الشهر: أغسطس 2021

  • محمد كرد علي

    محمد كرد علي
    محمد كرد علي

    محمد بن عبد الرزاق كرد عليّ (1876 – 2 نيسان 1953)، كانت ومؤرخ وصحفي وناشر سوري من دمشق، أسس مجلّة المقتبس الشهيرة في القاهرة قبل نقلها إلى دمشق وإصداؤها مع صحيفة يومية حملت نفس الاسم سنة 1909، هو الرئيس المؤسس لمجمع اللغة العربية بدمشق منذ سنة 1919 وحتى وفاته عام 1953. تولّي حقيبة المعارف في زمن الانتداب الفرنسي وكان مرشحاً لرئاسة الجامعة السورية عند تأسيسها سنة 1923، وله الكثير من الكتب والأبحاث التاريخية عن تاريخ دمشق، من أبرزها خطط الشّام الموسوعي الصادر في منتصف العشرينيات.

    البداية

    ولِد محمد كرد عليّ في دمشق وهو سليل أسرة كردية متواضعة يعود أصلها إلى السليمانية. وكان والده رجلاً بسيطاً، عمل خياطاً ثم تاجراً صغيراً وتمكن من شراء قطعة أرضٍ زراعية لأسرته في غوطة دمشق. دَرَس كرد عليّ في مدرسة الحبّال بحيّ القيمرية وفي مدرسة الآباء العازاريين في منطقة باب توما ثمّ في المدرسة الرشدية العسكرية.  تتلمذ علي يد شيوخ عصره من أمثال الشيخ سليم البُخاري والشّيخ طاهر الجزائري، وبدأ حياته المهنية كاتباً في ديوان الشؤون الأجنبية قبل تعينه رئيساً لتحرير جريدة الشّام الأسبوعية الصادرة عن مجلس ولاية سورية سنة 1897.

    محمد كرد علي في شبابه
    محمد كرد علي في شبابه

    جريدة المقتبس

    عمل في جريدة الشّام طيلة ثلاثة سنوات، وكان ينشر الأبحاث التاريخية والأدبية في مجلّة المقتطف المصرية. سافر إلى القاهرة سنة 1901 ولازم الشّيخ محمد عبده وحضر مجالسه، وعُيّن رئيساً لتحرير جريدة “الرائد” المصري. وفي مصر أنشأ محمد كرد عليّ مجلّة المقتبس الشهرية وأصبح رئيساً لتحرير جريدة “الظاهر” اليومية ومديراً لجريدة المؤيد حتى سنة 1908.

    عندما عاد إلى دمشق على إثر انقلاب جمعية الاتحاد والترقي على السلطان عبد الحميد الثاني بعدما وعد الاتحاديون بإعادة العمل بالصحافة الحرة في البلاد. استثمر كرد عليّ بهذا الوعد وأطلق مع شقيقه أحمد كرد عليّ جريدة المقتبس في 17 كانون الأول 1908. ولكن عمله الصحفي توقف بسبب المضايقات التي تعرض لها من قبل السلطات العثمانية. أوقفت المقتبس بقرار إداري من الدولة العثمانية وسافر صاحبها إلى باريس وعاش فيها ينقّب عن أمهات الكتب التاريخية والاجتماعية والأدبية، والتقى بعض ساستها ومفكريها. زار إيطاليا وسويسرا والمجر، وقد كتب عن هذه الرحلة 35 مقالة نُشرت لاحقاً في كتاب غرائب الغرب الصادر سنة 1901.

    تأسيس مجمع اللغة العربية

    عاد إلى دمشق عشية انسحاب القوات العثمانية سنة 1918 واستئنف إصدار المقتبس مع مبايعة الأمير فيصل بن الحسين حاكماً عربياً على سورية. وفي 12 شباط 1919، صدر مرسوم تعيينه رئيساً لديوان المعارف للنظر في أمور الترجمة والنشر في سورية، وكلّف بتأسيس دار للآثار والإشراف على المكتبات الدمشقية، ولا سيما المكتبة الظاهرية. نظراً لأعباء هذا المنصب الحساسة اقترح على الأمير فيصل فصل بعض صلاحيات ديوان المعارف وإلحاقها بمجمعٍ مخصص للغة العربية، هدفه العناية باللغة وحفظها وتطويرها. صدر مرسوم مجمع اللغة العربية وفي جلسته الأولى في المكتبة العادلية في منطقة باب البريد يوم 30 تموز 1919 انتخب محمد كرد عليّ أول رئيساً له.

    محمد كرد علي يتوسط أعضاء مجمع اللغة العربية سنة 1919.
    محمد كرد علي يتوسط أعضاء مجمع اللغة العربية سنة 1919.

    وفي سنة 1921 أصدر كرد عليّ مجلّة مجمع اللغة العربية وكتب افتتاحية عددها الأول. وصلت عدد مشاركاته في مجلة المجمع في الفترة ما بين 1920-1953 إلى 519 مقالاً علمياً، ليكون أكثر الكتّاب نشراً في المجلّة. كما ألقى أربعة وستين محاضرة في ردهة المجمع، تنوعت مواضيعها في مختلف الشؤون التاريخية:

    وفي سنة 1932 أُنشئ مجمع اللغة العربية في القاهرة واختير محمد كرد عليّ عضواً عاملاً فيه.

    محمد كرد علي
    محمد كرد علي

    وزيراً في زمن الانتداب الفرنسي

    وبعد انتهاء العهد الفيصلي وفرض الانتداب الفرنسي على سورية، سمّي محمد كرد علي وزيراً للمعارف في حكومة جميل الألشي الأولى يوم 6 أيلول 1920، والتي تم في عهدها تقسيم سورية إلى دويلات. وفي حكومة حقي العظم الأولى نهاية العام 1920، جدد له في وزارة المعارف ولكنّه استقال في 10 آذار 1922 لعدم قدرته على تحمل أعباء الوزارة والمجمع معاً. اختاره الشّيخ تاج الدين الحسني ليكون وزيراً للمعارف في حكومته الأولى سنة 1928، حيث أنشأ مجلس التعليم لمراقبة المناهج وسير العملية التعليمية في المدارس السورية. قرر هذا المجلس إلحاق الجامعة السورية بوزارة المعارف، لتفقد الاستقلالية التي كانت تتمتع بها منذ تأسيسها وتصبح تابعة للحكومة السورية من يومها. واتخذر قراراً يومها بإعلاق المقتبس بشكل نهائي، بعد أشهر من وفاة أخيه أحمد وعدم قدرته تحمل أعباء الإدارة الصحفية وحده.

    مدرساً في جامعة دمشق

    ترشّح محمد كرد عليّ لرئاسة الجامعة السورية عند تأسيسها سنة 1923 وكانت المنافسة بينه وبين عميد كلية الطب الدكتور رضا سعيد وعميد كلية الحقوق عبد القادر العظم.  وقع الاختيار على رضا سعيد ليكون أول رئيسٍ للجامعة وعُيّن كرد عليّ أستاذاً لمادة اللغة العربية في كلية الحقوق.

    مؤلفاته

    خلال مسيرته الطويلة وضع محمد كرد عليّ عدداً من الدراسات والأبحاث التاريخية والأدبية، كان أولها يتيمة الزمان في قبعة ليفمان” وهي رواية مترجمة صدرت في مصر سنة 1894. وقد تلاها:

    وفي سنة 2017 جمع الباحث محمد مطيع الحافظ بعض مقالات الأخوين محمد وأحمد كرد عليّ في كتاب حوادث دمشق اليومية من 17 كانون الأول 1908 وحتى 29 كانون الأول 1909.

    الوفاة والتكريم

    توفي محمد كرد علي عن عمر ناهز 77 عاماً في 2 نيسان 1953 وسمّي شارع في كل من دمشق وحلب باسمه كما أُطلق اسم “محمد كرد عليّ” على مدرسة حكومية في منقطة القدم بريف دمشق تكريماً له وتقديراً لما قدمه من خدمات أدبية وعلمية. وفي مئويته الأولى سنة 1976 أصدرت الدولة السورية طابعاً يحمل رسم محمد كرد عليّ.

    المناصب

    رئيساً لمجمع اللغة العربية (30 تموز 1919 – 2 نيسان 1953)
    وزيراً للمعارف (6 أيلول – 10 آذار 1922)
    وزيراً للمعارف (15 شباط 1928 – 11 حزيران 1932)
  • بين الخمارات

    Damas 020بين الخمّارات، دخلة في حيّ القيمرية بين زقاقي الكنيسة والمنكنة، كانت قديماً تُعرف بكثرة الخمّارات والمرابع الليلية.

  • بين الحواصل

    Damas 020

    بين الحواصل، جادة ممتدة من سوق النحاسين إلى العمارة البرانية، تعود تسميتها لتمركز حواصل الخشب فيها. والحواصل هي مستودعات الخشب المنشور لاستعمالات البناء والنجارة المختلفة. كانت المنقطة قديماً ولغاية منتصف العهد العثماني تُعرف بمحلّة الأبّارين لوجود سوق الأبّارين في وسطها، والأبّارين هم من يصنعون الإبر والمسلات والسنانير.

