بدر الدين بن يوسف الحسني (1805-28 حزيران 1936)، شيخ وداعية علّامة ومربي أجيال سوري من أصول مغربية، عاش وتوفي بدمشق وكان المحدث الأكبر في بلاد الشّام وأشهر عالم فيها في النصف الأول من القرن العشرين.
البداية
ولد بدر الدين الحسني بدمشق في منزل والده الملاصق لدار الحديث الأشرفية التي كانت مقره ومقر علماء الحديث في بلاد الشام. هاجر والده من مراكش إلى مصر ودرس في الأزهر وأخذ عن أهم علمائه، قبل أن يستقر بدمشق. درس الشيخ بدر الدين على يد أبيه وحفظ القرآن الكريم وهو في السابعة من عمره. توفي والده قبل أن يكمل سنته الثانية عشرة، فالتزم غرفة أبيه في دار الحديث وسار في منهجه العلمي. أما والدته عائشة بنت إبراهيم الكزبري فكانت من عوائل دمشق المعروفة وقد اعتنت به بعد وفاة زوجها.
دراسته
انتهج الشيخ بدر الدين المذهب الشافعي، وحفظ الصحيحين البخاري ومسلم بالسند غيباً، وحفظ معهم موطأ مالك ومسند أحمد وسنن الترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجه، كما حفظ عشرين ألف بيت من متون العلم المختلفة. لم تقتصر علومه على العلوم الشرعية، بل كان له الباع الطويل في الرياضيات العالية، والحكمة، والفلسفة، والطب، والهيئة، والجغرافية، والهندسة والنحو والصرف والبلاغة.
التدريس
ابتدأ التدريس وهو في العشرين من عمره وكان يُقرئ تفسير البيضاوي في الجامع الأموي دون أن يحمل كراسة. ولما أحس أنه ألم بعض القلق في نفوس العلماء بسبب صغر سنه اعتزل في غرفته في دار الحديث الأشرفية ولم يخرج منها مدة عشر سنين. كان في حجرته نافذة يخرج منها ويأتي إلى بيته القريب، وفي مدة اعتزاله واكب على المطالعة والحفظ وأتقن علم الحديث حتى صار فيه الحجة البالغة والمرجع الأوحد للعام والخاص. ولما جاوز الثلاثين من عمره عاد للتدريس، وكان له ثلاثة دروس: العامة في الجامع، الخاصة في دار الأشرفية، وخاصة الخاصة في منزله. وكان درسه المنزلي يومي يبدأ بعد صلاة المغرب وحتى صلاة العشاء، وكان يخصص له كتاب مقرر يقرأ فيه ويشرحه، وكان الذي يقرأ في الدرس معيدوه وهم ثلاثة: الشيخ راشد القوتلي، الشيخ عارف الجوجياتي، الشيخ عارف الصواف الدوجي. استمر في التدريس 56 سنة، إلا أنه رفض الإفتاء أكثر من مرة على الرغم من سعة علمه ومعرفته بفقه المذاهب الأربعة
أما دروسه العامة فكانت بدايتها من جامع السادات، فلما كثر الخلق عليه وضاق بهم الجامع انتقل إلى جامع سنان باشا فكان يقرأ ليلة الجمعة والإثنين، فلما ضاق المسجد بالناس انتقل إلى الجامع الأموي وابتدأ فيه درسه الأول بالحديث الأول من صحيح البخاري. وفي كل يوم جمعة من بعد صلاتها إلى أذان العصر كان يقرأ حديثاً من صحيح البخاري بسنده المتصل ويبين ما بني عليه من الأحكام الشرعية على اختلاف مذاهب المجتهدين مع مأخذهم وأدلتهم ويرجح الأقوى منها ويأتي بما يناسب المقام من سائر العلوم. وقد تبلغ الأحاديث التي يذكرها استشهادا لحديث الباب منه مئة حديث ويذكر تلك الأحاديث بأسانيدها المتصلة ويقرر المسألة الواحدة على المذاهب الأربعة مع أدلتها ويطبق عليها علم الأصول وآداب البحث والبلاغة والتفسير والتوحيد والحكمة والفلسفة والطب والهيئة والهندسة.
كان يحضر درسه الحكام والقضاة فيجلسون إلى جانبه والواقفون أكثر من الجالسين، فأخذ بمجامع قلوب السامعين، وكان ممن حضره
- مدحت باشا (والي الشام العثماني 1878-1880)
- الشيخ محمد عبده (مفتي الديار المصرية)
- الشيخ محمد بخيت المطيعي (مفتي الديار المصرية)
- جمال باشا (قائد الجيش العثماني الرابع في سورية)
يومه
لبث سبعين سنة يستيقظ للتهجّد، فيصلّي ما شاء الله له أن يصلي، ثمّ يمضي إلى الجامع الأموي فيصلّي الصّبح مع الجماعة، فإذا قضيت الصّلاة عاد إلى غرفته ليتمّ بقية أوراده ثمّ يصلي صلاة الضّحى ثمّ يغفي إغفاءة وبعدها يبدأ دروسه الّتي تمتد إلى المغرب، فإذا صلّى المغرب جماعة أفطر ثمّ جلس للدّرس في بيته ويؤخّر صلاة العشاء لأجله، فإذا صلّاها مع الجماعة ذهب فوراً إلى مضجعه من غير أن يكلّم بعدها أحداً، فينام وهو ذاكر لله تعالى.
وكان يتخلل برنامجه اليومي تفقد أحوال النّاس، وتقديم ما يستطيع لهم من مساعدة وإعانة لمحتاج أو شفاعة لدى حاكم أو نصيحة له، وترحيب بزائر وصلة للأرحام وعيادة للمرضى، وكان يرغب كثيراً في زيارة الطّاعنين في السّن.
مكانة الشيخ بدر الدين الحسني الاجتماعية والسياسية
ترفع الشيخ بدر الدين عن كل المناصب السياسية ولم يلبّ دعوة السلطان عبد الحميد لزيارة اسطنبول، ولا دعوة القيصر نقولا الثاني للمشاركة في الاحتفال الكبير بالذكرى 300 لحكم عائلة رومانوف في روسيا سنة 1913. وفي زمن الحرب العالمية الأولى، رفض طلب جمال باشا إعطاء فتوى شرعية بصحة أحكام الإعدام الصادرة عن المجلس الحربي في عاليه بحق عدد من المفكرين والسياسيين في 6 أيار 1916. كما رفض الفتوى بوجوب قتال الشريف حسين حين قام الثورة العربية الكبرى سنة 1916 وحين بدأ زحف الجيش الفرنسي باتجاه مدينة دمشق دعا الناس إلى جهاد مقدس وشجع عدد كبير من الشويخ وطلاب العلم وأئمة المساجد على التطوع في صفوف الجيش السوري في معركة ميسلون يوم 24 تموز 1920. كما كان يغذّي الثورة السورية الكبرى بما يجمعه تلامذته ومريدوه من أموال بوساطة الشيخ محمد الأشمر. وفي أعقاب العدوان الفرنسي على مدينة دمشق في 18 تشرين الأول 1925، انتخب أهالي دمشق الشيخ بدر الدين رئيساً للجنة إغاثة المنكوبين وعائلات الجرحى والشهداء.
يقول الأستاذ محمد المبارك عن الشيخ بدر الدين: ” كان يعلن في دروسه فرضية الجهاد لإخراج الكافر المستعمر، وكان على صلة مستمرة مع الثائرين على فرنسا في سورية.”
تلامذته
من أشهر حاملي إجازة الشيخ بدر الدين:
- الشيخ مكي الكتاني
- الشيخ محمد المبارك
- الشيخ عبد الكريم الرفاعي
- الشيخ محمد صالح الفرفور
- الشيخ محمود الحسني الحنبلي
- الشيخ محمد حسن حبنكة
- الشيخ محمد سعيد برهاني
- الشيخ محمود الشقفة الحموي
- الشيخ عبد الحكيم كفتارو
- الشيخ علي الدقر
- الشيخ محمد سهيل الخطيب الحسني وهو أول من دون دروس الشيخ وأصدرها في تسعة مجلدات.
حياته الشخصية
تزوج سنة 1878 من السيدة رقية بنت الشيخ محيي الدين العاني، أنجبت له ثماني أولاد كان منهم الشيخ تاج الدين الذي أصبح رئيساً للجمهورية بعد وفاة أبيه.
وفاته
توفي يوم الجمعة 28 حزيران لسنة 1935 في دمشق، دفن في مقبرة الباب الصغير، وخرج نعشه مجللاً بغطاء أبيض بسيط (حسب وصيته) ومشت دمشق وراءه بموكب رسمي وشعبي، فصلي عليه في الجامع الأموي في الساعة الرابعة والنصف، صلى عليه ابنه الشيخ تاج الدين الحسني، ثم قُرأت وصيته، ولم يصل الموكب إلى مقبرة الباب الصغير إلا في الساعة السابعة مساءً لشدة الزحام.
قال الأستاذ عصام العطار عن تأبينه: “اكتظ الجامع الأموي بالألوف، بل بعشرات الألوف من الناس الذاهلين، أو الباكين، أو المهللين المكبرين، وارتفع من أعماق المسجد، من على منبره، صوت قوي مؤثر، دون مكبِّر وصل إلى جميع المسامع، فسكن الناس بعض السكون، وأنصتوا لكلام الخطيب، الذي تحدث، كما لازال أتذكر، عن فداحة المصاب بالمحدث الأكبر، الشيخ بدر الدين، وفداحة المصاب بالعلماء الأعلام، عندما يموت العلماء الأعلام، فنفذ إلى قلوب الناس ومشاعرهم، بصدقه وعلمه وبلاغته، وجمال إلقائه، وصفاء صورته قوته. وسألت: من هذا الخطيب ؟! قالوا: إنه الشيخ علي الطنطاوي، وعملت، أن علماء الشام هم الذين اختاروه وقدموه لهذا الموقف، كان ذلك سنة 1935م، وله من العمر ست وعشرون سنة”.
تكريماً لشخصية بدر الدين لحسني أطلقت الدولة السورية اسمه على جامع وسط دمشق، ومدرسة ثانوية.
مؤلفاته
مال إلى التأليف في مطلع شبابه، فكتب نحواً من أربعين رسالة قبل أن يكمل الثلاثين من العمر، كانت أكثر مؤلفاته شروحاً لكتب العقائد والفقه ومنها:
- كتاب الدرر البهية في شرح المنظومة البيقونية، الناشر دار البصائر عام 2016.
- كتاب روض المعاني لشرح عقيدة العلاّمة الشيباني.
- كتاب البدور الجلية في شرح نظم السنوسية.
- كتاب حاشية على شرح الرحبية في علم الفرائض.
- رسالة فيض الوهاب في موافقات سيدنا عمر بن الخطاب.
- كتاب غاية المرام على شرح القطر لابن هشام.
كتب كتبت في سيرة الشيخ
- كتاب الدرر البهية من أخبار محدث الديار الشامية للشيخ محمود رشيد العطار، صادر عن دار البشائر الاسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، عام 2012.
- كتاب الدرر اللؤلؤية في العقود البدرية للشيخ محمود الرنكوسي.
- مخطوطات خزانة الشيخ بدر الدين الحسني للشيخ محمد رياض المالح، إصدار عام 1977.
- كتاب حول إعدام المفكرين العرب للدكتور مازن المبارك.
- كتب عنه أيضاً محمد الرشيد من السعودية.
- رسالة ماجيسيتر للشيخ محمود البيروتي تحت عنوان: المحدث الأكبر شيخ شيوخ الشام الشيخ محمد بدر الدين الحسني وأثر مجالسه في المجتمع الدمشقي، صادرة عن دار البيروتي في دمشق، عام 2009.
- ترجم له الأستاذين الحافظ ونزار أباظة في كتابهم تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري.
- كتاب المحدث الأكبر الشيخ محمد بدر الدين الحسني وأثره في النهضات العلمية في بلاد الشام، للشيخ شريف الصواف، الصادر عن دار الحديث الشريف والسيرة النبوية في مجمع الشيخ أحمد كفتارو بدمشق.
قالوا فيه
قال عنه العلامة الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية حين زاره وحضر درسه العام يوم الجمعة: “لو كان عندنا بمصر، لم تحمله العلماء إلا فوق الرؤوس.” وقال عنه الأديب الشيخ محمد عبد الجواد القاياتي: “هو من نوادر هذا الزمان.” وجاء في شهادة الشّيخ عبد الواسع اليماني: “السّيد العلّامة المحدّث علّامة الدّنيا، إمام التّحقيق والتّدقيق، وروح جسم العبادة وحليف التّقوى والزّهادة، لقد سمعت المدرّسين والوعّاظ في بلدان كثيرة، فما رأيت مثله قطّ، محققاً في جميع العلوم العقليّة والنّقليّة.”
يقول الشيخ علي الطنطاوي في كتابه رجال من التاريخ:
رجل عاش ثمانين سنة بالعلم وللعلم، وما جرى فيها بغير العلم لسانه، إلا أن تكون كلمة لابد منها، ما ترك الدرس قط، ولا يوم وفاته، الرجل الذي لبث ثمانية سنة، ما مَسَّ جنبه الأرض، وما اضطجع إلا في مرض الموت، وما نام كما ينام الناس، بل كان يجلس في الليل ليقرأ، الرجل الذي كان يراقب الله والناس عنه غافلون، كان يجلس في الليل ليقرأ فإذا غلبه النعاس، اتكأ برأسه على وسائد أعدت له، فأغفى ساعتين أو ثلاثاً من الليل متقطعات، ومن النهار ساعة، وكان يقرأ دائماً لا يشغله عن القراءة إلا أن يكون نائماً، أو في صلاة، أو درس، أو في طريقه من المسجد إلى البيت، ما فارق الكتب قط، وما أحب في الدنيا غير الكتب، فكان يشتري الكتاب يسمع به، ولو كان مطبوعاً في أقصى الهند، ويشتري المخطوط ولو بوزنه ذهباً، ولا يدع كتاباً حتى يقرأه أو يتصفحه تصفح المثبت.