتمام المؤامرة وأن يقنعوا المتآمرين بالرجوع عن غايتهم فلم يفلحوا، فاضطر الجيش حرصاً على سلامة البلاد وسلامته، وحفاظاً على النظام الجمهوري، أن يقصي هؤلاء المتآمرين، وليس للجيش أي غاية أخرى، وأنه يترك البلاد في يدي رجالها الشرعيين، ولا يتدخل إطلاقاً في القضايا السياسية، اللهم إلّا إذا كانت سلامة البلاد وكيانها يستدعيان ذلك.
أعلن الشيشكلي أن انقلابه لا يستهدف السلطة المدنية المنتخبة والممثلة برئيس الجمهورية، بل إنه مجرد “حركة جراحية” داخل الجيش، هدفها إجهاض مشروع الوحدة والتخلص من سامي الحناوي. جاء باللواء أنور بنود إلى رئاسة الأركان، واكتفى بأن يكون نائباً له، فيما بدى للوهلة الأولى تواضعاً من الشيشكلي. ولكن اشترط على رئيس الجمهورية تعيين صديقه الوفي اللواء فوزي سلو في وزارة الدفاع، مع حق الاعتراض على أية عودة إلى مشروع الوحدة قد يحاول وزراء حزب الشعب طرحه داخل السلطة التشريعية. تفادياً لأي صدام مع المؤسسة العسكرية، قبِل هاشم الأتاسي بهذا الشرط وحاول التعايش مع أديب الشيشكلي ابتداء من شهر حزيران 1950، عند تسميته فوزي سلو وزيراً للدفاع في حكومة الدكتور ناظم القدسي.
العقيد أديب الشيشكلي مع اللواء فوزي سلو.
اغتيال العقيد محمد ناصر
بعدها بأسابيع اغتيل العقيد محمد ناصر، قائد القوى الجوية، يوم 31 تموز 1950. كان العقيد ناصر عضواً في مجلس العقداء الذي اجتمع على الإطاحة بسامي الحناوي، وهو من ألمع ضباط الجيش وأكثرهم جرأة ونفوذاً. وصل محمد ناصر إلى المستشفى العسكري حيّاً، وقبل مفارقة الحياة أدخل أصبعه في فمه، حيث كان الدم يسيل منه بغزارة، وكتب اسم شخصين، كليهما من أعوان الشيشكلي، وقال إنهما من أطلق عليه النار. أثارت هذه القصة عاصفة من الشائعات، ورأى مراقبون أن الشيشكلي أمر بتصفية محمد ناصر للحد من شعبيته في الجيش، لكونه أحد أهم منافسيه بين العسكريين، باعتبار أن الضابط المغدور كان قد رفض المشاركة في انقلاب الشيشكلي وجاهر في انتقاده له. ولكن المحكمة العسكرية التي شكلت لأجل جريمة مقتل محمد ناصر قررت تبرئة أعوان الشيشكلي، وهما عبد الغني قنوتوإبراهيم الحسيني، لعدم توفر أدلة كافية ضدهم.
محاولة اغتيال الشيشكلي
وفي 12 تشرين الأول 1950، تعرض الشيشكلي نفسه لمحاولة اغتيال، وقف خلفها تنظيم سري حمل اسم كتائب الفداء العربي، ضم مواطناً مصرياً مداناً بعملية اغتيال أمين عثمان، أحد وزراء الملك فاروق. وقد اشترك معه في محاولة اغتيال الشيشكلي كل من جهاد ضاحيوهاني الهندي، إضافة للدكتور جورج حبش. وتبين أنهم حاولوا أيضاً اغتيال مراسل جريدة التايمز في سورية، وزرعوا قنابل في مدارس يهودية وفي مقر المفوضية الأمريكية بدمشق. أحيلوا إلى المحاكمة وكان من المفترض إعدامهم جميعاً لولا تدخل مفاجئ من الشيشكلي، الذي زار المواطن المصري حسين توفيق في سجنه وتحدث معه مطولاً قبل أن يأمر بإطلاق سراحه والعفو عنه وعن رفاقه.
انقلاب الشيشكلي الثاي: 29 تشرين الثاني 1951
لم تؤثر حادثة اغتيال محمد ناصر على مسيرة الشيشكلي، وظلّ يحكم سورية من خلف ستارة فوزي سلو حتى 28 تشرين الثاني 1951، يوم تشكيل حكومة معروف الدواليبي التي رفضت الانصياع لشروط الشيشكلي وإسناد حقيبة الدفاع للواء سلو، كما فعل كل أسلافه من قبله. طلب الشيشكلي إلى الدواليبي الاستقالة أو العدول عن موقفه، وعندما لم يستجب، أمر الشيشكلي باعتقاله يوم 29 تشرين الثاني، مع معظم الوزراء المحسوبين على حزب الشعب.