  • بين الحكرين

    Damas 020

    بين الحكرين، محلّة تقع شرقي العمارة البرّانية، سمّيت بهذا لاسم لأن موضعها كان بين حكر السرايا في محلّة السادات وحكر النعنع خارج باب السلام. ظلّت تُعرف بهذا الاسم لغاية منتصف القرن العشرين وكانت مليئة بالبساتين ذات الأشجار المثمرة، ولكنها أزيلت مع توسع الإعمار في مدينة دمشق في خمسينيات القرن العشرين.

  • بين التربتين

    مقبرة الباب الصغير
    مقبرة الباب الصغير

    بين التربتين، جادة في الشاغور البراني، تخترق مقبرة الباب الصغير من الشمال إلى الجنوب، وتقع بين جادتي البدوي والسويقة. كان الامتداد الشرقي لها الواصل إلى مصلبة الشاغور يُدعى جادة الجرّاح، فعمم هذا الاسم على كامل الجادة. أمّا اسم “بين التربتين” فهو لأن الجادة تفصل مقبرة الباب الصغير إلى شطرين.

  • أديب الشيشكلي

     

    الرئيس أديب الشيشكي
    الرئيس أديب الشيشكي

    أديب بن حسن الشيشكلي (1909 – 27 أيلول 1964)، ضابط سوري من حماة وقائد انقلابين في مطلع عهد الاستقلال، كان الأول في شهر كانون الأول من العام 1949 والثاني في تشرين الثاني 1951. وفي 11 تموز 1953 انتُخب رئيساً للجمهورية وبقي يحكم سورية لغاية الإطاحة به واستقالته في 25 شباط 1954. يُعد أحد الآباء المؤسسين للجيش السوري، وقد شارك في حرب فلسطين، متطوعاً في جيش الإنقاذ ثم في الجيش السوري، وأسهم إسهاماً بارزاً في انقلاب حسني الزعيم يوم 29 آذار 1949 وانقلاب سامي الحناوي في 14 آب 1949. وقد شهد عهده نهضة اقتصادية وصناعية كبيرة، وتقارباً مع كل من السعودية ومصر. عاش سنواته الأخيرة في المنفى، وحاول المشاركة في انقلاب جديد سنة 1956 ولكنّه انسحب منه باكراً وحكم عليه بالإعدام بسببه. وقد اغتيل في البرازيل بعد عشر سنوات من مغادرته الحكم سنة 1964.

     البداية

    ولِد أديب الشيشكلي في حماة وهو سليل عائلة كبيرة من الملّاكين والآغوات. دَرَس في المدرسة الزراعية بمدينة السلمية وفي كلية حمص الحربية، وعند تخرجه عُيّن ضابطاً في جيش الشرق التابع لسلطة الانتداب الفرنسي في سورية. عرف بنزعته القومية وشدّة معارضته للفرنسيين، ما أثّر في ترفيعه وأدى إلى تعيينه في مناطق نائية، في ريف الرقة أولاً ثمّ في مدينة البوكمال.

    الشيشكلي ضابطاً في جيش الشرق.
    الشيشكلي ضابطاً في جيش الشرق.

    الانشقاق عن جيش الشرق

    ساند ثورة رشيد علي الكيلاني ضد الإنكليز في العراق سنة 1941 وقاد ثورة مماثلة ضد الفرنسيين في حماة. وعند قصف دمشق في 29 أيار 1945 انشقّ الشيشكلي عن جيش الشرق واحتلّ قلعة حماة، بالتعاون مع شقيقه صلاح الشيشكلي وصديقه أكرم الحوراني. كانت نيتهم الزحف نحو مدينة دمشق لتحريرها من الفرنسيين، ولكن تدخلاً من الجيش البريطاني منعهم من ذلك وأجبرهم على تسليم مواقعهم. والجدير بالذكر أن الشيشكلي في هذه المرحلة من حياته كان شديد التأثر بفكر الحزب السوري القومي الاجتماعي ومؤسسه أنطون سعادة، وقد انضمّ إلى هذا الحزب وظلّ يعمل في صفوفه حتى وصوله إلى رئاسة الجمهورية سنة 1953.

    الشيشكلي في جيش الإنقاذ

    ومع بدء انسحاب القوات الفرنسية عن سورية انتسب الشيشكلي إلى الجيش السوري الوليد يوم تأسيسه في 1 آب 1945، وشارك في الاستعراض العسكري الذي أقيم بدمشق يوم عيد الجلاء الأول في 17 نيسان 1946.

    الشيشكلي في حرب فلسطين سنة 1948.
    الشيشكلي في حرب فلسطين سنة 1948.

    وفي 1 كانون الأول 1947 تطوع في جيش الإنقاذ مع فوزي القاوقجي لمحاربة العصابات الصهيونية في فلسطين وعُيّن قائداً لفوج اليرموك الثاني.  خدم في شرقي الجليل الأعلى، حيث حقق انتصارات ميدانية كبيرة أدت إلى منحه أرفع الأوسمة الحربية من قبل رئيس الجمهورية شكري القوتلي. كانت مرحلة حرب فلسطين حاسمة في مسيرة الشيشكلي العسكرية، فبعد المشاركة الطوعية في جيش الإنقاذ، عُيّن ضابطاً في القوات النظامية التي دخلت فلسطين بعد ساعات من إعلان ديفيد بن غوريون ولادة دولة إسرائيل يوم 14 أيار 1948.  وقد تعرف يومها على قائد الجيش حسني الزعيم وتوطدت صداقة متينة بينهما كما وجمعهما هدف مشترك بالتخلص من الطبقة السياسية الحاكمة في سورية، الممثلة بالرئيس شكري القوتلي، وتحميلها مسؤولية الهزائم المتتالية في فلسطين.

    وكان الشيشكلي أحد الموقعين على معروض خاص من ضباط الجيش إلى رئيس الجمهورية، يشكون فيه من كثرة التهجم عليهم من بعض النواب. طالب الضبّاط، وفي مقدمتهم حسني الزعيم، بإحالة النواب إلى القضاء بتهمة إثارة الفتن والإساءة إلى المؤسسة العسكرية. وعندما لم يستجب القوتلي إلى مطالبهم، قرر حسني الزعيم ورفاقه التحرك والقيام بانقلاب عسكري.

    تسليم أنطون سعادة

    شارك المقدم أديب الشيشكلي في انقلاب الزعيم بقيادة فوج مشاة ومدرعات نحو مدينة دمشق، سُحب من الجبهة السورية – الإسرائيلية ليلة 29 آذار 1949. وبعد نجاح الانقلاب واعتقال القوتلي، فرض حسني الزعيم نفسه حاكماً عسكرياً على سورية ثم رئيساً للجمهورية في 26 تموز 1949. وقد بقي الشيشكلي وفيّاً له لغاية تسليم أنطون سعادة إلى السلطات اللبنانية، ليُعدم في 8 تموز 1949. وكان سعادة قد جاء إلى دمشق بواسطة من أديب الشيشكلي، وحصل على لجوء سياسي من حسني الزعيم، الذي وعد بألا يسلمه إلى لبنان مهما كانت الظروف والضغوطات. ووعد الشيشكلي بمساعدة سعادة على إطلاق ثورة عسكرية في لبنان، تُطيح برئيس الجمهورية اللبنانية بشارة الخوري ورئيس وزرائه رياض الصلح، ولكنّ خيانة الزعيم لسعادة أنهت كل هذه المخططات. غضب الشيشكلي كثيراً من حادثة تسليم سعادة، وعندما كثرت انتقاداته للزعيم قام الأخير بتسريحه من الجيش في 1 آب 1949.

    مع الانقلاب الثاني: 14 آب 1949

    انضم الشيشكلي إلى صفوف الضباط المعارضين، وفي 14 آب 1949 شارك في الانقلاب العسكري الذي أطاح بحسني الزعيم وأودى بحياته. في ليلة الانقلاب وبعد إعدام الزعيم، قام الشيشكلي بأخذ قميصه الملطخ بالدم وقدمه إلى جوليت المير، أرملة أنطون سعادة الموجودة يومها في دير سيدة صيدنايا، قائلاً لها: “إليك بالدليل على انتقامنا من الغادر، لقد غسلنا الدم بالدم.”

    أديب الشيشكلي جالساً أمام اللواء سامي الحناوي بعد انقلاب 14 آب 1949.
    أديب الشيشكلي جالساً أمام اللواء سامي الحناوي بعد انقلاب 14 آب 1949.

    تولّى مهندس الانقلاب اللواء سامي الحناوي، رئاسة أركان الجيش وأعاد الشيشكلي إلى الخدمة العسكرية، مع تعيينه قائداً للواء الأول في بلدة قطنا القريبة من دمشق. من موقعه الجديد عارض الشيشكلي التقارب بين سورية والعراق ومحاولة توحيد البلدين تحت العرش الهاشمي التي وقف وراءها كل من سامي الحناوي ورئيس الدولة هاشم الأتاسي، بدعم من حزب الشعب المسيطر على السلطة التشريعية منذ سقوط حسني الزعيم. كان الشيشكلي ينظر إلى الأسرة الهاشمية الحاكمة في بغداد على أنها أداة في يد بريطانيا، ويرى أنها تريد نسف نظام سورية الجمهوري والإتيان بنظام حكم ملكي. وقد نُقل عنه مراراً قوله: “ستزول الجمهورية على جثتي.”

