بعد شهر من سقوط العهد الفيصلي وفرض الانتداب الفرنسي على سورية، قام يوسف العيسى بإطلاق صحيفة سياسية يومية من دمشق، سُمّيت ألف باء، وصدر العدد الأول منها يوم 1 أيلول 1920.(1) حصلت الصحيفة على ترخيص من حكومة الرئيس جميل الإلشي، ولكنها تعرضت للحجب الفوري من قبل الفرنسيين بسبب اعتراض صاحبها على إنشاء دولة لبنان الكبير وتقسيم سورية إلى دويلات بقرار من المندوب السامي الفرنسي الجنرال هنري غورو.
حققت جريدة ألف باء نجاحاً باهراً وتحوّلت إلى ناطق رسمي باسم الحركة الوطنية في سورية، حيث كانت افتتاحيات يوسف العيسى تعكس فكر وتوجهات رئيس الكتلة هاشم الأتاسي ولا يُضاهيها من حيث التأثير على الرأي العام وسِعة الإنتشار إلّا مقالات جبران تويني في جريدة النهار البيروتية.(2)
وعند الإعلان عن بدء ثورةالحاج أمين الحسيني في القدس سنة 1936، قام يوسف العيسى بإنشاء لجنة لدعم القضية الفلسيطينية في دمشق، بالتعاون مع الصناعي توفيق قباني والزعيم الدمشقي شكري القوتلي، مُكلفة بجمع التبرعات والسلاح للثوار.(3)
الوفاة
توفي يوسف العيسى عن عمر ناهز 78 عاماً سنة 1948، وذهبت رئاسة تحرير جريدته إلى نجله خالد العيسى.
جريدة سورية الجديدة، صحيفة يومية كانت تصدر في دمشق خلال سنوات حكم الملك فيصل الأول وفي بداية مرحلة الانتداب الفرنسي. كان رئيس تحريرها الصحفي حبيب كحّالة، الذي اشتهر لاحقاً عبر مجلّة المضحك المبكي من نهاية العشرينيات وحتى مطلع الستينيات.
صدر العدد الأول من جريدة سورية الجديدة يوم 27 كانون الأول 1918، بعد شهرين فقط من تحرير البلاد من الحكم العُثماني ومبايعة الأمير فيصل بن الحسين حاكماً عربياً على سورية. كانت تصدر بأربع صفحات من القطع الصغير في كل أيام الأسبوع عدا يوم الأحد.
جمعت بين أفراد أُسرتها عدداً من الصحفيين الكبار، كان ابرزهم نصوح بابيل، الذي عُرف لاحقاً عبر جريدة الأيام اليومية. توقفت جريدة سورية الجديدة عن الصدور عام 1926 بسبب موقفها الداعم للثورة السورية الكبرى، حيث تم إغلاق مكتبها والحجز على موجوداته من قبل سلطة الانتداب الفرنسي. فضّل حبيب كحّالة العودة إلى جمهوره بمطبوعة جديدة، حملت اسم المضحك المبكي وظهرت في الأسواق عام 1929.
جريدة الفيحاء، صحيفة يومية دمشقية صدر عددها الأول في 2 تشرين الثاني 1947 والأخير يوم 8 آذار 1963.
كانت جريدة الفيحاء من أولى الصحف التي ولدت في عهد الاستقلال، تصدر بأربع صفحات من القطع المتوسط، وكانت محسوبة على رئيس الجمهورية شكري القوتلي. كان صاحبها ورئيس التحرير سعيد تلّاوي قد عَمل لفترة وجيزة سكرتيراً صحفياً للرئيس القوتلي عام 1943.
جريدة ألف باء، صحيفة يومية دمشقية صدر العدد الأول منها في 1 أيلول 1920 والأخير يوم 8 آذار 1963.
تأسست جريدة ألف باء في مطلع عهد الانتداب الفرنسي في سورية وكان رئيس تحريرها الصحفي الفلسطيني المُقيم في دمشق يوسف العيسى.
جاء في تعريفه عن الصحيفة أنها “جريدة سورية تبحث في السياسة والأخلاق.”
بدأت الجريدة بأربع صفحات من القطع الكبير وتحولت إلى ثماني صفحات، وأصبحت الناطق الرسمي باسم الكتلة الوطنية المناهضة لحكم الانتداب الفرنسي في سورية، مما أدى إلى تعطيلها مراراً في الثلاثينيات والأربعينيات وملاحقة صاحبها من قبل أجهزة الأمن الفرنسية.
توفي يوسف العيسى سنة 1948 وذهبت رئاسة التحرير لنجله خالد العيسى، وأجبرت جريدة ألف باء على الدمج مع صحيفة النضال الدمشقية سنة 1952، في عهد العقيد أديب الشيشكلي. ولكنها عادت إلى شكلها القديم واستقلاليتها بعد القضاء على حكم الشيشكلي سنة 1954، ليتم حجبها في زمن الوحدة مع مصر سنة 1958. عادت إلى الصدور مجدداً في زمن الانفصال ولكنها توقفت نهائياً بعد صدور المرسوم العسكري رقم 4 في 8 آذار 1963، الذي عطل بموجبه جميع الصحف السياسية في سورية ما عدى جريدة البعث الناطقة باسم حزب البعث العربي الاشتراكي. وقد تعاقب على تحرير الجريدة عدد كبير من الصحفيين الكبار مثل وديع صيداوي سنة 1930 نذير فنصة سنة 1949 ومنذر الموصللي سنة 1955.