حاول رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي تدارك الموقف، وعندما لم تنجح مساعيه مع الشيشكلي، قدّم استقالته إلى مجلس النواب يوم 2 كانون الأول 1951. ولكنّ الشيشكلي كان قد أمر بحلّ المجلس، وفور تسلمه استقالة الأتاسي، أصدر قراراً بتسمية فوزي سلو رئيساً للدولة والحكومة. وعطّل الدستور وفرض الأحكام العرفية، قبل حلّ جميع الأحزاب في 6 نيسان 1952. وقد استثني من هذا القرار حزب الشيشكلي القديم، الحزب السوري القومي الاجتماعي.
السياسة الداخلية
كانت جمهورية الشيشكلي هي الأكثر صرامة وانضباطاً في عهد الاستقلال، وكان يقول دوماً إن الدول مثل الجيوش الحديثة، لا تُحكم إلّا بالانضباط والقوانين الصارمة. في عهده فُرض على العلماء والمشايخ والأئمة ارتداء اللباس الديني التقليدي، ومنعوا من الإفتاء وإلقاء الخطب إلا بعد مراجعة السلطات الأمنية وأخذ موافقة مسبقة. وضعت قوانين لمن يرغب دخول سورية بقصد السياحة أو العمل، أُلغيت سمة الدخول المجانية (الفيزا) التي كانت تُعطى للزائرين العرب في السابق. وقد جاء في قرارات الشيشكلي أن على أي زائر أن يُبرز شهادة مصرفية ودليل ملاءة مادية، وذلك لمنع الفقراء والمتسولين من دخول الأراضي السورية. ومنع الشيشكلي المؤسسات التعليمية الخاصة من تلقي المعونات المادية من الخارج، وطبّق هذا الأمر على المدارس الأجنبية كافة وعلى جامعة دمشق.
اقتصادياً اتبع الشيشكلي سياسة ليبرالية وفرض على مؤسسات الدولة السوري عدم التدخل في الحياة الصناعية والتجارية، قائلاً إن دورها يجب أن يقتصر على جباية الضرائب فقط. وصل عدد الشركات المساهمة في عهد الشيشكلي إلى سبع وثلاثين شركة، كان مجموع رأس مالها سبعين مليون ليرة سورية، جميعها مستقلة استقلالاً تاماً عن الدولة.
وقد ألغى الشيشكلي امتياز مصرف سورية ولبنان القائم منذ زمن الانتداب الفرنسي، والذي كان يُصدر النقد السوري ويُعدّ العميل الحكومي الوحيد بموجب امتياز أعطي له منذ سنة 1924. وقد أصدر الشيشكلي عبر الرئيس فوزي سلو مرسوماً بتأسيس مصرف سورية المركزي، وفي أثناء تصفية أعمال مصرف سورية ولبنان شُكّلت مؤسسة حكومية لإصدار النقد، ونقلت إليها كل ودائع الخزينة السورية. وقد أنشأ الشيشكلي فريقاً اقتصادياً مؤلفاً من وزير الاقتصاد منير دياب وحاكم المصرف المركزي الدكتور عزت طرابلسي ونائبه الدكتور عوض بركات، فرضوا على جميع البنوك العاملة في سورية ضرورة تعريف عملياتها المصرفية وتحديد الحد الأدنى لرأس مالها واحتياطها النقدي، مع شروط الانتساب إلى مجالس إدارتها.
أديب الشيشكلي خطيباَ في مهرجان تأسيس حركة التحرير العربي سنة 1952.
حركة التحرير العربي
بعد حل جميع الأحزاب قام الشيشكلي بتأسيس تنظيم سياسي جديد يدين له بالولاء المطلق، عرف باسم حركة التحرير العربي . ولدت الحركة في مهرجان خطابي كبير وسط دمشق يوم 27 آب 1952، وكان تدشينها في ساحة باتت تُعرف من يومها باسم “ساحة التحرير،” نسبة لحركة التحرير العربي. خطب الشيشكلي أمام الجماهير المحتشدة في الساحة، معلناً برنامجه السياسي المؤلف من 31 نقطة، منها السعي لتوحيد البلاد العربية وتحريرها من الهيمنة الأجنبية، مع ضمان حقوق الأقليات والمرأة. طالب بإعادة توزيع أراضي الدولة على الفلاحين وإنشاء مدارس زراعية وصناعية، مع جعل التجنيد العسكري إجبارياً لكل مواطن بلغ الثامنة عشرة من عمره.