    ومع اقتراب التوقيع على ميثاق الوحدة، قام الشيشكلي بتنفيذ انقلاب عسكري يوم 19 كانون الأول 1949 – هو الثالث بعد انقلاب الزعيم في آذار وانقلاب الحناوي في آب – وكان يهدف إلى حرمان هاشم الأتاسي وقادة حزب الشعب من الدعم العسكري الذي كان يوفره لهم سامي الحناوي.  أمر الشيشكلي باعتقال الحناوي وتسريحه من الجيش بتهم التآمر على نظام سورية الجمهوري. وقد جاء في البلاغ العسكري رقم واحد الذي أذيع باسم أديب الشيشكلي عبر إذاعة دمشق:

    ثبت لدى الجيش أن رئيس الأركان العامة اللواء سامي الحناوي وعديله السيد أسعد طلس، وبعض ممتهني السياسة في البلاد، يتآمرون على سلامة الجيش وسلامة البلاد ونظامها الجمهوري مع بعض الجهات الأجنبية، وكان الجيش يعلم هذا الأمر منذ البداية وقد حاول ضباطه بشتى الطرق، بالامتناع تارة وبالتهديد تارة أخرى، أن يحولوا دون إتمام المؤامرة وأن يقنعوا المتآمرين بالرجوع عن غايتهم فلم يفلحوا، فاضطر الجيش حرصاً على سلامة البلاد وسلامته، وحفاظاً على النظام الجمهوري، أن يقصي هؤلاء المتآمرين، وليس للجيش أي غاية أخرى، وأنه يترك البلاد في يدي رجالها الشرعيين، ولا يتدخل إطلاقاً في القضايا السياسية، اللهم إلّا إذا كانت سلامة البلاد وكيانها يستدعيان ذلك.

    أعلن الشيشكلي أن انقلابه لا يستهدف السلطة المدنية المنتخبة والممثلة برئيس الجمهورية، بل إنه مجرد “حركة جراحية” داخل الجيش، هدفها إجهاض مشروع الوحدة والتخلص من سامي الحناوي. جاء باللواء أنور بنود إلى رئاسة الأركان، واكتفى بأن يكون نائباً له، فيما بدى للوهلة الأولى تواضعاً من الشيشكلي.  ولكن اشترط على رئيس الجمهورية تعيين صديقه الوفي اللواء فوزي سلو في وزارة الدفاع، مع حق الاعتراض على أية عودة إلى مشروع الوحدة قد يحاول وزراء حزب الشعب طرحه داخل السلطة التشريعية. تفادياً لأي صدام مع المؤسسة العسكرية، قبِل هاشم الأتاسي بهذا الشرط وحاول التعايش مع أديب الشيشكلي ابتداء من شهر حزيران 1950، عند تسميته فوزي سلو وزيراً للدفاع في حكومة الدكتور ناظم القدسي.

    العقيد أديب الشيشكلي مع اللواء فوزي سلو.
    العقيد أديب الشيشكلي مع اللواء فوزي سلو.

    اغتيال العقيد محمد ناصر

    بعدها بأسابيع اغتيل العقيد محمد ناصر، قائد القوى الجوية، يوم 31 تموز 1950. كان العقيد ناصر عضواً في مجلس العقداء الذي اجتمع على الإطاحة بسامي الحناوي، وهو من ألمع ضباط الجيش وأكثرهم جرأة ونفوذاً.  وصل محمد ناصر إلى المستشفى العسكري حيّاً، وقبل مفارقة الحياة أدخل أصبعه في فمه، حيث كان الدم يسيل منه بغزارة، وكتب اسم شخصين، كليهما من أعوان الشيشكلي، وقال إنهما من أطلق عليه النار. أثارت هذه القصة عاصفة من الشائعات، ورأى مراقبون أن الشيشكلي أمر بتصفية محمد ناصر للحد من شعبيته في الجيش، لكونه أحد أهم منافسيه بين العسكريين، باعتبار أن الضابط المغدور كان قد رفض المشاركة في انقلاب الشيشكلي وجاهر في انتقاده له. ولكن المحكمة العسكرية التي شكلت لأجل جريمة مقتل محمد ناصر قررت تبرئة أعوان الشيشكلي، وهما عبد الغني قنوت وإبراهيم الحسيني، لعدم توفر أدلة كافية ضدهم.

    محاولة اغتيال الشيشكلي

    وفي 12 تشرين الأول 1950، تعرض الشيشكلي نفسه لمحاولة اغتيال، وقف خلفها تنظيم سري حمل اسم كتائب الفداء العربي، ضم مواطناً مصرياً مداناً بعملية اغتيال أمين عثمان، أحد وزراء الملك فاروق. وقد اشترك معه في محاولة اغتيال الشيشكلي كل من جهاد ضاحي وهاني الهندي، إضافة للدكتور جورج حبش. وتبين أنهم حاولوا أيضاً اغتيال مراسل جريدة التايمز في سورية، وزرعوا قنابل في مدارس يهودية وفي مقر المفوضية الأمريكية بدمشق. أحيلوا إلى المحاكمة وكان من المفترض إعدامهم جميعاً لولا تدخل مفاجئ من الشيشكلي، الذي زار المواطن المصري حسين توفيق في سجنه وتحدث معه مطولاً قبل أن يأمر بإطلاق سراحه والعفو عنه وعن رفاقه.

    انقلاب الشيشكلي الثاي: 29 تشرين الثاني 1951

    لم تؤثر حادثة اغتيال محمد ناصر على مسيرة الشيشكلي، وظلّ يحكم سورية من خلف ستارة فوزي سلو حتى 28 تشرين الثاني 1951، يوم تشكيل حكومة معروف الدواليبي التي رفضت الانصياع لشروط الشيشكلي وإسناد حقيبة الدفاع للواء سلو، كما فعل كل أسلافه من قبله.  طلب الشيشكلي إلى الدواليبي الاستقالة أو العدول عن موقفه، وعندما لم يستجب، أمر الشيشكلي باعتقاله يوم 29 تشرين الثاني، مع معظم الوزراء المحسوبين على حزب الشعب.

    حاول رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي تدارك الموقف، وعندما لم تنجح مساعيه مع الشيشكلي، قدّم استقالته إلى مجلس النواب يوم 2 كانون الأول 1951. ولكنّ الشيشكلي كان قد أمر بحلّ المجلس، وفور تسلمه استقالة الأتاسي، أصدر قراراً بتسمية فوزي سلو رئيساً للدولة والحكومة. وعطّل الدستور وفرض الأحكام العرفية، قبل حلّ جميع الأحزاب في 6 نيسان 1952. وقد استثني من هذا القرار حزب الشيشكلي القديم، الحزب السوري القومي الاجتماعي.

    السياسة الداخلية

    كانت جمهورية الشيشكلي هي الأكثر صرامة وانضباطاً في عهد الاستقلال، وكان يقول دوماً إن الدول مثل الجيوش الحديثة، لا تُحكم إلّا بالانضباط والقوانين الصارمة. في عهده فُرض على العلماء والمشايخ والأئمة ارتداء اللباس الديني التقليدي، ومنعوا من الإفتاء وإلقاء الخطب إلا بعد مراجعة السلطات الأمنية وأخذ موافقة مسبقة. وضعت قوانين لمن يرغب دخول سورية بقصد السياحة أو العمل، أُلغيت سمة الدخول المجانية (الفيزا) التي كانت تُعطى للزائرين العرب في السابق. وقد جاء في قرارات الشيشكلي أن على أي زائر أن يُبرز شهادة مصرفية ودليل ملاءة مادية، وذلك لمنع الفقراء والمتسولين من دخول الأراضي السورية. ومنع الشيشكلي المؤسسات التعليمية الخاصة من تلقي المعونات المادية من الخارج، وطبّق هذا الأمر على المدارس الأجنبية كافة وعلى الجامعة السورية.

    الرئيس الشيشكلي مع الرئيس محمد نجيب سنة 1952.
    الرئيس الشيشكلي مع الرئيس محمد نجيب سنة 1952.

    السياسة الإقليمية

    اعترفت جميع الدول العربية بانقلاب الشيشكلي وجاء اعتراف مماثل من الولايات المتحدة وبريطانيا في 17 كانون الأول 1952. قاد أديب الشيشكلي عملية انفتاح على جميع دول الجوار إلّا العراق، وافتُتحت أول سفارة أردنية بدمشق بعد زيارة رسمية قام بها إلى عمّان للقاء الملك طلال في 19 آذار 1952. وقد جاء هذا التقارب بعد اغتيال الملك عبد الله الأول في القدس سنة 1951، الذي كان الشيشكلي يتهمه بالعمالة للغرب ويحملّه وزر هزيمة الجيوش العربية في فلسطين. وفي 8 نيسان 1952 زار الشيشكلي الرياض والتقى بالملك عبد العزيز آل سعود وبعدها توجه إلى القاهرة لتهنئة الضباط الأحرار على ثورتهم واجتمع مطولاً مع الرئيس محمد نجيب ووزير داخليته جمال عبد الناصر.