كانت جريدة العاصمة متنوعة المواضيع وتغطي كافة المراسيم والقوانين الصادرة عن الحكومة السورية، تصدر مرتين في الأسبوع بثماني صفحات من القطع المتوسط. وبعد احتلال الفرنسيين لسورية وخلع الأمير فيصل عن العرش، صارت الجريدة الرسمية لحكم الانتداب حتى عام 1922، عندما تحوّلت إلى نشرة شهرية ومن ثمّ إلى جريدة رسمية للدولة السورية سنة 1929، والتي ما زالت تصدر عن الحكومة السورية حتى اليوم. (1)
الحزب السوري الوطني، حزب سياسي ظهر في مدينة دمشق سنة 1919 وتوقف عن العمل بعد مقتل رئيسه المؤسس عبد الرحمن باشا اليوسف في صيف العام 1920، ولم يكن له أي فرع خارج مدينة دمشق.
تألف الحزب من هيئة إدارية من ستة عشر عضواً وهيئة استشارية فيها خمسة وعشرون عضواً، جميعهم من الأعيان. طالبوا باستقلال سورية بحدودها الطبيعية وضمان وحدة أراضيها، دون ذكر تحفظاتهم على الدولة الهاشمية التي أُقيمت في دمشق نهاية عام 1918، ولا على أميرها الشاب فيصل بن الحسين.
في بيانهم التأسيسي طالب أعضاء الحزب بنظام ملكي دستوري، يقيّد صلاحيات الأمير فيصل ويجعله مسؤولاً أمام مجلس نواب مُنتخب. كما طالبوا بالتساوي والحقوق بين جميع مكونات الشعب السوري، دون التفريق بين أي عرق أو دين. ولكي لا يبقى الحزب مُرتبط بالذوات، طالب أعضائه بإنشاء صناديق للتعاون الاقتصادي، لجمع تبرعات ورفع السوية المعيشية لكافة أبناء الشعب السوري. وكان ضمن أهدافهم تنشيط التجارة والصناعة وصون حقوق النقابات والعمال.(1)
في انتخابات عام 1919 فاز الحزب السوري الوطني بثلاثة مقاعد في المؤتمر السوري العام، أول سلطة تشريعية عَرفتها البلاد السورية في عهد الاستقلال، ذهبت لعبد الرحمن اليوسف وتاج الدين الحسني وعبد القادر الخطيب، الذين انتخبوا جميعاً عن مدينة دمشق.(2)
موقف الحزب من إنذار غورو
عند صدور إنذار الجنرال هنري غورو للملك فيصل يوم 14 تموز 1920، طالب الحزب بحل سياسي وعدم الدخول في أي مواجهة عسكرية مع الفرنسيين، بحجة أن الجيش السوري كان صغيراً وغير قادر على محاربة دولة عظمى مثل فرنسا. وكان الإنذار قد طالب الحكومة السورية بحلّ الجيش وجمع السلاح وقبول بنظام الانتداب الفرنسي. وجّهت اتهامات لأعضاء الحزب بالتخاذل والتراخي والخنوع وخرجت مظاهرات عارمة في دمشق ضد موقفهم من الإنذار الفرنسي. وقد إنهار الحزب السوري الوطني بعد مقتل عبد الرحمن اليوسف في قرية خربة غزالة في سهل حوران نهاية شهر آب من العام 1920، أي بعض أسابيع قليلة من فرض الانتداب الفرنسي على سورية.
أحزاب مشابهة
في عهد الإستقلال، ظهر حزب يُدعى الحزب الوطني وهو إستمرار للكتلة الوطنية التي نشطت في السياسة السورية في زمن الإحتلال الفرنسي، ولا علاقة لهذا الحزب بالحزب السوري الوطني الذي تم حلّه طوعياً بعد مقتل عبد الرحمن اليوسف.
كما شكّل ثلاث حكومات في عهد الرئيس شكري القوتلي، كانت الأولى في آب 1943 والأخيرة في نيسان 1946. وقد انتُخب الجابري رئيساً لمجلس النواب من 14 تشرين الثاني 1944 ولغاية 27 نيسان 1946 ولعب دوراً محورياً في المفاوضات النهائية مع الفرنسيين التي أدت إلى جلاء قواتهم عن سورية يوم 17 نيسان 1946. وبذلك يُعتبر سعد الله الجاري أحد الآباء المؤسسين للدولة السورية الحديثة.