كانت حركة التحرير العربي عبارة عن خليط أيديولوجي بين القومية العربية ومبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي التي رافقت الشيشكلي منذ مرحلة الشباب. ومن أهم سماتها كان فتح الانتساب أمام النساء والسماح لهن بالعمل في السياسة والترشح لعضوية المجلس النيابي، عكس الأحزاب التقليدية التي كانت عضويتها محصورة بالذكور فقط. وفي 24 تشرين الأول 1952، افتُتح فرع حركة التحرير العربي في حلب، معقل حزب الشعب، ودخل الشيشكلي المدينة في استعراض جماهيري كبير مؤلف من ألف سيارة ومركبة. وفي خطابه، وصف حركته قائلاً:
كانت حركة التحرير العربي وليدة الانقلاب العسكري والضرورات الوطنية التي دعت إليه، فهي حركة انقلابية إصلاحية لا علاقة لها بأي حركة سابقة أو حزب قديم، ولكنها تفتح صدرها لجميع العناصر الطيبة دون تفريق أو تمييز. وهذا قلبي وهذه يدي، أمدهما للمواطنين الصادقين إذا أحبوا العمل لمصلحة سورية ومصلحة العروبة، وما على الرسول إلا البلاغ.
عُيّن الدكتور مأمون الكزبري أميناً عاماً للحركة واختار الشيشكلي لنفسه لقب “الرئيس المؤسس.”
الانتخابات النيابية
دعا أديب الشيشكلي إلى انتخابات نيابية سنة 1953، بعد تقليص عدد مقاعد البرلمان من 114 إلى 82 مقعداً. وكانت هذه الانتخابات هي الأولى في تاريخ سورية التي تُشارك فيها المرأة السورية، وذلك عبر المدرسة ثريا الحافظ، التي ترشحت عن مدينة دمشق ولكنها لم تنجح. أجريت الانتخابات في ظلّ مقاطعة شاملة من جميع الأحزاب التقليدية، وفازت حركة التحرير العربي بستين مقعداً، وحصل الحزب السوري القومي الاجتماعي على مقعد واحد نظراً لتحالفه مع الشيشكلي. وقد انتُخب مأمون الكزبري رئيساً لمجلس النواب.
الرئيس أديب الشيشكلي يلقي القسم الرئاسي في 11 تموز 1953.
الشيشكلي رئيساً للجمهورية
رشّح مجلس النوّاب الجديد الشيشكلي لرئاسة الجمهورية من دون أي منافس، وانتُخب رئيساً في 11 تموز 1953 بعد حصوله على 90% من أصوات الناخبين، الذين قدر عددهم بمليوني مواطن سوري. ومع بداية عهده المباشر، بدأ العمل بدستور جديد كان الشيشكلي قد وضعه وصدّق عليه رئيس الدولة فوزي سلو في 16 حزيران 1953. أبرز ما جاء في دستور الشيشكلي كان فيما يتعلق بصلاحيات رئيس الجمهورية وطريقة انتخابه، فأصبح الانتخاب مباشراً من الشعب لا من مجلس النواب كما جرت العادة منذ سنة 1932، وصار الوزراء مسؤولين أمامه فقط وليس أمام المجلس النيابي.
مؤتمر حمص
خلت حكومة الشيشكلي من جميع الأحزاب التقليدية التي أجمعت على مقاطعة العهد بقيادة هاشم الأتاسي. دعا الأتاسي إلى اجتماع كبير في داره بحمص في تموز 1953، حضره ممثلون عن الحزب الوطنيوحزب الشعبوحزب البعث، تقرر فيه عدم الاعتراف بشرعية حكم الشيشكلي وبضرورة محاربته بكل الطرق القانونية. ومن مقره في جبل الدروز، أيد الزعيم سلطان باشا الأطرش مقررات مؤتمر حمص وأصدر بياناً وصف فيه الشيشكلي بالديكتاتور الذي يجب على السوريين إسقاطه. نظراً لتقدّمهما في السن ومكانتهما الرفيعة في المجتمع السوري، لم يستطع الشيشكلي من اعتقال هاشم الأتاسي وسلطان الأطرش، ولكنّه أمر باعتقال نجليهما عدنان الأتاسي (وهو من أعضاء حزب الشعب) ومنصور الأطرش (وهو من قادة حزب البعث).