    السياسة الاقتصادية

    اقتصادياً اتبع الشيشكلي سياسة ليبرالية وفرض على مؤسسات الدولة السوري عدم التدخل في الحياة الصناعية والتجارية، قائلاً إن دورها يجب أن يقتصر على جباية الضرائب فقط. وصل عدد الشركات المساهمة في عهد الشيشكلي إلى سبع وثلاثين شركة، كان مجموع رأس مالها سبعين مليون ليرة سورية، جميعها مستقلة استقلالاً تاماً عن الدولة.

    وقد ألغى الشيشكلي امتياز مصرف سورية ولبنان القائم منذ زمن الانتداب الفرنسي، والذي كان يُصدر النقد السوري ويُعدّ العميل الحكومي الوحيد بموجب امتياز أعطي له منذ سنة 1924. وقد أصدر الشيشكلي عبر الرئيس فوزي سلو مرسوماً بتأسيس مصرف سورية المركزي،  وفي أثناء تصفية أعمال مصرف سورية ولبنان شُكّلت مؤسسة حكومية لإصدار النقد، ونقلت إليها كل ودائع الخزينة السورية. وقد أنشأ الشيشكلي فريقاً اقتصادياً مؤلفاً من وزير الاقتصاد منير دياب وحاكم المصرف المركزي الدكتور عزت طرابلسي ونائبه الدكتور عوض بركات، فرضوا على جميع البنوك العاملة في سورية ضرورة تعريف عملياتها المصرفية وتحديد الحد الأدنى لرأس مالها واحتياطها النقدي، مع شروط الانتساب إلى مجالس إدارتها.

    وأرسل مستشاريه إلى فرنسا وبلجيكا وسويسرا للاستفادة من التجربة المصرفية في تلك الدول وتعاقد مع نائب حاكم مصرف فرنسا المركزي ليكون مستشاراً لصرف سورية المركزي في مرحلة التأسيس. ولكنّ مصرف سورية المركزي لم ير النور إلّا بعد مغادرة الشيشكلي السلطة، وافتُتح في عهد الرئيس شكري القوتلي سنة 1956. وقد سرى ذلك أيضاً على معرض دمشق الدولي الذي وضعت أساساته في عهد الشيشكلي ولكنه لم ير النور إلا بعد سبعة أشهر من سقوطه.

    أديب الشيشكلي خطيباَ في مهرجان تأسيس حركة التحرير العربي سنة 1952.
    أديب الشيشكلي خطيباَ في مهرجان تأسيس حركة التحرير العربي سنة 1952.

    حركة التحرير العربي

    بعد حل جميع الأحزاب قام الشيشكلي بتأسيس تنظيم سياسي جديد يدين له بالولاء المطلق، عرف باسم حركة التحرير العربي . ولدت الحركة في مهرجان خطابي كبير وسط دمشق يوم 27 آب 1952، وكان تدشينها في ساحة باتت تُعرف من يومها باسم “ساحة التحرير،” نسبة لحركة التحرير العربي. خطب الشيشكلي أمام الجماهير المحتشدة في الساحة، معلناً برنامجه السياسي المؤلف من 31 نقطة، منها السعي لتوحيد البلاد العربية وتحريرها من الهيمنة الأجنبية، مع ضمان حقوق الأقليات والمرأة. طالب بإعادة توزيع أراضي الدولة على الفلاحين وإنشاء مدارس زراعية وصناعية، مع جعل التجنيد العسكري إجبارياً لكل مواطن بلغ الثامنة عشرة من عمره.

    كانت حركة التحرير العربي عبارة عن خليط أيديولوجي بين القومية العربية ومبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي التي رافقت الشيشكلي منذ مرحلة الشباب. ومن أهم سماتها كان فتح الانتساب أمام النساء والسماح لهن بالعمل في السياسة والترشح لعضوية المجلس النيابي، عكس الأحزاب التقليدية التي كانت عضويتها محصورة بالذكور فقط. وفي 24 تشرين الأول 1952، افتُتح فرع حركة التحرير العربي في حلب، معقل حزب الشعب، ودخل الشيشكلي المدينة في استعراض جماهيري كبير مؤلف من ألف سيارة ومركبة. وفي خطابه، وصف حركته قائلاً:

    كانت حركة التحرير العربي وليدة الانقلاب العسكري والضرورات الوطنية التي دعت إليه، فهي حركة انقلابية إصلاحية لا علاقة لها بأي حركة سابقة أو حزب قديم، ولكنها تفتح صدرها لجميع العناصر الطيبة دون تفريق أو تمييز. وهذا قلبي وهذه يدي، أمدهما للمواطنين الصادقين إذا أحبوا العمل لمصلحة سورية ومصلحة العروبة، وما على الرسول إلا البلاغ.

    عُيّن الدكتور مأمون الكزبري أميناً عاماً للحركة واختار الشيشكلي لنفسه لقب “الرئيس المؤسس.”

    الانتخابات النيابية

    دعا أديب الشيشكلي إلى انتخابات نيابية سنة 1953، بعد تقليص عدد مقاعد البرلمان من 114 إلى 82 مقعداً. وكانت هذه الانتخابات هي الأولى في تاريخ سورية التي تُشارك فيها المرأة السورية، وذلك عبر المدرسة ثريا الحافظ، التي ترشحت عن مدينة دمشق ولكنها لم تنجح. أجريت الانتخابات في ظلّ مقاطعة شاملة من جميع الأحزاب التقليدية، وفازت حركة التحرير العربي بستين مقعداً، وحصل الحزب السوري القومي الاجتماعي على مقعد واحد نظراً لتحالفه مع الشيشكلي. وقد انتُخب مأمون الكزبري رئيساً لمجلس النواب.

    الرئيس أديب الشيشكلي يلقي القسم الرئاسي في 11 تموز 1953.
    الرئيس أديب الشيشكلي يلقي القسم الرئاسي في 11 تموز 1953.

    الشيشكلي رئيساً للجمهورية

    رشّح مجلس النوّاب الجديد الشيشكلي لرئاسة الجمهورية من دون أي منافس، وانتُخب رئيساً في 11 تموز 1953 بعد حصوله على 90% من أصوات الناخبين، الذين قدر عددهم بمليوني مواطن سوري. ومع بداية عهده المباشر، بدأ العمل بدستور جديد كان الشيشكلي قد وضعه وصدّق عليه رئيس الدولة فوزي سلو في 16 حزيران 1953. أبرز ما جاء في دستور الشيشكلي كان فيما يتعلق بصلاحيات رئيس الجمهورية وطريقة انتخابه، فأصبح الانتخاب مباشراً من الشعب لا من مجلس النواب كما جرت العادة منذ سنة 1932، وصار الوزراء مسؤولين أمامه فقط وليس أمام المجلس النيابي.

    مؤتمر حمص

    خلت حكومة الشيشكلي من جميع الأحزاب التقليدية التي أجمعت على مقاطعة العهد بقيادة هاشم الأتاسي. دعا الأتاسي إلى اجتماع كبير في داره بحمص في تموز 1953، حضره ممثلون عن الحزب الوطني وحزب الشعب وحزب البعث، تقرر فيه عدم الاعتراف بشرعية حكم الشيشكلي وبضرورة محاربته بكل الطرق القانونية. ومن مقره في جبل الدروز، أيد الزعيم سلطان باشا الأطرش مقررات مؤتمر حمص وأصدر بياناً وصف فيه الشيشكلي بالديكتاتور الذي يجب على السوريين إسقاطه. نظراً لتقدّمهما في السن ومكانتهما الرفيعة في المجتمع السوري، لم يستطع الشيشكلي من اعتقال هاشم الأتاسي وسلطان الأطرش، ولكنّه أمر باعتقال نجليهما عدنان الأتاسي (وهو من أعضاء حزب الشعبومنصور الأطرش (وهو من قادة حزب البعث).

    وقد اشتد الخلاف بين الشيشكلي والبعثيين بعد أن كانوا من أشد مؤيديه في بداية العهد، فقرر اعتقال ميشيل عفلق وصلاح البيطار ومعهم أكرم الحوراني، ابن حماة وصديق طفولة الشيشكلي، الذي كان يرأس الحزب الاشتراكي العربي. وفي شهر كانون الثاني 1953 فرّ ثلاثتهم إلى لبنان، وشكّلوا تحالفاً سياسياً ضد الشيشكلي تمثل في دمج حزبيهم في حزب واحد أطلق عليه اسم حزب البعث العربي الاشتراكي.

    سقوط الشيشكلي

    كانت عبارة الشيشكلي الشهيرة: “إن أعدائي يشبهون الأفعى، رأسها في جبل الدروز (معقل سلطان الأطرش) ومعدتها في حمص (معقل هاشم الأتاسي)، أما ذيلها فهو في حلب (مقر حزب الشعب). إذا سحقت الذيل ماتت الأفعى.” وقد بدأ الشيشكلي بضرب خصومه في جبل الدروز بعد اكتشاف سلاح في القريا قادماً من العراق. وكان العراق قد وضع نفسه في مواجهة الشيشكلي إقليمياً وقام بإنشاء فصيل من المنشقين عن الجيش السوري، المعروفين بقوات سورية الحرّة.