البداية
ولِد سعد الله الجابري في حيّ السُّوَيقة في حلب وكان والده الحاج عبد القادر لطفي الجابري مُفتِيًا على المدينة، أمّا والدته حسنى مالك فكانت ربة منزل من أصول شركسيّة.(1) وكانت عائلة الجابري من الأشراف، ولها باع طويل في الزعامة منذ منتصف القرن الثامن عشر.(2)
دَرَس سعد الله الجابري في المدرسة الرشدية الحكومية ومن ثمّ في الكلية السُلطانيّة في إسطنبول، حيث تخرّج حاملاً شهادة في الحقوق. وقد سيق فور تَخَرُّجهِ إلى الخدمة العسكرية في الجيش العثماني وعُيّن على جبهة القوقاز.(3)
عُيّن شقيقه إحسان الجابري رئيساً لديوان الأمير فيصل وانتُخب سعد الله الجابري نائباً عن حلب في المؤتمر السوري العام، وهو أول مجلس تشريعي عرفته البلاد السورية بعد سقوط الحكم العثماني. وقد عينه الأمير فيصل عضواً في لجنة صياغة الدستور التي قام بتشكيلها بعد تتويجه ملكاً على البلاد في 8 آذار 1920، برئاسة هاشم الأتاسي. (4) تحالف الجابري من زميله في المؤتمر النائب رياض الصلح وأسسوا كتلة نيابية من الشباب التقدميين المُطالبين بتحرير المرأة السورية وإعطائها حق الانتخاب وحق الترشح للمناصب السياسية.(5) وقد توطدت صداقة الجابري مع الصلح بعد زواج الأخير من فايزة الجابري سنة 1930، وهي ابنة نافع باشا الجابري، الشقيق الأكبر لسعد الله الجابري.(6)
حُكم على سعد الله الجابري بالإعدام بسبب مواقفه المتشددة ضد الفرنسيين وقُربه من الملك فيصل فهرب إلى مصر وحصل على لجوء سياسي من الملك فؤاد الأول. وقد أقام في القاهرة حتى سنة 1922، عندما صدر عفو فرنسي عن مجموعة من الوطنيين السوريين، كان من بينهم سعد الله الجابري. (7)
كانت ثورة الشمال قد أُجهِضت وهرب إبراهيم هنانو إلى إمارة شرق الأردن ومن ثمّ إلى فلسطين، حيث تم اعتقاله من قبل السلطات البريطانية وتسليمه إلى سلطة الانتداب الفرنسي سورية. شُكّل مجلس عرفي لمحاكمة هنانو في حلب، ووجّهت له تهم شتّى، منها السلب والنهب وقيادة عصيان مسلّح ضد حكومة الانتداب. كان الجابري يحضر جلسات المحكمة بانتظام بعد أن أستُدعي مع شقيقه فاخر الجابري كشهود دفاع، وفي إحدى الجلسات خاطب رئيس المجلس العسكري هنانو قائلاً: “إنك تزعم أنك قاتلت فرنسا باسم الشعب السوري، فهل يُمكنك أن تأتيني بشخص واحد كلّفك بهذه المُهمّة؟”
وهنا وقف الجابري بشجاعة وقال للقاضي الفرنسي:
يا سيدي الرئيس، أنا أدعى سعد الله الجابري من أبناء هذا البلد ومثقفيه. أنا والألوف معي كلفنا إبراهيم هنانو مقاتلة فرنسا التي دخلت بلادنا دون حق، ومن حقنا أن نقاوم الاحتلال الأجنبي. وإن المجرم هو من يعتدي على سلامة الناس وحريّة الشعوب، لا ذلك الذي يدافع عن استقلال بلاده ويجابه في سبيل تحرير آبائه وأجداده. لقد أعلنإبراهيم هنانو الحرب عليكم باسم الشعب السوري العربي، والقتل والفتك والتدمير نتيجة طبيعية للحرب التي خضتم غمارها.(8)
وكانت نتيجة تلك المحاكمة صدور قرار براءة إبراهيم هنانو، الذي رافع عنه المُحامي فتح الله سقّال، وعودته إلى العمل الوطني ولكن من باب النضال السياسي هذه المرة، لا المُسلح.
جمعة اليد الحمراء
في هذه المرحلة من حياته أسس سعد الله الجابري تنظيماً سريّاً لمحاربة الانتداب الفرنسي في حلب، أطَلَق عليه اسم “اليد الحمراء.” وقد ضمّ التنظيم عدداً من أعيان المدينة مثل الدكتور عبد الرحمن كيالي وحسن فؤاد إبراهيم باشا وفؤاد المُدرّس وأسعد الكواكبي.(9) عَلِمْت السلطات الفرنسية بنشاطه وقامت باعتقاله مدة ستة أشهر ونفيه إلى مدينة صافيتا. وفي سنة 1925 أُلقي القبض عليه مرة ثانية لدوره في الثورة السورية الكبرى، فتم سجنه في حلب ومن ثمّ في جزيرة أرواد. وكان الاعتقال الثالث في سنة 1934.
الجابري والكتلة الوطنية
بعد قمع الثورة الوطنية وإجهاضها اجتمع عدد من الوطنيين في بيروت، برئاسة هاشم الأتاسي، وأسسوا تنظيماً سياسياً جديداً لمحاربة الانتداب الفرنسي، أطلقوا عليه اسم الكتلة الوطنية. شارك إبراهيم هنانو في تأسيس الكتلة وأعلن عن تمسكه بالنضال السياسي بدلاً من المقاومة المسلّحة، مُطالباً بتحرير البلاد عن طريق المؤسسات الديمقراطية التي كانت فرنسا قد أدخلتها على الحياة السياسية في سورية منذ سنة 1920، وتحديداً الانتخابات النيابية والرئاسية.