كانت عبارة الشيشكلي الشهيرة: “إن أعدائي يشبهون الأفعى، رأسها في جبل الدروز (معقل سلطان الأطرش) ومعدتها في حمص (معقل هاشم الأتاسي)، أما ذيلها فهو في حلب (مقر حزب الشعب). إذا سحقت الذيل ماتت الأفعى.” وقد بدأ الشيشكلي بضرب خصومه في جبل الدروز بعد اكتشاف سلاح في القريا قادماً من العراق. وكان العراق قد وضع نفسه في مواجهة الشيشكلي إقليمياً وقام بإنشاء فصيل من المنشقين عن الجيش السوري، المعروفين بقوات سورية الحرّة.
دعا الرئيس الشيشكلي قادة أركانه إلى اجتماع عاجل في قصر الضيافة في شارع أبي رمانة، تقرر فيه تنحي الرئيس ومغادرته البلاد إلى السعودية، تجنباً لسفك مزيد من الدماء. وقد اتُخذ هذا القرار على الرغم من أن الشيشكلي كان ما يزال قادراً على سحق التمرد عن طريق الدبابات والمدافع الثقيلة التي بقيت تحت إمرته في قطناوالقابون، وعبر قوى الهجانة التي كانت بقيادة شقيقه صلاح الشيشكلي. قبل مغادرته دمشق أذاع الشيشكلي البيان التالي:
رغبة مني في تجنب سفك دماء الشعب الذي أحب، والجيش الذي ضحيت بكل غال من أجله، والأمة العربية التي حاولت خدمتها بإخلاص صادق، أتقدم باستقالتي من رئاسة الجمهورية إلى الشعب السوري الذي انتخبني والذي أولاني ثقته آملاً أن تخدم مبادرتي هذه قضية وطني، وأبتهل من الله أن يحفظه من كل سوء وأن يوحده ويزيده منعة وأن يسير به إلى قمة المجد.
توجه الشيشكلي إلى بيروت، ومن بعدها إلى السعودية. وعلى الفور تولّى رئاسة الجمهورية بالوكالة رئيس مجلس النواب مأمون الكزبري من 26 شباط وحتى 1 آذار 1954. عاد بعدها هاشم الأتاسي لإكمال ما تبقى من ولايته الدستورية التي كانت قد قُطعت إثر انقلاب الشيشكلي الثاني سنة 1951. وقد عدّ الأتاسي أن مرحلة الشيشكلي لم تمر على سورية وفور دخوله القصر الجمهوري قام بإبطال دستور الشيشكلي وبرلمان الشيشكلي ومعظم القرارات التي صدرت في عهده وحملت توقيعه.
الشيشكلي في سنوات المنفى.
المؤامرة العراقية
بعد سنتين من خروجه من سورية وقع الاختيار على أديب الشيشكلي للقيام بانقلاب عسكري ضد شكري القوتلي الذي كان قد عاد إلى رئاسة الجمهورية سنة 1955. الانقلاب الجديد كان بتخطيط وتمويل من الوصي على عرش العراق الأمير عبد الإله، عدو الأمس بالنسبة للشيشكلي. تناسى الأمير عبد الإله ما حدث بينه وبين الشيشكلي في الماضي وتواصل به عبر شقيقه صلاح للقيام بانقلاب يُطيح برجال الدولة السورية المحسوبين على مصروالرئيس جمال عبد الناصر، ومنهم القوتلي ورئيس مجلس النواب أكرم الحورانيوعبد الحميد السراج، مدير المكتب الثاني (شعبة المخابرات العسكرية).
اجتمع الشيشكلي بشقيقه بباريس مع عدد من الضباط العراقيين في شهر نيسان من العام 1956، ثم سافر إلى لبنان للقاء شخصيات سورية كانت من حلقته الضيقة في الماضي القريب، يمكنه الاعتماد عليها في تنفيذ الانقلاب الجديد. وقد وصل الشيشكلي إلى بيروت في تموز 1956 متخفياً واجتمع مع ضباطه السابقين قبل أن يعدل عن فكرة الانقلاب خوفاً من عواقبها على أفراد أسرته في حماة، في حال عدم نجاح الانقلاب. وبعد انسحاب الشيشكلي من المؤامرة العراقية قرر الأمير عبد الإله التعاون مع مجموعة من السياسيين للقيام بالانقلاب المطلوب، ولكنّ المؤامرة كُشفت من قبل المخابرات السورية واعتُقل جميع المشتركين بها من وزراء ونواب. مثلوا أمام القضاء العسكري في محكمة علنية أقيمت على مدرج جامعة دمشق، غاب عنها الشيشكلي وحكم عليه فيها بالإعدام بتهمة الخيانة العظمى.