    وفي كانون الأول 1953، انطلقت مظاهرات كبيرة ضد حكم الشيشكلي من حلب، ردّ عليها الرئيس باعتقال عدد كبير من زعماءالمدينة، مثل رشدي الكيخيا وعبد الوهاب حومد. وقد شملت الاعتقالات فيضي الأتاسي في حمص والأمير حسن الأطرش في جبل الدروز  وصبري العسلي، أمين عام الحزب الوطني. وفي 25 شباط 1954 قام النقيب مصطفى حمدون باحتلال إذاعة حلب، (وهو من جماعة أكرم الحوراني) وطلب إلى الشيشكلي الاستقالة ومغادرة البلاد فوراً. اشترك معه في العصيان كل من العقيد فيصل الأتاسي (ضابط أركان اللواء الثاني) والعقيد أمين أبو عساف (قائد اللواء الثالث في دير الزور) والمقدم عبد الجواد رسلان (قائد حامية الساحل الغربي في اللاذقيةوالعقيد محمود شوكت (قائد المنطقة الوسطى) والعقيد عمر قباني (قائد حامية حوران).

    دعا الرئيس الشيشكلي قادة أركانه إلى اجتماع عاجل في قصر الضيافة في شارع أبي رمانة، تقرر فيه تنحي الرئيس ومغادرته البلاد إلى السعودية، تجنباً لسفك مزيد من الدماء. وقد اتُخذ هذا القرار على الرغم من أن الشيشكلي كان ما يزال قادراً على سحق التمرد عن طريق الدبابات والمدافع الثقيلة التي بقيت تحت إمرته في قطنا والقابون، وعبر قوى الهجانة التي كانت بقيادة شقيقه صلاح الشيشكلي. قبل مغادرته دمشق أذاع الشيشكلي البيان التالي:

    رغبة مني في تجنب سفك دماء الشعب الذي أحب، والجيش الذي ضحيت بكل غال من أجله، والأمة العربية التي حاولت خدمتها بإخلاص صادق، أتقدم باستقالتي من رئاسة الجمهورية إلى الشعب السوري الذي انتخبني والذي أولاني ثقته آملاً أن تخدم مبادرتي هذه قضية وطني، وأبتهل من الله أن يحفظه من كل سوء وأن يوحده ويزيده منعة وأن يسير به إلى قمة المجد.

    توجه الشيشكلي إلى بيروت، ومن بعدها إلى السعودية. وعلى الفور تولّى رئاسة الجمهورية بالوكالة رئيس مجلس النواب  مأمون الكزبري من 26 شباط وحتى 1 آذار 1954. عاد بعدها هاشم الأتاسي لإكمال ما تبقى من ولايته الدستورية التي كانت قد قُطعت إثر انقلاب الشيشكلي الثاني سنة 1951. وقد عدّ الأتاسي أن مرحلة الشيشكلي لم تمر على سورية وفور دخوله القصر الجمهوري قام بإبطال دستور الشيشكلي وبرلمان الشيشكلي ومعظم القرارات التي صدرت في عهده وحملت توقيعه.

    الشيشكلي في سنوات المنفى.
    الشيشكلي في سنوات المنفى.

    المؤامرة العراقية

    بعد سنتين من خروجه من سورية وقع الاختيار على أديب الشيشكلي للقيام بانقلاب عسكري ضد شكري القوتلي الذي كان قد عاد إلى رئاسة الجمهورية سنة 1955. الانقلاب الجديد كان بتخطيط وتمويل من الوصي على عرش العراق الأمير عبد الإله، عدو الأمس بالنسبة للشيشكلي. تناسى  الأمير عبد الإله ما حدث بينه وبين الشيشكلي في الماضي وتواصل به عبر شقيقه صلاح للقيام بانقلاب يُطيح برجال الدولة السورية المحسوبين على مصر والرئيس جمال عبد الناصر، ومنهم القوتلي ورئيس مجلس النواب أكرم الحوراني وعبد الحميد السراج، مدير المكتب الثاني (شعبة المخابرات العسكرية).

    اجتمع الشيشكلي بشقيقه بباريس مع عدد من الضباط العراقيين في شهر نيسان من العام 1956، ثم سافر إلى لبنان للقاء شخصيات سورية كانت من حلقته الضيقة في الماضي القريب، يمكنه الاعتماد عليها في تنفيذ الانقلاب الجديد. وقد وصل الشيشكلي إلى بيروت في تموز 1956 متخفياً واجتمع مع ضباطه السابقين قبل أن يعدل عن فكرة الانقلاب خوفاً من عواقبها على أفراد أسرته في حماة، في حال عدم نجاح الانقلاب. وبعد انسحاب الشيشكلي من المؤامرة العراقية قرر الأمير عبد الإله التعاون مع مجموعة من السياسيين للقيام بالانقلاب المطلوب، ولكنّ المؤامرة كُشفت من قبل المخابرات السورية واعتُقل جميع المشتركين بها من وزراء ونواب. مثلوا أمام القضاء العسكري في محكمة علنية أقيمت على مدرج الجامعة السورية، غاب عنها الشيشكلي وحكم عليه فيها بالإعدام بتهمة الخيانة العظمى.

    الوفاة

    عاش أديب الشيشكلي سنواته الأخيرة في البرازيل، في منزل قريب من جسر نهر داس واغتيل على يد المواطن السوري نواف غزالة في الساعة الثالثة من عصر يوم 27 أيلول 1964.  وقال غزالة إنه قتل الشيشكلي انتقاماً لأهله وشهداء الدروز الذين قتلوا في حملة الشيشكلي على جبل الدروز سنة 1953.

    آخر صورة للشيشكلي في منفاه في البرازيل.
    آخر صورة للشيشكلي في منفاه في البرازيل.

    ذكرى الشيشكلي

    صدرت في سنوات لاحقة مجموعة دراسات عن حياة أديب الشيشكلي، منها كتاب من أسرار الشيشكلي لنديم أبو إسماعيل، الذي قدم له الأمير حسن الأطرش سنة 1954. تلاه كتاب أديب الشيشكلي: البداية والنهاية للصحفي السوري هاني الخيّر سنة 1994، وكتاب أديب الشيشكلي: الحقيقة المغيبة لسعد فنصة وبسام البرازي سنة 2022. ومن أهم ما جاء في هذا الكتاب هو توجيه الاتهام لحمد عبيد، وزير الدفاع سنة 1964، بتصفية الشيشكلي انتقاماً لما حدث بينه وبين الدروز.

    وقد قدّم الشيشكلي بقلمه كتاب من مذكرات حكومة حسني الزعيم للوزير والمحامي فتح الله صقال سنة 1951، واجتمع  بالصحفي البريطاني باتريك سيل في أثناء التحضير لكتابه الأول، الصراع على سورية، الذي صدر في لندن سنة 1965. وفي سنة 1997، ظهرت شخصية الشيشكلي على شاشة التلفزيون في الجزء الثاني من مسلسل حمام القيشاني، ولعب دوره الفنان أسامة الروماني.

    المناصب

    رئيس أركان الجيش والقوات المسلّحة (3 كانون الأول 1951 – 11 اموز 1953)
    رئيس الحكومة السورية (11 تموز 1953 – 25 شباط 1954)
    رئيساً للجمهورية السورية (11 تموز 1953 – 25 شباط 1954)

     

  • بوابة الصالحية

    بوابة الصالحية بدمشق.
    بوابة الصالحية بدمشق.

    بوابة الصالحية، أو ساحة يوسف العظمة، ساحة شهيرة وسط مدينة دمشق، يربط شارع 29 أيار بينها وبين ساحة السبع بحرات، ولا علاقة عقارية بينها وبين منطقة الصالحية الواقعة على سفح جبل قاسيون. فيها يقع مبنى محافظة دمشق، وهي ملاصقة لمنطقة البحصة ومجاورة لفندق الشام وسُمّيت رسمياً باسم ساحة يوسف العظمة، تكريماً لوزير الحربية الذي استشهد في معركة ميسلون يوم 24 تموز 1920.

    البداية

    في نهايات القرن التاسع عشر، اشتد العمار في منطقة الصالحية، وكان يفصلها عن أحياء دمشق القديمة سلسلة من البساتين الخاوية، يربط بينها طرق صغيرة ومتعرجة أنشأت في العهد العثماني. وفي سنة 1903 فُتحت جادة رئيسية سمّيت بطريق الصالحية، تحوّلت مع مرور الوقت إلى مركز تجاري، تبدأ شمالي منطقة البحصة إلى الطريق النازل جنوباً مخترقاً الطرف الغربي من محلّة ساروجا.