كان فاخر الجابري عضواً مؤسساً في الكتلة الوطنية وقد انضم سعد الله الجابري إليها بعد عودته من المنفى، ليصبح أحد أركان مكتبها في حلب. وفي 3-4 تشرين الثاني 1932 عَقَدت الكتلة الوطنية اجتماعاً موسعاً في مدينة حمص، وانتُخب مجلسها الدائم المؤلف من هاشم الأتاسي رئيساً مدى الحياة، يعاونه سعد الله الجابري نائباً للرئيس، وقد سُمّي إبراهيم هنانو زعيماً للكتلةوفارس الخوري عميداً لها.(10)
دستور عام 1928
خاضت الكتلة الوطنية أولى معاركها السياسية سنة 1928 عند ترشّح زعمائها في انتخابات المؤتمر التأسيسي المكّلف بوضع دستور جديد لسورية بدلاً من الدستور الملكي الذي قام الفرنسيين بتعطيله بعد احتلال دمشق سنة 1920. فاز سعد الله الجابري بعضوية المؤتمر التأسيسي، الذي انتُخب هاشم الأتاسي رئيساً له، وكانت هذه هي ثاني تجربة دستورية بعد عضوية اللجنة الدستورية سنة 1920. وقد تمكن أعضاء الكتلة الوطنية من صياغة دستور عصري وتحرري، ليس فيه أي إشارة إلى الانتداب الفرنسي. أغضب هذا التجاهل سلطة الانتداب التي اعترضت على ست مواد من الدستور، منها عدم الاعتراف لا بالانتداب الفرنسي أو باتفاقية سايكس بيكو، والإصرار على وحدة سورية الطبيعية وإعطاء صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية السورية اَلْمُنْتَخَب، بدلاً من المندوب السامي الفرنسي، مثل حق إعلان الحرب والسلم وإبرام الاتفاقيات الدولية.
طالبت فرنسا من أعضاء المؤتمر التأسيسي تعديل هذه المواد وإضافة مادة جديدة، رقمها 116، فيها ذكر واضح وصريح لنظام الانتداب وشرعيته في سورية. ولكن أعضاء المؤتمر أصرّوا على موقفهم وقاموا بتبني الدستور كاملاً من دون أي تعديلات، فردّت فرنسا بتعطيله وحلّ المؤتمر إلى أجل غير مُسمّى.
الإضراب الستيني
بعد ثلاث سنوات من مؤتمر حمص توفي إبراهيم هنانو في تشرين الثاني 1935 وخرجت له جنازة مُهيبة، حضرها جميع قادة الكتلة الوطنية. نُصّب سعد الله الجابري يومها زعيماً على مدينة حلب، خلفاً للراحل هنانو، وقاد موكب المشيعين رافعاً هتافات مناهضة للانتداب ومطالبة باستقلال سورية. ردّت فرنسا بقسوة مُفرطة، وأمرت باعتقال المشيعين واقتحام منزل هنانو ومصادرة كل ما فيه من مُستندات ووثائق. ثم ألقت القبض على سعد الله الجابري، بتهمة التحريض وإثارة الفتن.
بدلاً من إسكات الشارع وإرهابه، أدّت هذه التصرفات إلى اندلاع مُظاهرات عارمة في دمشق، دعماً لحلب ولسعد الله الجابري. وكان الرد الفرنسي في دمشق مُماثلاً لردهم في حلب، فقاموا باعتقال المُتظاهرين، وعلى رأسهم النائب فخري البارودي، وهو أحد قادة الكتلة الوطنية. تكررت المُظاهرات وسقط خلالها عدد كبير من الشهداء، مما أدّى إلى إضراب عام في المدن السورية كافة، دام ستون يوماً.
فقد سُمح لهم إنشاء وزارة للخارجية وأخرى للدفاع، للمرة الأولى منذ سنة 1920، عندما تولّت فرنسا شؤون سورية الخارجية والعسكرية وجعلتهم حكراً على دبلوماسيين وضباط فرنسيين. دافع سعد الله الجابري عن منجز الكتلة الوطنية في فرنسا واعتبره نصراً كبيراً: وقد نقلت الصحف السورية قوله: “لم يبقى على فرنسا إلّا أن تُعطينا مارسيليا.”(11)
الوصول إلى الحكم
عاد وفد الكتلة الوطنية إلى سورية رافعاً شعار النصر يوم 29 أيلول 1936، وعلى الفور استقال رئيس الجمهورية محمّد علي العابد من منصبه، داعياً لانتخابات نيابية ورئاسية مبكرة. خاض الجابري تلك الانتخابات وفاز بالنيابة عن حلب، وتم انتخاب هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية في نهاية شهر كانون الأول. وقد كلّف الأتاسي جميل مردم بك بتشكيل أول حكومة في العهد الوطني، ذهبت جميع حقائبها إلى قادة الكتلة الوطنية. فقد عُيّن شكري القوتلي وزيراً للدفاع والمالية وعبد الرحمن كيالي وزيراً للعدل والمعارف، وسعد الله الجابري وزيراً للخارجية والداخلية، كما انتُخب فارس الخوري رئيساً لمجلس النواب.
وقد ضاعف الشهبندر من معارضته للعهد بعد رفض البرلمان الفرنسي المصادقة على معاهدة عام 1936، خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى تراجع نفوذ فرنسا في الشرق الأوسط. سافر الرئيس جميل ردم بك إلى باريس في محاولة لإقناع المُشرعين الفرنسيين بالعدول عن موقفهم، وكان برفقة وزير الخارجية سعد الله الجابري. وقد قدموا بعض التنازلات المؤلمة، مثل إعطاء فرنسا حق التنقيب عن الثروات الباطنية وحماية الأقليات في سورية، ولكن ذلك لم يُقنع المجلس الفرنسي بتغير موقفه، نظراً لتزايد الكلام عن قرب حصول مواجهة عسكرية مع أدولف هتلر في أوروبا.