الوفاة
عاش أديب الشيشكلي سنواته الأخيرة في البرازيل، في منزل قريب من جسر نهر داس واغتيل على يد المواطن السوري نواف غزالة في الساعة الثالثة من عصر يوم 27 أيلول 1964. وقال غزالة إنه قتل الشيشكلي انتقاماً لأهله وشهداء الدروز الذين قتلوا في حملة الشيشكلي على جبل الدروز سنة 1953.
في نهايات القرن التاسع عشر، اشتد العمار في الصالحية، وكان يفصلها عن أحياء دمشق القديمة سلسلة من البساتين الخاوية، وكان يربط بينها طرق صغيرة ومتعرجة أنشأت في العهد العثماني.
وفي سنة 1903 فُتحت جادة رئيسية سمّيت بطريق الصالحية، تحوّلت مع مرور الوقت إلى مركز تجاري. مبتدأ جادة الصالحية كان من شمالي منطقة البحصة وكان امتداد الطريق النازل جنوباً مخترقاً الطرف الغربي من حيّ ساروجا.
أطلق على الطريق شمالي البحصة اسم “بوابة الصالحية،” وسمّيت الجادة بجادة الصالحية، علماً أنه لم يكن هناك بوابة في هذه المنطقة، وقد سمّيت بالبوابة رمزياً لكونها تؤدي إلى منطقة الصالحية الأصلية. ولما امتد العمار في هذه المنطقة في النصف الأول من القرن العشرين، وشيّد من حولها محلّة الشهداء وشارع العابد، صارت يُعرف بالصالحية بعد أن أسقط الناس كلمة “بوابة” من اسمها.
وصل التمثال إلى دمشق في النصف الأول من العام 1938 وشُكّلت لجنة لاستلامه ووضعه في وسط بوابة الصالحية، مؤلفة من وزير الدفاع شكري القوتلي ووزير الخارجية فائز الخوري ونائب دمشق فخري البارودي. ولكن بعض المشايخ عارضوا هذه الفكرة، معتبرين أن التماثيل مرفوضة رفضاً قاطعاً في دين الإسلام.
نزولاً عند رغبتهم، وضع التمثال في حديقة هامشية في مبنى الأركان القديم، لكون العظمة شخصية عسكرية، وبقيت القاعدة التي أنشأت من أجله خاوية وسط بوابة الصالحية.
وظلّت الساحة من دون تمثال حتى سنة 1966 عندما وضع في وسطها تمثال للفلاح العربي، رمز ثورة حزب البعث. أمّا تمثال يوسف العظمة فقد تم نقله إلى مبنى الأركان الجديد في ساحة الأمويين، حيث تعرض لأضرار خلال القصف الإسرائيلي على العاصمة السورية خلال حرب تشرين سنة 1973.
وفي سنة 2007، نُقل تمثال الفلاح العربي إلى جوار مبنى اتحاد الفلاحيين، وفي مكانه وضع تمثال جديد ليوسف العظمة، واقفاً بلباسه العسكري وسيفه في غمده، عكس التمثال الأصلي الذي ظهر فيه يوسف العظمة رافعاً السيف في وجه الفرنسيين. ومع وضع التمثال الجديد، قامت محافظة دمشق بإعادة تأهيل الساحة وتم رصفها بحجر البازلت الأسود.
البرامكة، حي سكني وتجاري في وسط مدينة دمشق الحديثة خارج السور، فيه يقع البناء الرئيسي لجامعة دمشق الذي افتُتح في عهد السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1913.
أما قبل ذلك فكانت البرامكة عبارة عن قرية في العصر الأموي، دُثرت ولم يعد لها وجود، وكان اسمها صنعاء دمشق. وتعود هذه التسمية إلى اليمنيون الذين نزلوا فيها وسمّوها باسم مدينتهم. وكان لها شأن كبير في زمن الفرع المرواني الأموي الذي ارتكز كثيراً على اليمانية. ثم غلب عليها اسم “تل الثعالب” الذي كان محادياً لها. وفي عصر المماليك، سُمّيت بمقبرة الصوفية. وفي البرامكة قبور عدد من مشايخ الإسلام أمثال ابن تيمية وابن كثير وابن صلاح الحنبلي وقطب الدين الخُضيري.
في زمن الانتداب الفرنسي، أصبحت البرامكة مربضاً للدبابات الفرنسية وفيها كان مركز التلغراف العسكري أيام الثورة السورية الكبرى. وفي سنة 1923 تم دمج معهد الطب ومعهد الحقوق في مؤسسة تعليمية واحدة أطلق عليها اسم الجامعة السورية، التي تحول اسمها إلى جامعة دمشق سنة 1958.
ولد عبد الحميد السراج في حماة وكان والده رجلاً بسيطاً يملك حانوتاً صغيراً لأغراض السمانة.(1) دَرَس في مدارس حماة وبعد نيله الشهادة الثانوية انتسب إلى مدرسة الدرك ومن ثمّ إلى كلية حمص الحربية، التي تخرج منها سنة 1947.
بعد سقوط حكم الشيشكلي وهروبه خارج البلاد في شباط 1954، حاولت القيادة السياسية تفريق كتلة الضباط المحسوبين على الشيشكلي وطردهم عن الجيش. ولكن السراج طلب مساعدة رئيس الحكومة صبري العسلي، قائلاً أن علاقته بالشيشكلي قد انتهت منذ خروجه عن سورية وسفره إلى لبنان، فاكتفى العسلي بإبعاده دون فصله عن الجيش، وصدر قرار بتعيينه ملحقاً عسكرياً في باريس منتصف العام 1954.
بعد تعيينه في المكتب الثاني دخل السراج على رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي وطلب منه إعلان الأحكام العرفية في البلاد لكي يتمكن من استكمال التحقيقات والمداهمات بحق القوميين السوريين. ولكن الرئيس الأتاسي رفض ذلك فرد السراج: “إن كنت يا فخامة الرئيس لا تعلن الأحكام العرفية فلن أستطيع ضمان حياة المعتقلين.(4)
السراج والعدوان الثلاثي
أبقى الرئيس الأتاسي على السراج في رئاسة المكتب الثاني مجبراً وقد ورثه الرئيس شكري القوتلي عند عودته إلى الحكم في أيلول 1955. لم تعجبه السياسة البوليسية التي اتبعها السراج في سورية، ولا تفرده بالقرارات العسكرية والأمنية. وعندما بدأ العدوان الثلاثي على مصر في تشرين الأول 1956، سافر الرئيس القوتلي إلى موسكو لحشد دعم دولي لصالح مصر ورئيسها، واستغل السراج غيابه لنسف أنابيب شركة نفط العراق (IPC) المارة عبر الأراضي السورية، دون عِلم الرئيس القوتلي. وقد أدى هذا التصرف إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين دمشق ولندن، ولكنه نجح في تقريب السراج كثيراً من الرئيس عبد الناصر.
ومن موقعه الجديد في وزارة الداخلية، ضرب السراج قواعد الحزب الشيوعي السوري في سورية وقام باعتقال جميع قياداته، باستثناء خالد بكداش الذي هرب إلى أوروبا الشرقية، تفادياً لبطش السراج ورجاله. وكان من بين ضحايا السراج القائد الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو، الذي مات في سجون المكتب الثاني بدمشق يوم 25 حزيران 1959 وقيل أنه ذوب بالأسيد بأمر من السراج. جمع السراج رجال المباحث في قلعة دمشق وأعلن الحرب على الشيوعيين السوريين، وعندما اعترض البعض على طريقة معاملتهم، لأن الكثير منهم كانوا من المثقفين والمتعلمين، ردّ غاضباً: “كيف تريدون أن نعاملهم؟ هل نضعهم على الرف ونضرب لهم على الدف؟” (7)
الرئيس عبد الناصر ووزير الداخلية عبد الحميد السراج.
وكان نفوذ السراج ينمو يوماً بعد يوم، وقد عُيّن رئيساً للمجلس التنفيذي في الإقليم السوري يوم 20 أيلول 1960، إضافة لصلاحياته الواسعة في وزارة الداخلية. ولكن جفاء حصل بينه وبين الرئيس عبد الناصر، كان سببه المشير عبد الحكيم عامر، صديق الرئيس وممثله الشخصي في الإقليم الشمالي. كان الخلاف بين السراج والمشير عامر لا يخفى على أحد، وهو صراع نفوذ وسلطة.