    أطلق على طريق شمالي البحصة اسم “بوابة الصالحية،” وسمّيت الجادة بجادة الصالحية، علماً أنه لم يكن هناك بوابة في هذه المنطقة، وقد سمّيت بالبوابة رمزياً لكونها تؤدي إلى منطقة الصالحية الأصلية. ولما امتد العمار في المنطقة في النصف الأول من القرن العشرين، وشيّد من حولها محلّة الشهداء وشارع العابد، صارت تعرف بالصالحية بعد أن أسقط الناس كلمة “بوابة” من اسمها. ومن أشهر معالمها مبنى محافظة دمشق وتمثال الشهيد يوسف العظمة في وسطتها، ومصرف سورية المركزي المقابل لها في نهاية شارع 29 أيار والمركز الثقافي الروسي القريب وفندق الشام القريبين منها.

    طريق الصالحية قديماً.
    طريق الصالحية قديماً.

     

  • البرامكة

    البرامكة سنة 1915.
    البرامكة سنة 1915.

     

    البرامكة، حي سكني وتجاري وسط مدينة دمشق الحديثة خارج السور، فيه شيّد معهد الطب العثماني بالقرب من المستشفى الحميدي الذي شكّل مع معهد الحقوق نواة الجامعة السورية سنة 1923. سمّيت المحلّة بالبرامكة نسبة إلى مقبرة آل برمك التي كانت في موضعها قديماً. أما قبلها فكانت منطقة البرامكة قرية صغيرة في العصر الأموي، عرفت باسم “صنعاء دمشق” وتعود تسميتها إلى أهالي اليمن الذين نزلوا فيها وسمّوها باسم مدينتهم.

    كان لها شأن كبير في زمن الفرع المرواني الأموي وفي عصر المماليك سُمّيت المحلّة بمقبرة الصوفية. وفي منطقة البرامكة اليوم قبور لعدد من مشايخ الإسلام أمثال ابن تيمية وابن كثير وابن صلاح الحنبلي وقطب الدين الخُضيري.

    معهد الطب الجامعة السورية

    بقيت البرامكة مقبرة خاوية من أي إعمار حتى مرحلة متقدمة من العهد العثماني، يوم قرر السلطان عبد الحميد الثاني تحويلها إلى منطقة علمية وأنشأ فيها المستشفى الحميدي، الذي عرف لاحقاً بمشفى الغرباء (أو المستشفى الوطني بعد سنة 1946). وفيها كان المقر الدائم لمعهد الطب العثماني، الذي افتتح بداية في منطقة الصالحية في ذكرى جلوس السلطان عبد الحميد على العرش يوم 1 أيلول 1903 ونُقل لاحقاً إلى البرامكة.

    زمن الانتداب الفرنسي

    في زمن الانتداب الفرنسي، أصبحت البرامكة مربضاً للدبابات الفرنسية وفيها كان مركز التلغراف العسكري أيام الثورة السورية الكبرى. وفي سنة 1923 دمجت سلطة الانتداب معهد الطب مع معهد الحقوق في مؤسسة تعليمية عُرفت بالجامعة السورية  لغاية تحويل اسمها إلى جامعة دمشق سنة 1958.

    البرامكة اليوم

    إضافة للبناء الرئيسي للجامعة، تحتوي البرامكة اليوم على المؤسسة العامة للصناعات الكيميائية والمؤسسة العامة للصناعات الهندسية، وفيها مقر الوكالة العربية السورية للأنباء (سانا) ومدينة تشرين الرياضية. و

     

  • عبد الحميد السراج

    العقيد عبد الحميد السراج
    العقيد عبد الحميد السراج

    عبد الحميد السراج (1925 -23 أيلول 2013)، ضابط سوري من حماة  وأحد أشهر الشخصيات العسكرية العربية في خمسينيات القرن العشرين. خاض حرب فلسطين في صفوف جيش الإنقاذ سنة 1948 وكان رئيساً للمكتب الثاني (شعبة المخابرات العسكرية) في سورية من سنة 1955 ولغاية تعيينه وزيراً للداخلية في الجمهورية العربية المتحدة عام 1958. لعب دوراً محورياً في إقامة الوحدة وكان من أشد المعجبين بالرئيس المصري جمال عبد الناصر وأقرب المقربين منه. عينه عبد الناصر رئيساً للمجلس التنفيذي في سورية – بمنزلة رئيس حكومة – ثم نائباً لرئيس الجمهورية لغاية 22 أيلول 1961. ارتبط اسمه بتصفية الحزب السوري القومي الاجتماعي في الخمسينيات وضرب الحزب الشيوعي السوري في زمن الوحدة وكان له دور كبير في تسليح المعارضة اللبنانية ضد الرئيس كميل شمعون سنة 1958. اعتقل في زمن الانفصال ونفذّت عملية استخباراتية دقيقة لإخراجه من سجن المزة ونقله إلى القاهرة. عاش ضيفاً على كل رؤساء مصر من عبد الناصر إلى محمد مرسي والرئيس المؤقت عدلي منصور وتوفي في القاهرة يوم 23 أيلول 2013.

    البداية

    ولد عبد الحميد السراج في حماة وكان والده رجلاً بسيطاً يملك حانوتاً صغيراً لأغراض السمانة. دَرَس في مدارس حماة الحكومية وبعد نيله الشهادة الثانوية انتسب إلى مدرسة الدرك ثمّ إلى كلية حمص الحربية. عُيّن في بداية حياته المهنية في مخفر باب الفرج في مدينة حلب قبل أن يتقدم بطلب الانضمام إلى جيش الإنقاذ لمحاربة الصهاينة في فلسطين سنة 1947.

    في جيش الإنقاذ (1947-1948)

    رُفض طلبه بداية من قبل فوزي القاوقجي، قائد جيش الإنقاذ، نظراً لقلّة خبرته العسكرية فتوسط لأجله صديقه أديب الشيشكلي، ابن مدينة حماة وقائد فوج اليرموك في جيش الإنقاذ. أقنع الشيشكلي قائد جيش الإنقاذ بقدرات عبد الحميد السراج، فدخل في صفوف المتطوعين العرب وشارك في معارك فلسطين حيث تعرّف إلى قائد الجيش السوري حسني الزعيم. أحبه ووثق به وعند قيامه بانقلاب على رئيس الجمهورية شكري القوتلي يوم 29 آذار 1949 عينه مرافقاً عسكرياً له.

    مرافقاً لحسني الزعيم سنة 1949

    رافق السراج حسني الزعيم أثناء فترة حكمه القصيرة بدمشق وكان من المفترض أن يكون مناوباً في بيته ليلة الانقلاب العسكري الذي أطاح به يوم 14 آب 1949. غياب السراج عن عمله في تلك الليلة أثار الكثير من التساؤلات حول علمه المسبق بالانقلاب أو حتى مشاركته به إلى جانب أديب الشيشكلي.

    في زمن الشيشكلي (1951-1954)

    وبعد اعتقال الزعيم ومقتله، دخل السراج في وحدات سلاح المشاة وشارك في انقلاب الشيشكلي على رئيس أركان الجيش اللواء سامي الحناوي في كانون الأول 1949. وعندما أصبح الشيشكلي رئيساً للجمهورية في تموز 1953 أرسل السراج إلى فرنسا لاتباع دورة عسكرية مكثفة. وعند عودته إلى دمشق عُيّن مديراً للشعبة الأولى لغاية سقوط حكم الشيشكلي في شباط 1954. تعرض السراج لمضايقات من الضباط الذين قاموا بالانقلاب على أديب الشيشكلي، وطالبوا تسريحه من الجيش بسبب قربه من الشيشكلي ومن حسني الزعيم من قبله. توسط السراج لدى رئيس الحكومة صبري العسلي وقال إن علاقته بالشيشكلي انتهت يوم خروجه من سورية. اكتفى العسلي بإبعاده عن الجيش وفي صيف العام 1954، عينه ملحقاً عسكرياً في السفارة السورية بباريس.

    في رئاسة المكتب الثاني (1955-1958)

    تزامنت عودة السراج إلى سورية مع اغتيال العقيد عدنان المالكي، رئيس شعبة العمليات، في 22 نيسان 1955. قُتل المالكي في الملعب البلدي بدمشق وقرر رئيس الأركان شوكت شقير تكليفه بإدارة الشعبة الثانية خلفاً للعقيد مصطفى رام حمداني. كان السراج في الثلاثين من عمره يومها، وأعطي صلاحيات مطلقة لتعقب الجناة ومحاسبتهم. أثبتت تحقيقاته ضلوع عناصر من الحزب السوري القومي الاجتماعي في جريمة المالكي، فأمر باعتقال رئيس الحزب عصام المحايري وجوليت المير، أرملة الرئيس لمؤسس أنطون سعادة. شملت اعتقالات السراج كل عناصر الحزب المقيمين في سورية، ومنهم الشعراء محمد الماغوط وأدونيس، وطلب إلى رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي إعلان الأحكام العرفية لكي يتمكن من استكمال التحقيقات والمداهمات بحق بقية القوميين. وعندما رفض الأتاسي طلبه، هدده السراج قائلاً: “إن كنت يا فخامة الرئيس لا تعلن الأحكام العرفية فلن أستطيع ضمان حياة المعتقلين.” نهره الأتاسي وطلب إليه الخروج من مكتبه فوراً، مهدداً بتسريحه ومعاقبته على هذا التطاول على مقام الرئاسة.