سلخ لواء إسكندرون
ثم جاء سلخ منطقة لواء إسكندرون عن سورية عبر استفتاء أجرته عصبة الأمم، التي لم تكن سورية عضواً فيها. أخفق الجابري في حماية إسكندرون ومنع ضمه إلى تركيا، وقد وجهت اتهامات إلى جميل مردم بك بالتنازل عن المنطقة بعد لقاء جمع بينه وبين الرئيس التركي كمال أتاتورك في أنقرة. وعند استجوابه أمام مجلس النواب حول قضية إسكندرون كان جواب سعد الله الجابري ضعيفاً للغاية وغير مقنع، حيث قال: “إن الحكومة السورية قامت بكل ما يترتب عليها وعملت ما يجب عمله.”(12)
وقد اتهم عبد الرحمن الشهبندر رجال الكتلة الوطنية بالتقصير في حماية الأراضي السورية، وطالب باستقالتهم ومحاسبتهم أمام القضاء. رد الرئيس مردم بك على هذه الانتقادات بوضع الشهبندر قيد الإقامة الجبرية في بلدة الزبداني بريف دمشق، وقام الجابري، بصفته وزيراً للداخلية، بمراقبة تحركاته ومنعه من مقابلة أنصاره الكثر. وعندما تقدم الشهبندر إلى وزارة الداخلية بطلب تأسيس حزب سياسي، جاء الجواب بالرفض، موقعاً من قبل الوزير سعد الله الجابري.
تحت ضغط من الشارع وفي ظلّ الإخفاقات السياسية المتكررة، قدّم جميل مردم بك استقالة حكومته في شباط 1936، وفي شهر تموز من العام نفسه استقال الرئيس هاشم الأتاسي. سقط العهد الوطني الأول في حينها مما أعتبر نصراً مدوياً بالنسبة لعبد الرحمن الشهبندر وجميع أعداء الكتلة الوطنية.
وقد تمّت محاكمة قادة الكتلة الوطنية غيابياً في محكمة استثنائية عُقدت داخل مبنى المجلس النيابي في شارع العابد، تبيّن فيها أن لا علاقة لهم بالجريمة وأنها نُفّذت من قبل مجموعة من الشباب المتطرفين، الذين اعتبروا أن علمانية الشهبندر كانت إلحاداً ورأوا في قربه من الإنكليز خيانة للقضية الوطنية. وقد وجهوا الاتهام إلى الجابري ورفاقه بهدف التخلص منهم، تحت ضغط من أجهزة المخابرات الفرنسية. وفقد قال زعيم العصابة أحمد عصاصة خلال المحاكمة وبعد أن أقسم على القرآن الكريم أنه لم يلتقي سعد الله الجابري في حياته وأن توجيه الاتهام له ولرفاقه جاء بأمر من رئيس الحكومة بهيج الخطيب وقائد الشرطة صفوح مؤيد العظم.
حكومة الجابري الأولى (19 آب 1943 – 14 تشرين الثاني 1944)
نصوحي البخاري (مستقل): وزيراً للمعارف والدفاع الوطني
واجه الجابري معارضة منظمة في مسقط رأسه في حلب، مُمثلة في الجيل الجديد من الوطنيين الشباب الذين حاولوا قطع الطريق على وصول شكري القوتلي إلى رئاسة الجمهورية. تزعم هذا التيار رشدي الكيخياوناظم القدسي، وهما أعضاء سابقين في الكتلة الوطنية، كانوا قد انشقوا عنها بسبب ضعفها في مواجهة تركيا وعدم قدرتها الحفاظ على لواء اسكندرون. وقد استمرت حكومة الجابري في الحكم من حتى 14 تشرين الثاني 1944، عندما أجرى الرئيس القوتلي تعديلاً سياسياً، فقام بتعيين سعد الله الجابري رئيساً لمجلس النواب وجاء بفارس الخوري إلى رئاسة الحكومة.
كان سعد الله الجابري وبالرغم من تربيته المحافظة مُنفتحاً ومُشجّعاً للفنون بكافة أشكاله. ففي فترة توليه الحكم، قدّم دعماً للفرق المسرحية السورية وحضر عرض مسرحية قيس وليلى في سينما عائدة بدمشق في شباط 1944. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يُقدم فيها مسؤول سوري دعماً من هذا النوع للفنانين الشباب. عند خروجهم من المسرح، طلب الجابري من بطل المسرحية تيسير السعدي أن يأتيه إلى دار الحكومة وأوصى مدير مكتبه كاظم الداغستاني أن يؤمّن له كل ما يحتاجه هو وفرقته من نفقات.(14)
الصدام مع المشايخ
كان رجال الدين في دمشق يشكون عن تفشي العادات الأجنبية في مجتمعهم، ومنها السفور ودخول النساء إلى سوق العمل ودور السينما. وكانوا قد رفعوا عدة رسائل احتجاج إلى الحكومة، مُطالبين بفصل الإناث عن الذكور في المدارس، وتخصيص عربات خاصة لهم في الترامواي وفرض رقابة على السافرات، ولكن الرئيس الجابري تجاهل كل هذه المطالب، بدعم وتنسيق مع الرئيس شكري القوتلي.