وفي تموز 1961 زادت الهوة بينهما بسبب معارضة السراج لسياسة تأميم المصانع التي فرضها الرئيس عبد الناصر بإيعاز من المشير عامر، وفضل الاكتفاء بتأميم المصارف وشركات التأميم. اقترح مشاركة الدولة بربع رأس مال المصانع وقال بوضوح مخاطباً رئيس الجمهورية: “سيدي، أخاف على الوحدة من نقمة تجار دمشق وحلب.”(8) لم تكن معارضة السراج لقرارات التأميم ناجمة عن أي فكر اقتصادي أو تنموي، بل كانت مبرراته ومخاوفه أمنية بالمطلق، وهو كان يعتقد بأن تأميم المصانع سيزيد من غليان الشارع ويؤلّب الناس على الوحدة وعلى رئيسها، وهذا فعلاً ما حصل.
تنصّل السراج من دعم التأميم، ولكنه لم يكن حاسماً في موقفه، فاستدعاه عبد الناصر في الصباح الباكر إلى داره في منشية البكري، حيث وُبِّخ توبيخاً شديداً على موقفه الرمادي، بحضور مدير المخابرات المصرية صلاح نصر.(9) وجّه إليه عبد الناصر كلاماً قاسياً، وقال: “إنت عايز إيه يا عبد الحميد؟ عاوز أعملك أي عشان ترضى؟” ثم أضاف قائلاً: “إنني لا أستطيع أن أفهم تصرفاتك وتصرف رجالك في دمشق.”(10)
حاول السراج تدارك الموقف بسرعة، ونزل بنفسه إلى مقر الشركة الخماسية، كبرى الشركات الصناعية السورية، للإشراف على تأميمها، ولكن هذا لم ينفع في ترميم الثقة بينه وبين الرئيس عبد الناصر.(11) اتسعت الهوة أكثر فأكثر وقام عبد الناصر بنقله عن دمشق وعيّنه نائباً لرئيس الجمهورية للشؤون الداخلية، وهو منصب شكلي لا سلطة حقيقية له، بعد أن كان السراج رجل سورية الأقوى على مدى سنوات.(12) في كتابه عن الانفصال، ما الذي جرى في سورية يقول محمد حسنين هيكل، كاتم أسرار عبد الناصر ورئيس تحرير جريدة الأهرام في حينها، إن الرئيس عبد الناصر قال للسراج: “قلت لكم إنكم وأنتم دعاة الوحدة وأنصارها، قد سببتم لي من المتاعب ما لم يسببه لي أعداء الوحدة وخصومها.”(13)
اعتقال السراج
قبل ستة أيام من وقوع انقلاب الانفصال في 28 أيلول 1961، اشتد الخلاف بين السراج والمشير عامر فذهب الرجلان إلى القاهرة لمقابلة الرئيس عبد الناصر على متن طائرة واحدة. اجتمع عبد الناصر مع السراج خمس مرات لمدة عشرين ساعة، وعاد بعدها السراج إلى دمشق منفرداً ومستقيلاً من جميع مناصبه، في إشارة للجميع إلى أن عبد الناصر قد حسم خياره وفضل الوقوف مع صديقه المصري على حساب أكبر مؤيديه بين السوريين.(14) فُتحت سجون السراج بعد إقالة رجالاته من مناصبهم، وأُطلق سراح كل من كان معتقلاً بأمر مباشر منه. كذلك ختمت كافة مكاتبه بالشمع الأحمر، الواقعة في منطقة الطلياني وفي حيّ الروضة بدمشق.(15)
في الساعات الأولى من انقلاب الانفصال، حاول الانقلابيون استمالة السراج إلى صفوفهم، لكونه الأعلم بأسرار عبد الناصر وكافة تفاصيل حكمه.(16) دُعي إلى مبنى الأركان العامة للاجتماع مع حيدر الكزبري، أحد قادة الانقلاب، ولكنه رفض التعاون معه وحافظ على ولائه التام لجمهورية الوحدة ورئيسها.(17) وبعد أيام، اعتُقل السراج من داخل منزل أحد أقرباء زوجته في حيّ المالكي، واقتيد إلى سجن المزة العسكري.
تهريب السراج إلى مصر
شُكّلت محكمة برئاسة المحقق عمر الربّاط، وقيل إن السراج سيمثل أمامها بصفة “مجرم حرب،” وإن القضاء السوري سيوجه إليه ما يقارب 400 تهمة ،كانت أقلها ستودي به إلى حبل المشنقة.(18)
غضب عبد الناصر من هذا التصرف وأمر بتهريب السراج من داخل السجن، بمساعدة رئيس الحرس منصور الرواشدة، الموالي لعبد الناصر، الذي أعطى السراج بذلة عسكرية للتنكر برتبة “رقيب”، ثم أخرجه من الزنزانة وقدم إليه بطانية لرميها أمامه ودوسها لإخفاء خطواته في الدرب الترابي، وصولاً إلى ساحة قرب السجن، حيث كانت سيارة بانتظاره لنقله سراً إلى لبنان، ليكون بضيافة وحماية الزعيم اللبناني كمال جنبلاط.(19)
نُقل بعدها إلى الإسكندرية عبر سفينة حضرت لهذه المهمة، تحت إشراف السفير المصري في بيروتعبد الحميد غالب.(20) كافأه عبد الناصر بمنصب فخري في مؤسسة التأمينات الاجتماعية، بعيداً عن كافة الأمور السياسية والعسكرية، وبقي السراج مقيماً في القاهرة حتى وفاته في أيلول 2013.
شهادة السراج
قبل رحيل السراج بنحو عشر سنوات، اجتمع السراج مع الطبيب والباحث الفلسطيني كمال خلف الطويل، الخبير بالمرحلة الناصرية، الذي سأله: “حقاً، لِمَ أنت معتصم بالصمت بكل هذا الإصرار؟ هل هناك ما يدين أو يشين من يهمك أمره؟”
ابتسم السراج لما اعتبره تخابثاً، ثم عبس وردّ: “لأجله وحده لن أتكلم”، وأشار بسبابته إلى صورة على الحائط لجمال عبد الناصر بكامل قامته. وأضاف قائلاً: “هو أشرف الرجال وأطهر الرجال ولن يقيض الله للأمة أحداً مثله إلى أجل طويل. لكن مأساته أنه حمل على كتفيه من لا يستحق ولا يقدِر، فأوصله وأوصلنا والأمة معه إلى هاوية بدأت بالانفصال ومرّت باليمن ووصلت إلى الهزيمة (عام 1967). إنه عبد الحكيم عامر. كم نصحته وبتكرار: انتبه يا ريّس، لن يخرب الرجل بيت الإقليم الشمالي فقط، بل والجنوبي بعده، والوحدة برمتها والجيش بأسره.”(21)
سرّ السراج للدكتور الطويل: “زارني (المشير) في منزلي بعد إعلان الوحدة ببرهة، وبصحبته العميد عبد المحسن أبو النور، المعيَّن رئيساً لأركان الجيش الأول، وإثر ما غادرا اكتشفت مظروفاً على الكنبة التي جلس عليها عامر يحتوي على 5000 جنيه، فسارعت بالاتصال بعبد المحسن على اللاسلكي، وطلبت منه العودة للتو، وعندما وصل قلت له: “أبلغ المشير ألّا يعود إلى مسلك كهذا معي، فلست ممن يمكن شراء ولائهم”. فردّ الضابط المصري: “هوّ المشير لاحظ أن سجاد المنزل لا يليق بوزير داخلية، فارتأى أن يسهم في إبداله بلائقٍ، وهو العليم بضيق ذات يدك، فأخذ المبادرة بخفر ونية حسنة.”(22)
يقول الدكتور الطويل: “والحق أن السراج، في مواجهته مع عامر، لم ينحنِ ولم يتراجع، وواجه عبد الناصر بشجاعة المحب، محذراً إياه – بثقة العارف – من أن كارثة تنتظر الإقليمين ـ لا الشـمالي منهما فقط ـ إن تُرك عبد الحكيم على غاربه… وكأني به يرى الانفصال – وهو على مسافة أيام- وهزيمة 67، وسوء إدارة حرب اليمن، وأمراض البيروقراطية العسكرية داخل جسم النظام والدولة.”(23)
الوفاة
غاب السراج عن أي منصب سياسي من بعدها ورفض جميع الدعوات لإجراء إي لقاء صحفي أو تلفزيوني. في سنة 2005 توسط وزير الدفاع مصطفى طلاس للسراج لكي يعود إلى سورية ولكنه رفض ذلك على الرغم من عدم معارضة الرئيس حافظ الأسد. توفي عبد الحميد السراج في القاهرة صامتاً عن عمر ناهز 88 عاماً في 23 أيلول 2013 وأجريت له جنازة رسمية بصفته نائباً سابقاً للرئيس جمال عبد الناصر بأمر من الرئيس عبد الفتاح السيسي.
ذكرى السراج
وفي 1991 صدر كتاب عن عبد الحميد السراج في لندن، حمل عنوان السلطان الأحمر، وضعه عديله الصحفي السوري غسان زكريا. وبعدها بخمس سنوات، ظهرت شخصية عبد الحميد السراج على شاشة التلفزيون في الجزء الثاني من مسلسل حمام القيشاني، ولعب دوره الفنان محمد آل رشي.