    السراج والعدوان الثلاثي

    وعلى الرغم من انزعاج الأتاسي الكبير من أسلوبه وتصرفاته، إلى أنه قرر الاحتفاظ بالسراج لحين انتهاء التحقيقات في جريمة مقتل المالكي، خشياً أن يؤدي تسريحه المبكر إلى نقمة من الضباط. وكانت النتيجة أن السراج بقي في منصبه إلى بعد انتهاء ولاية الأتاسي وانتخاب شكري القوتلي رئيساً للجمهورية في 18 آب 1955. لم تُعجب سياساته البوليسية الرئيس القوتلي ولكنه أبقاه في منصبه نظراً لتفانيه بالعمل ونزعته العروبية والشعبية الكبيرة التي كان يحظى بها في المؤسسة العسكرية. وعندما وقع العدوان الثلاثي على مصر في تشرين الأول 1956، سافر القوتلي إلى موسكو لحشد الدعم الدولي لصالح الرئيس جمال عبد الناصر، واستغل السراج غيابه لنسف أنابيب شركة نفط العراق (IPC) المارة عبر الأراضي السورية، دون عِلم أو موافقة رئيس الجمهورية. وقد أدى هذا التصرف إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين دمشق ولندن، ولكنه قرّب السراج كثيراً من جمال عبد الناصر، أعجب كثيراً بشجاعته وإخلاصه.

    المؤامرة العراقية

    في نهاية العام 1956 أعلن السراج عن محاولة انقلاب ضد الرئيس القوتلي، بتمويل وتخطيط يقف من الوصي على عرش العراق الأمير عبد الإله. كان العراق يومها في أوج مواجهته مع مصر ورئيسها، وحاول قادته القيام بانقلاب عسكري في سورية لنسف تحالف القوتلي مع عبد الناصر. تعاون العراق مع فلول الحزب السوري القومي الاجتماعي ومع شخصيات سورية نافذة مثل الرئيس الأسبق أديب الشيشكلي والنواب منير العجلاني وميخائيل إليان وعدنان ابن هاشم الأتاسي. اتهمهم السراج بمحاولة تصفيته شخصياً وقتل الزعيم الاشتراكي أكرم الحوراني – المحسوب على عبد الناصر. وجاء في قرار الاتهام إنهم كانوا سيوجهون إنذاراً إلى القوتلي: إما قطع علاقة سورية مع مصر والاتحاد السوفيتي، أو التنحي عن الحكم.

    صدر حكم غيابي باعتقال الشيشكلي المقيم في أوروبا يومها وتمكن وميخائيل إليان من الهروب قبل صدور مذكرة اعتقاله. أما الأتاسي والعجلاني، فقد اعتقلوا بأمر مباشر من السراج بعد إسقاط عنهم الحصانة النيابية وسيقوا مكبلين مهانين إلى سجن المزة. أشرف السراج على التحقيق معهم بنفسه ولم يوفر نوعاً من أنواع التعذيب لاستنطاقهم. شكلت محكمة خاصة للمتهمين برئاسة الضابط الشيوعي عفيف البزري، وصدرت عنها أحكام تراوحت بين الإعدام والسجن المؤبد.

     محاولة إقصاء السراج

    حاول الرئيس القوتلي التخلّص من عبد الحميد السراج وفي سنة 1957 أصدر مرسوماً بتعيينه ملحقاً عسكرياً إلى مصر، إلى أنه تراجع عن قراره إبان تمرد بعض ضباط الجيش في معسكر قطنا القريب من دمشق، الذين هددوا بانقلاب عسكري في حال تعرض الرئيس للسراج وطالبوا بالمقابل بإقالة رئيس الأركان توفيق نظام الدين ومعاونه عزيز عبد الكريم، وعدوهم المسؤولين عن إبعاد السراج. وبعد طيّ القرار ضغط السراج على القوتلي لتسريح نظام الدين من منصبه واستبداله باللواء عفيف البزري، رئيس المحكمة التي حكمت بالإعدام على عدنان الأتاسي ومنير العجلاني ورفاقهم.

    الوحدة مع مصر سنة 1958  

    توجه عفيف البزري إلى القاهرة على رأس وفد من العسكريين في 11 كانون الثاني 1958، لمقابلة عبد الناصر ومطالبته بتوحيد مصر وسورية بأي شكل يراه مناسباً. سافر البزري ورفاقه دون علم رئيس الجمهورية، ودون أخذ موافقة وزير الدفاع خالد العظم، ولم يكن بحوزتهم لا تصريح أمني أو جوازات سفر. حصانتهم الوحيدة كانت أوامر عبد الحميد السراج الشفهية، الذي دعاهم للبقاء في مصر حتى إقناع عبد الناصر بالوحدة وطلب إلى القوتلي عدم اعتراضهم أو ملاحقتهم.

    خوفاً من نقمة الجيش والشارع الناصري، قبل القوتلي بـالإملاءات المفروضة عليه من قبل عفيف البزري وعبد الحميد السراج وأرسل وزير الخارجية صلاح البيطار إلى القاهرة لإضفاء شرعية سياسية على الوفد العسكري. وعند إتمام الاتفاق مع عبد الناصر، توجه القوتلي إلى القاهرة برفقة السراج ورئيس الحكومة صبري العسلي، وفي شباط 1958 أعلنوا رسمياً عن ولادة الجمهورية العربية المتحدة.

    الرئيس جمال عبد الناصر على شرفة قصر الضيافة بدمشق وخلفه عبد الحميد السراج في شباط 1958.
    الرئيس جمال عبد الناصر على شرفة قصر الضيافة بدمشق وخلفه عبد الحميد السراج في شباط 1958.

    محاولة اغتيال عبد الناصر في دمشق

    شارك السراج في الاستقبال الشعبي الكبير الذي أقيم لعبد الناصر بدمشق وكان مسؤولاً عن حمايته الشخصية. وأثناء وجود الرئيس في قصر الضيافة، أعلن السراج أن السعودية الممثلة بملكها سعود بن عبد العزيز آل سعود كانت تخطط لاغتيال عبد الناصر في سورية. قال السراج أنهم تواصلوا معه لترتيب عملية الاغتيال وبأنه تظاهر بقبول المشاركة بهدف كشفها أمام الرأي العام العربي. وعرض إلى عبد الناصر شيكات صادرة عن البنك العربي، قدّمت له من الملك سعود لتأمين نفقات عملية الاغتيال.

    الثورة اللبنانية سنة 1958

    وفي صيف العام 1958 كلف السراج بالتواصل مع المعارضة النيابية للرئيس كميل شمعون، المناهض لعبد الناصر والقريب من الولايات المتحدة الأمريكية. بدأ السراج بتمويل المعارضة في لبنان، الممثلة بكمال جنبلاط وحميد فرنجية ورئيس الحكومة الأسبق صائب سلام. شكلت كتائب مسلحة في بيروت جاء سلاحها من المكتب الثاني بدمشق مع كميات كبيرة من الديناميت والذخيرة، وتمكنت من إسقاط شمعون ومنعه من تجديد ولايته الرئاسية.

    الرئيس عبد الناصر مع عبد الحميد السراج في مصر.
    الرئيس عبد الناصر مع عبد الحميد السراج في مصر.

    تصفية الشيوعيين

    كافئ عبد الناصر عبد الحميد السراج بتعيينه وزيراً للداخلية في الإقليم الشمالي. استخدم جهاز الأمن لضرب قواعد الحزب الشيوعي في سورية وأمر باعتقال قادته، باستثناء خالد بكداش الذي هرب إلى أوروبا الشرقية تفادياً لبطش السراج ورجاله. جمع رجال المباحث في قلعة دمشق وأعلن حربه على الشيوعيين السوريين، وعند اعتراض بعض الضباط وقالهم إن الحزب الشيوعي فيه شعراء وكتاب لا يجب معاملتهم على أنهم مجرمون، ردّ السراج بسخرية: “كيف تريدون أن نعاملهم؟ هل نضعهم على الرف ونضرب لهم على الدف؟” ومن أبرز ضحايا السراج يومها كان القائد الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو، الذي مات تحت التعذيب في معتقلات المكتب الثاني يوم 25 حزيران 1959. قيل إنه ذوّب بالأسيد وظلّت هذه التهمة تلاحق السراج حتى الممات.

    عبد الحميد السراج في مصر سنة 1960.
    عبد الحميد السراج في مصر سنة 1960.

    السراج رئيساً للمجلس التنفيذي

    تصاعد نفوذ السراج بشكل كبير جداً وفي 20 أيلول 1960، عينه عبد الناصر رئيساً للمجلس التنفيذي في سورية، أي بمنزلة رئيس حكومة، إضافة لمنصبه وزيراً للداخلية. ولكنّه اصطدم مع ممثل عبد الناصر بدمشق، المشير عبد الحكيم عامر، وانطلقت بينهما صراعات مريرة على النفوذ والسلطة. اختلفا في عدة أمور كانت آخرها حول قرارات التأميم التي صدرت عن رئيس الجمهورية في تموز 1961. عارض السراج تأميم المصانع في سورية، محذراً من نقمة تجار وصناعي حلب ودمشق، واقترح الاكتفاء بتأميم المصارف السورية والعربية فقط. أمّا المشير عامر فقد أيد قرار التأميم ومن دون تحفظ.