في ربيع العام 1944 أعلنت جمعية نقطة الحليب، إحدى أقدم الجمعيات الأهلية في سورية، عن حفل خيري في دمشق تحت رعاية مدام كترو، زوجة جورج كاترو ممثل الجنرال شارل ديغول في سورية ولبنان. اعترضت الجمعيات الإسلامية على هذا النشاط، أولاً بسبب الرعاية الفرنسية وثانياً لأن المُنظمين أرادوا أن يُقام الحفل في مطعم عُرف عنه تقديم الخمر للزبائن. كما أُشيع يومها بأن عدداً من زوجات المسؤولين السوريين كانوا ينوون حضور الحفل وهم سافرات الرأس والوجه. طالبت الجمعيات الإسلامية من الرئيس الجابري إلغاء الحفل ولكنه رفض الاستجابة، وهو الداعم لتحرر المرأة منذ أن كان نائباً في المؤتمر السوري سنة 1919.
قام المشايخ بنقل المعركة إلى منابر الجوامع، حيث لا تواجد ولا نفوذ لرجال الكتلة الوطنية، ولا سطوة لرئيس الحكومة، الذي ظنّ رجال الدين أنهم قادرين على إسقاطه بسهولة. في 19 أيار 1944 تم توحيد خطب الجمعة في مساجد دمشق كافة، للتحذير من الفلتان والتحرر، وقد حمل فيها الخطباء حكومة الجابري المسؤولية عن ما وصفوه بالتراخي الاجتماعي والفجور. في مُذكّراته، يصف الشّيخ علي الطنطاوي الرئيس سعد الله الجابري قائلاً إنه “سوّد صفحته” بدعمه لحركة التحرر النسائية، “وأفسد وطنيته.”(15)
اجتمع 300 شخص بعد صلاة الظهر في جامع دنكز، وخرجوا بمظاهرة حاشدة باتجاه السراي الحكومي في ساحة المرجة، مُطالبين بإلغاء الحفل الخيري أو منع النساء المُسلمات من حضوره، وهتفوا ضد رئيس الحكومة ووزير الداخلية لطفي الحفار. أمر مدير شرطة دمشق أحمد اللحّام بتفريق المُتظاهرين بالقوة، وفي الاشتباكات التي حصلت، قُتل اثنان من الشبّان.
رفض اللحّام معاقبة عناصره، قائلاً إنهم كانوا يقومون بواجبهم الوطني والأمني، وأنهم أطلقوا النار دفاعاً عن النفس بعد رفع السلاح في وجه عناصر الشرطة من قبل المُتظاهرين. كما قام باعتقال زعيم المتظاهرين، الشّيخ محمد الأشمر، وهو من قادة الثورة السورية، ونقله مخفوراً إلى سجن تدمر، بتهمة التحريض ضد الدولة وإثارة الشغب بين الناس.(16)
انتفض أهلي حيّ الميدان دفاعاً عن محمّد الأشمر، وخرجوا بمظاهرات كبيرة أُحرقت خلالها المباني الحكومية في باب مصلّى، مُطالبين بإسقاط سعد الله الجابري. أغلقت أسواق دمشق تضامناً من الحراك الشعبي في يومي 21-22 أيار 1944، وشمل الإضراب سوق الحمديةوسوق البزورية، وهما العصب التجاري لمدينة دمشق.
احتشد حوالي ألف شخص في جامع منجك في الميدان، وخرجوا شاهرين أسلحتهم وسكاكينهم، مُطالبين مجدداً باستقالة الحكومة. أقاموا حواجز لاعتراض الناس في منطقة الشاغور، معقل الرئيس شكري القوتلي، وتم اطلاق النار على الشرطة وضربت احدى السيدات وهي في ترامواي المرجة لأنها كانت سافرة، مما أدى إلى توقف حركة الترامواي في دمشق كليّاً بعد التهجم بالحجارة على إحدى الحافلات. كما أن المُتظاهرين هاجموا سينما أمبير في طريق الصالحية، التي كانت تقيم عروضاً مسائية للنساء، وحطموا أبوابها، محاولين الدخول على السيدات المجتمعات في داخلها.(17)
حاولت جمعية الهداية الإسلامية ومعها جمعية التمدّن الإسلامي طباعة مناشير تُطالب الأهالي باستمرار العصيان حتى إسقاط الحكومة، ولكنها مُنعت من قبل المطبعة الحكومية، بأمر من الرئيس الجابري. وفي شمال البلاد، عُثر على مناشير مُرسلة من حركة الإخوان المسلمين في مصر إلى أهالي حلب، تُطالبهم بنصرة أهل الشّام وإقامة حكم شرعي في سورية. وصفت تلك المناشير سعد الله الجابري بالمُلحد، وقالت أنه “عدو الله وعدو الإسلام،” وهي نفس العبارة التي استُخدمت قبل أربع سنوات للتحريض على قتل عبد الرحمن الشهبندر.
غضب سعد الله الجابري من هذا التحدي ونزل إلى مجلس النواب للوقوف على أخر التطورات الأمنية بنفسه، وخطب مُدافعاً عن عناصر الدرك الذين أطلقوا النار، قائلاً: “هل كان من الممكن أن يسمحوا لهؤلاء المُشاغبين قصيري النظر اقتحام دار السينما والتعرض للنساء الموجودين في داخله؟ كلا!”(18)
وقد دافع عن حكومته قائلاً:
لم تأتي حكومة من قبل حاربت الفساد والانحلال الأخلاقي كما فعلنا نحن، فنحن نرفض الاعتداء على الحريات الدينية بنفس الشدة التي نرفض فيه التهجم على مؤسسة الدولة. أملنا أن يقوم كل جامع، وكل كنيسة وكل كنيس بفتح أبوابهم بحرية تامة، من دون أي خوف أو ترهيب من احد.
وختم خطابه برسالة موجهة إلى رجال الدين: “عليهم أن يعلموا جيداً أن الحكومة منهم، هي وموجودة لأجلهم، ولكنها يجب أن تُطاع.”(19) تجمهر جمع من طلاب المدارس الدينية حول مبنى البرلمان خلال القاء كلمة الجابري وهم يهتفون: “يسقط، يسقط، يسقط!”
كاد العصيان أن يكبُر ويستمر لولا لجوء الجابري إلى الحيلة، فتدخل لدى رئيسة الإتحاد النسائي، عادلة بيهم الجزائري، وطلب منها أن تمنع معونة الخبز عن الناس ليوم واحد فقط، وتقول لهم: “اذهبوا إلى رجال الدين، وخذوا خبزكم من المشايخ!”(20)
تجاوبت عادلة بيهم مع مطلب رئيس الحكومة، وفي اليوم التالي، تم الاعتذار من كل سيدة جاءت إلى نوافذ توزيع الخبز، التي كانت الحكومة السورية تقوم بتوزيعه حصرياً على الناس خلال سنوات الحرب العالمية الثانية. انقلب السحر على الساحر، فلم يكن بوسع رجال الدين تأمين حاجة دمشق اليومية من الإعاشة، وتحوّلت المظاهرات من مؤيدة لهم إلى ناقمة عليهم، وفض الإضراب عند هذا الحد. فُتِحت الأسواق وقررت حكومة الجابري تجاوز الأمر وعدم ملاحقة أي من مثيري الشغب، وتم اطلاع سراح الشّيخ محمد الأشمر.
وكان الجو مشحوناً للغاية داخل سورية بعد وصول تعزيزات عسكرية إلى مدينة دمشق ونصب حواجز فرنسية في وسط العاصمة مع عناصر مدججة بالسلاح. قررت فرنسا التخلص من شكري القوتليوجميل مردم بك وسعد الله الجابري، وقامت بافتعال حادثة على مدخل مجلس النواب المُقابل لنادي الضباط في طريق الصالحية عصر يوم 29 أيار 1949.
أنزل الفرنسيون العلم السوري ورفعوا العلم الفرنسي مكانه، وطلبوا من عناصر حامية الدرك المرابطة على أبواب المجلس إلقاء التحية للعلم الفرنسي.(21) وعندما رفض العناصر تنفيذ تلك الأوامر تم إطلاق النار عليهم، ليقتلوا على أبواب المجلس النيابي. دخلت قوات السنغال إلى مبنى البرلمان، وهم قوام جيش الشرق الفرنسي التابع لسلطة الانتداب الفرنسي، بحثاً عن سعد الله الجابري بنية اعتقاله أو اغتياله. كان الجابري قد غادر المبنى بسبب عدم توفر نصاب قانوني لعقد الجلسة التشريعية، وعندما لم يجدوه قاموا بإضرام النار في مكتبه بعد مصادرة جميع الوثائق، ومعها الخزنة الحديدية وختم رئيس البرلمان.(22)
وصل الرئيس الجابري إلى مكان إقامته في فندق الأوريانت بالاس في ساحة الحجاز، بعد أن قطع الفرنسيون جميع الاتصالات داخل مدينة دمشق وأغلقوا الحدود البريّة. ثم قُطعت الكهرباء عن المدينة وبدأ القصف المدفعي على قلعة دمشق، حيث يوجد السجن المدني وقيادة الدرك، وعلى محيط السراي الحكومي في ساحة المرجة، حيث كان وزير الخارجية جميل مردم بك.
كان بطريرك موسكو ألكسي الأول نزيلاً في فندق الأوريانت بالاس مع الجابري، وقد وصل دمشق صباح يوم 29 أيار. طلبت السفارة السوفيتية من الحاكم العسكري الفرنسي الكولونيل أوليفيا روجيه وقف القصف لإجلاء البطريرك وفتح طريق آمن له لكي يتمكن من السفر إلى لبنان. عرض البطريرك الروسي على الرئيس الجابري السفر معه إلى بيروت، وعندما وصلوا إلى حدود المصنع لم يرغب الجابري أن يدخل الأراضي اللبنانية تحت حماية روسية فترجّل من سيارة البطريرك واستقل سيارة نقل سورية، أوصلته إلى مقر السراي الحكومة في بيروت، حيث كان في استقباله رئيس الحكومة اللبنانية عبد الحميد كرامي. وضع كرامي مكتبه تحت تصرف الجابري، الذي عقد مؤتمراً صحفياً وتكلّم عن المجزرة التي حصلت في دمشق، ثم سافر إلى القاهرة لحضور اجتماع في جامعة الدول العربية.(23)
وقد صدرت إدانات عربية ودولية بحق الفرنسيين، تبعهم إنذار بريطاني شهير في 1 حزيران 1945، مُطالباً بانسحاب القوات الفرنسية عن سورية. شارك سعد الله الجابري في المفاوضات النهائية مع فرنسا، حول تسلّم المصالح المشتركة مع لبنان، ومنها المطارات والسجون والمرافق الحيوية.
حكومة الجابري الثانية (30 أيلول 1945 – 27 نيسان 1946)
سعد الله الجابري مع الرئيس شكري القوتلي والرئيس هاشم الأتاسي في عيد الجلاء سنة 1946.
في نهاية شهر أيول من العام 1945 طلب الرئيس القوتلي من سعد الله الجابري تشكيل الحكومة السورية الجديدة. وقد جاءت على الشكل التالي:
سعد الله الجابري (الكتلة الوطنية): رئيساً للوزراء ووزيراً للخارجية
كانت هذه هي الأولى في عهد الاستقلال وقد استمرت بالعمل لغاية 27 كانون الأول 1946. وقد استقالة سريعاً بسبب تدهور صحة رئيسها، الذي كان يُعاني من تشمّع بالكبد مما أفقده القدرة على مُمارسة أعباء رئاسة الحكومة. فقد أُدخل إلى مستشفى المواساة في مدينة الإسكندرية خلال إحدى اجتماعات جامعة الدول العربية، وبقي فيها مدة طويلة، يتلقى العلاج من أطباء مصريين تحت إشراف الملك فاروق وبرعاية السيدة صفيّة زغلول، حرم الزعيم المصري الراحل سعد زغلول.(23)
ومن على سرير المرض، قدم الجابري استقالة حكومته للرئيس شكري القوتلي يوم نهاية العام 1946 حيث كان من المُفترض أن يُسافر إلى الولايات المتحدة لتلقي العلاج، ولكنّه توفي قبل أن يتمكن من ذلك.(24)
وجاء وفي رواية خالد العظم أن الرئيس الجابري استقال مُجبراً بطلب من الرئيس القوتلي. يقول العظم في مذكّراته: “أرسل السيد محسن البرازي (أمين عام القصر الجمهوري) إلى الإسكندرية ليجتمع بالجابري ويأخذ منه كتاب الاستقالة إلى أن المشار إليه قابل الموفد باشمئزاز وحمله رسالة شديدة اللهجة للقوتلي، تتضمن معاتبة لأنه استعجل في طلب الاستقالة، مُعتبراً بذلك دليلاً على القنوط في شفائه، مما يؤدي إلى انهيار مقاومته المعنوية للمرض.”(25)
تأسيس الحزب الوطني
آخر نشاط سياسي لسعد الله الجابري كان مشاركته في تأسيس الحزب الوطني، الذي أُشهر في دمشق يوم 29 آذار 1947. لم يكن الجابري حاضراً في مؤتمر التأسيس بسبب شدة مرضه، وناب عنه شقيقه الأكبر فاخر الجابري. أما مؤسس الحزب فكان السياسي الدمشقي نبيه العظمة، وزير الدفاع الأسبق في حكومة الجابري الثانية، المدعوم من قبل الرئيس شكري القوتلي.
توفي سعد الله الجابري في حلب عن عمر ناهز 54 عاماً يوم 20 حزيران 1947. وقد أعلن الحداد العام على “فقيد سورية” وأجريت له جنازة رسميّة خُرق فيها البروتوكول وشيّع الجابري بمراسيم رئيس جمهورية، محمولاً على عربة مدفع ونعشه مجلّلاً بالعلم السوري، وقد تقدم المشيعين كل من رئيس الجمهورية شكري القوتلي ورئيس الحكومة جميل مردم بك.(26) في مذكراته وصف الأمير عادل أرسلان، وزير المعارف في حكومة الجابري، مراسيم التشييع قائلاً: “كان سعد الله وطنياً، أبياً، صادقاً، مخلصاً، جواداً وفياً. تأبين شكري القوتلي له كان مؤثراً فقد بكى وأبكى السامعين.”
تكريم الجابري
وقد أُطلق اسم سعد الله الجابري على شارع وحيّ في كل مدينة سورية، ونُصِب له تمثال في مدينة حلب وسط ساحة عريقة حملت اسمه، ولكنها دُمّرت خلال الحرب السورية سنة 2012. كما صدر طابع بريد يحمل رسمه مع عدد من الدراسات عن حياته، منها سعد الله الجابري وحوار مع التاريخ، للكاتبة رياض الجابري (دمشق 2006)، و”سعد الله الجابري: رجل الاستقلال وبناء الدولة” للمؤلف محمّد علي شحادة جمعة (دمشق 2008)، الذي قدّم له وزير الدفاع في حينها العماد أول مصطفى طلاس.
وصف سعد الله الجابري
في مذكراتها المنشورة سنة 1947، تقول الليدي سبيرز، حرم السفير البريطاني إدوارد سبيرز: “كان سعد الله الجابري أنيقاً رقيقياً، ذا رأس أشيب فضي، ووجه ناعم التكوين، ولكنه يؤذن بأن صاحبه من أولي العزم الشديد.”(27)