    غضب عبد الناصر من موقف السراج وفي الصباح الباكر استدعاه إلى داره في منشية البكري في القاهرة ووبخه توبيخاً شديداً بحضور مدير المخابرات المصرية صلاح نصر. وجّه إليه عبد الناصر كلاماً قاسياً وقال: “أنت عايز إيه يا عبد الحميد؟ عاوز أعملك أي عشان ترضى؟ إنني لا أستطيع أن أفهم تصرفاتك وتصرف رجالك في دمشق.” وكان هذا الغضب الكبير ناجماً عن تحريض عبد الحكيم عامر المستمر على عبد الحميد السراج، الذي طالما كان يدعو عبد الناصر إلى كف يده عن سورية ونقله إلى مصر ليكون بعيداً عن قاعدته الأمنية وعناصره الذين يكنون له ولاءً مطلقاً.

    حاول السراج تدارك الموقف بسرعة ونزل بنفسه إلى مقر الشركة الخماسية، كبرى الشركات الصناعية السورية، للإشراف على تأميمها ولكنّ هذا لم ينفع في ترميم الثقة بينه وبين عبد الناصر. استجاب الرئيس لنصيحة المشير ونقل السراج إلى مصر مع استحداث منصب خاص به: نائباً لرئيس الجمهورية للشؤون الداخلية. كان منصباً شكلياً لا سلطة حقيقية له، وقد تألم السراج كثيراً بعد تعييه فيه وفي كتابه ما الذي جرى في سورية يقول محمد حسنين هيكل إن عبد الناصر قال للسراج: “قد سببتم ليّ من المتاعب ما لم يسببه لي أعداء الوحدة وخصومها.”

    اعتقال السراج

    اشتد الخلاف بين السراج والمشير عامر وفي 22 أيلول 1961 دعاهم عبد الناصر إلى مكتبه في القاهرة، قبل ستة أيام من انقلاب الانفصال الذي أطاح بجمهورية الوحدة. اجتمع خمس مرات مع السراج على مدى عشرين ساعة متقطعة، وعندما أدرك الأخير أن موقف الرئيس كان أكثر تعاطفاً مع موقف خصمه المشير، عاد السراج إلى دمشق واستقال من منصبه، وقيل إنه أُقيل. فُتحت سجون السراج وسرّح الكثير من ضباطه الأوفياء وخُتمت مكاتبه بالشمع الأحمر. غاب السراج عن المشهد في الأيام الأخيرة من الوحدة ليظهر بعد ساعات قليلة من انقلاب الانفصال في 28 أيلول 1961، عند دعوته إلى مبنى الأركان العامة بدمشق. حاول مهندس الانقلاب عبد الكريم النحلاوي استمالته لكونه الأعلم بأسرار عبد الناصر وكل تفاصيل حكمه في سورية، ولكنه رفض التعاون وقال إنه وعلى الرغم من خلافة الكبير مع عبد الناصر لا يزال موالياً له ولجمهورية العربية المتحدة، معترضاً وبشدة على الانفصال. بعدها بأيام معدودة، أمر النحلاوي باعتقاله من منزل أحد أقرباء زوجته في حيّ المالكي ونقله إلى سجن المزة، نحت حراسة مشددة.

    خبر وصول السراج إلى مصر في جريدة الأهرام.
    خبر وصول السراج إلى مصر في جريدة الأهرام.

    تهريب السراج إلى مصر

    شُكّلت محكمة خاصة لمحاكة السراج كمجرم حرب، برئاسة المحقق عمر الربّاط، الذي وجه له 400 تهمة، أصغرها ستودي به إلى حبل المشنقة. ولكن عبد الناصر لم يرض هذا الختام للسراج وأمر بتهريبه من السجن. نُفذت العملية من قبل المخابرات المصرية والسفير المصري في لبنان عبد الحميد غالب، بمساعدة رئيس حرس السجن منصور الرواشدة، الذي أعطى السراج بذلة عسكرية ليتنكر برتبة “رقيب” في الجيش السوري وأخرجه من الزنزانة بعد صرف الحراسة عنها إلى سيارة سوداء كانت بانتظاره لنقله إلى لبنان. استضافة الزعيم الدرزي كمال جنبلاط في بيروت ليلة واحدة قبل سفره إلى الإسكندرية عبر سفينة حضرت خصيصاً من مصر لأجل هذه المهمة. علمت السلطات السورية بهروبه من جريدة الأهرام التي عنونت صفحتها الأولى في اليوم التالي: “السراج وحارسه في الرئيس.”

    الوفاة

    وفي مصر عين السراج بمنصب مدني في مؤسسة التأمينات الاجتماعية، بعيداً عن الأمور السياسية والعسكرية. رفض إجراء إي لقاء صحفي أو تلفزيوني وفي سنة 2005 توسط وزير الدفاع مصطفى طلاس لأجله ودعاه للعودة إلى سورية ولكنه رفض وظلّ مقيمياً في مصر لغاية وفاته عن عمر ناهز 88 عاماً في 23 أيلول 2013. أجريت له جنازة رسمية بصفته نائباً سابقاً للرئيس جمال عبد الناصر، حضرها ممثل عن وزير الدفاع المشير عبد الفتاح السيسي، ومهندس الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس محمد مرسي قبل وفاة السراج بشهرين.

    شهادة السراج

    قبل رحيله بعشر سنوات، اجتمع السراج مع الطبيب والباحث الفلسطيني كمال خلف الطويل، الخبير بالمرحلة الناصرية، الذي سأله:

    “حقاً، لِمَ أنت معتصم بالصمت بكل هذا الإصرار؟ هل هناك ما يدين أو يشين من يهمك أمره؟”

    “لأجله وحده لن أتكلم”، وأشار بسبابته إلى صورة على الحائط لجمال عبد الناصر بكامل قامته.

    وأضاف السراج:

    هو أشرف الرجال وأطهر الرجال ولن يقيض الله للأمة أحداً مثله إلى أجل طويل. لكن مأساته أنه حمل على كتفيه من لا يستحق ولا يقدِر، فأوصله وأوصلنا والأمة معه إلى هاوية بدأت بالانفصال ومرّت باليمن ووصلت إلى الهزيمة (عام 1967). إنه عبد الحكيم عامر. كم نصحته وبتكرار: انتبه يا ريّس، لن يخرب الرجل بيت الإقليم الشمالي فقط، بل والجنوبي بعده، والوحدة برمتها والجيش بأسره.

    سرّ السراج للدكتور الطويل قائلاً:

    زارني (المشير) في منزلي بعد إعلان الوحدة ببرهة، وبصحبته العميد عبد المحسن أبو النور، المعيَّن رئيساً لأركان الجيش الأول، وإثر ما غادرا اكتشفت مظروفاً على الكنبة التي جلس عليها عامر يحتوي على 5000 جنيه، فسارعت بالاتصال بعبد المحسن على اللاسلكي، وطلبت منه العودة للتو، وعندما وصل قلت له: “أبلغ المشير ألّا يعود إلى مسلك كهذا معي، فلست ممن يمكن شراء ولائهم”. فردّ الضابط المصري: “هوّ المشير لاحظ أن سجاد المنزل لا يليق بوزير داخلية، فارتأى أن يسهم في إبداله بلائقٍ، وهو العليم بضيق ذات يدك، فأخذ المبادرة بخفر ونية حسنة.

    وقد ورد هذا الحديث كاملاً في كتاب عبد الناصر والتأميم الصادر سنة 2019 للكاتب السوري سامي مروان مبيّض.

    ذكرى السراج

    وفي 1991 صدر كتاب عن حياة عبد الحميد السراج في لندن بعنوان السلطان الأحمر، وضعه عديله الصحفي السوري غسان زكريا. وبعدها بخمس سنوات، ظهرت شخصية السراج على شاشة التلفزيون في الجزء الثاني من مسلسل حمام القيشاني، ولعب دوره الفنان محمد آل رشي.

    المناصب:

    رئيس المكتب الثاني (نيسان 1955 – آذار 1958)
    وزيراً للداخلية (6 آذار 1958 – 16 آب 1961)
    رئيساً للمجلس التنفيذي (20 أيلول 1960 – 16 آب 1961)
    نائباً لرئيس الجمهورية للشؤون الداخلية (16 آب – 22 أيلول 1961)
    • سبقه في المنصب: لا يوجد
    • خلفه في المنصب: لا يوجد

     

     

  • بستان الكركة

    Damas 020بستان الكركة، بستان قديم كان موضعه في المنطقة التي تلي سوق ساروجا إلى الغرب حتى شارع العابد ومن ناحية الشمال وصولاً إلى ساحة السبع بحرات. يُنسب إلى نائب دمشق في العهد المملوكي محب الدين الكركي وقد أزيل كلياً وظهر في مكانه شارع 29 أيار الممتد بين ساحة السبع بحرات وبوابة الصالحية.

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !