
عفيف البزري (1914 – 28 كانون الثاني 1994)، ضابط سوري من أصول لبنانية، كان أحد مؤسسي الجيش السوري سنة 1946. تولّى رئاسة الأركان العامة في دمشق من 17 آب 1957 وحتى إحالته على التقاعد برتبة فريق يوم 2 نيسان 1958. كما شارك في مفاوضات الهدنة السورية الإسرائيلية سنة 1949 وكان رئيس الوفد العسكري الذي سافر إلى القاهرة لمقابلة الرئيس جمال عبد الناصر والمطالبة بتحقيق الوحدة بين سورية ومصر سنة 1958.
البداية
ولِد عفيف البزري في مدينة صيدا بجنوب لبنان، وكان جدّه لأمه الشّيخ يوسف الأسير أحد رواد النهضة العربية في القرن التاسع عشر. انتقلت الأسرة إلى دمشق مع نهاية الحرب العالمية الأولى وكان والده قاضياً، عمل في المحاكم العثمانية ثم السوري أيام الملك فيصل الأول (1918-1920). دَرَس عفيف البزري في مدارس دمشق الحكومية قبل أن يلتحق بالجامعة اليسوعية في بيروت لدراسة الرياضيات ويُسجل أيضاً في كلية الحقوق بجامعة دمشق.(1)
ولكن ظروف والده المادية لم تسمح له أن يُكمل دراسته الجامعية فدخل الكلية الحربية في حمص وتخرج منها ضابطاً في جيش الشرق (اختصاص مدفعية) في زمن الانتداب الفرنسي.
ضابطاً في جيش الشرق
انشق البزري عن جيش الشرق التابع لسلطة الانتداب وانضم إلى ثورة رشيد علي الكيلاني في العراق سنة 1941 مع اثنين من رفاقه، وهما المفكر القومي جمال الأتاسي، أحد مؤسسي حزب البعث، وأكرم الحوراني مؤسس الحزب العربي الاشتراكي.(2) اعتقلته سلطة الانتداب الفرنسي وتم سجنه في مدينة دير الزور لمدة عام، ليتم إطلاق سراحه مع وصول الرئيس شكري القوتلي إلى الحكم في 17 آب 1943.
وفي 18 أيار 1945 تم اعتقاله مع شقيقه صلاح البزري، وهو ضابط في سلاح الهندسة، بتهمة تحريض الجنود للقيام بثورة على الفرنسيين.(3) وفي هذه المرة تم نقله إلى السجن العسكري في بيروت الذي تمكن من الهروب منه يوم 3 حزيران 1945. وضع البزري نفسه تحت تصرف القيادة السورية وعُيّن في اللجنة المكلفة بتسلّم ثكنات الجيش من الفرنسيين قبيل جلاء قواتهم عن سورية يوم 17 نيسان 1946. وفي مطلع عهد الجلاء، عُيّن البزري استاذاً لمادة الطبوغرافيا العسكرية في كلية حمص الحربية، حتى تأسيس جيش الإنقاذ من قبل جامعة الدول العربية سنة 1947 لمحاربة العصابات الصهيونية في فلسطين.(4)
في جيش الإنقاذ
التحق البزري بجيش الإنقاذ وخدم تحت إمرة طه باشا الهاشمي، قائداً لسلاح المدفعية في فلسطين من تشرين الثاني 1947 حتى دخول القوات السورية والعربية النظامية الحرب بعد إعلان قيام دولة إسرائيل في 14 أيار 1948. وخلال حرب فلسطين تعرف البزري على حسني الزعيم، قائد الجيش السوري الذي أحبه وأُعجب بشاعته، وطلب منه العمل معه في دمشق بعد نجاح الانقلاب الذي قاده الزعيم ضد الرئيس شكري القوتلي يوم 29 آذار 1949.
مع حسني الزعيم
كُلّف عفيف البزري بعضوية الوفد العسكري لمفاوضات الهدنة مع إسرائيل، تحت إشراف الأمم المتحدة. وقد أجرت تلك المفاوضات في خيمة نُصبت على الحدود السورية الفلسطينية، وقد ضم الوفد السوري، إضافة للبزرة، كلّ من فوزي سلو (الذي أصبح رئيساً للدولة سنة 1951) ومحمد ناصر (الذي تولّى قيادة سلاح الطيران سنة 1950) ومعهم الدكتور صلاح الدين الطرزي، أمين هام وزارة الخارجية السورية.(5) خلال فترة المفاوضات الممتدة من نيسان وحتى تموز عام 1949، حصل 19 اجتماع مع الإسرائيليين، تخللتها 500 مذكرة احتجاج من الجانب السوري على مناوشات الجيش الإسرائيلي وخروقاته.(6) وُقِّعت اتفاقية الهدنة يوم 20 تموز 1949، واعتبرها السفير الإسرائيلي اتامار رابينوفيتش في كتابه الطريق الذي لم يُسلك “اعترافاً مبكراً بالدولة العبرية من قِبل حكومة دمشق، قبل أن تعترف بها مصر بثلاثة عقود.”
في عهد الانقلابات العسكرية
بعد سقوط حسني الزعيم ومقتله في 14 آب 1949، سافر البزري إلى فرنسا للدراسة في معهد الجغرافيا بباريس ولم يعود إلى سورية حتى نهاية العام 1953، أي أنه غاب عن الانقلابات المتلاحقة التي عصفت بالبلاد خلال تلك الفترة. وقد عاد إلى دمشق مع نهاية عهد الرئيس أديب الشيشكلي، الذي أجبر على الاستقالة من منصبه والسفر إلى لبنان في شباط 1954. كانت علاقة البزري جيدة مع رئيس الأركان اللواء شوكت شقير (وهو لبناني من قرية قرصون)، فطلب منه التوجه إلى السجون لإطلاق سراح كافة الضباط المعتقلين لمعارضتهم حكم الشيشكلي، وكان من بينهم العقيد عدنان المالكي، الذي تم تعينه رئيساً للشعبة الثالثة ومعاوناً لرئيس الأركان.(6)

المؤامرة العراقية
وفي سنة 1956 تم الإعلان عن محاولة انقلاب عرفت بالمؤامرة العراقية، كانت بتمويل وتخطيط من الوصي على عرش العراق الأمير عبد الإله بن علي ورئيس الحكومة العراقية نوري باشا السعيد. الهدف منها كان التخلص من جميع الشخصيات السورية المحسوبة على الاتحاد السوفيتي والرئيس جمال عبد الناصر، ومنهم العقيد عبد الحميد السراج، مدير المكتب الثاني، ورئيس البرلمان أكرم الحوراني. اتفق الأمير عبد الإله نوري السعيد مع الرئيس الأسبق أديب الشيشكلي على تنفيذ انقلاب ضد رئيس الجمهورية شكري القوتلي، الذي كان قد عاد إلى الحكم سنة 1955.
ولكن الشيشكلي تراجع عن التزاماته تجاه العراق فتم الاتفاق مع عدد من السياسيين الكبار المحسوبين على الغرب والمعارضين لجمال عبد الناصر، أمثال نائب حمص الدكتور عدنان الأتاسي ونائب دمشق الدكتور منير العجلاني والصحفي والوزير السابق سامي كبارة.
اعتقل جميع هؤلاء، باستثناء الشيشكلي الذي كان يقيم خارج سورية، وشُكّلت محكمة عسكرية لمحاكمتهم علناً على مدرج جامعة دمشق، برئاسة العقيد عفيف البزري. وكان البزري يومها قد حقق سمعة جيدة في الأوساط العسكرية السورية، وكان من المعروف عنه أنه من أشد المؤيدين لجمال عبد الناصر ومُقرب من الحزب الشيوعي السوري. افتتحت المحكمة يوم 8 كانون الأول 1957 ومثل أمامها 19 من أصل 47 شخصية سورية كانت متهمة بالضلوع في المؤامرة العراقية. وقد أصدر البزري حكمه بالإعدام على معظم المتهمين يوم 27 شباط، بما فيهم عدنان الأتاسي وهو وزير سابق ونجل رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي.
اعترض عدد من الحكام العرب على تلك الأحكام، بما فيهم ملك الأردن الحسين بن طلال والرئيس اللبناني كميل شمعون. كما اعترض الرئيس القوتلي بسبب علاقته التاريخية مع هاشم الأتاسي وطالب بتخفيف الحكم إلى السجن المؤبد. وقد رضخ عفيف البزري إلى تلك الضغوطات وقام بتعديل الأحكام. وبقي جميع هؤلاء معتقلين في سجن المزة العسكري حتى سنة 1960، عندما تم نقلهم إلى مدينة الإسكندرية في زمن الوحدة السورية المصرية، حيث وضعوا قيد الإقامة الجبرية.

البزري رئيساً للأركان العامة (أب 1957 – نيسان 1958)
في نهاية صيف العام 1957 حصل تقارب سوري سوفيتي وتم منح دمشق سلاحاً روسياً بقيمة $570 مليون دولار أمريكي، يتم تسديده بالتقسيط المريح عبر عائدات الزراعة السورية. وفي شهر أب من العام 1957 تم الكشف عن محاولة أمريكية لقلب الحكم في دمشق، كانت نتيجتها طرد طاقم السفارة الأمريكية وسحب السفير السوري من واشنطن فريد زين الدين.
وبعدها بأيام قليلة، تم إعفاء رئيس الأركان توفيق نظام الدين من منصبه وتعيين عفيف البزري بدلاً عنه، بعد ترفيعه استثنائياً إلى رتبة لواء. وقد جاء هذا القرار بتزكية من مدير المكتب الثاني عبد الحميد السراج، الذي وثق بعفيف البزري كثيراً وأعجب بطريقة إدارته لمحاكمات المؤامرة العراقية. ومما لا شك فيه أن ميول البزري الشيوعية لعبت دوراً رئيساً في قرار تعيينه رئيساً للأركان، وكان ذلك في خلال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. وقد ردت واشنطن على تسمية البزري رئيساً للأركان بالقول أن سورية قد أصبحت “جمهورية سوفيتية يحكمها ضابط شيوعي.”

الأرمة مع تركيا
وفور إعلان تعيين البزري في رئاسة الأركان قامت تركيا بحشد قواته على الحدود السورية، قائلة أن سورية باتت تشكل خطراً على حلف شمال الأطلسي وعلى سلامة دول الجوار. وقد رد الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف على الحشود التركية وهدد بالتدخل العسكري لصالح سورية، وقام الرئيس عبد الناصر بإرسال قوات مصرية إلى مدينة اللاذقية، دعماً للجيش السوري. انتهت الأزمة عند هذا الحد بوساطة سياسية قام بها سعود بن عبد العزيز ملك السعودية.(7)
سفر الضباط إلى مصر
في 11 كانون الثاني 1958، توجه عفيف البزري إلى القاهرة على رأس وفد عسكري مؤلف من 14 ضابط ناصري، يرافقهم الملحق العسكري المصري عبد المحسن أبو النور. وقد ضم الوفد ضباطاً معروفين أمثال مصطفى حمدون وجادو عز الدين وأمين الحافظ، الذين سافروا إلى مصر لمقابلة الرئيس جمال عبد الناصر دون جوازات سفر ودون أخذ إذن رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة ولا حتى وزير الدفاع خالد العظم.(8) وقد طلب البزري من نائبه أمين نفوري البقاء في دمشق وإبلاغ القيادة السورية أن الجيش قد تسلّم زمام الأمور وتوجه إلى مصر للمطالبة بتحقيق وحدة فورية مع الرئيس عبد الناصر.
وقد أبرقوا إلى القاهرة قبل سفرهم معلنين عن ساعة وصولهم، خوفاً من اعتراض طائرتهم في الجو من قبل الدفاعات المصرية لأنها أقلعت من دمشق دون أخذ الموافقات اللازمة.(9) وعندما تردد بعض الضباط من السفر بهذا الشكل خوفاً من عواقب رحلتهم، خاطبهم عفيف البزري بحزم، قائلاً: “أمامكم طريقان، الأول يؤدي إلى القاهرة والثاني إلى المزة (أي سجن المزة)، وعليكم الاختيار بينهما.”(10)
حطت طائرة البزري في مطار ألماظة العسكري ولكن عبد الناصر تأخر افي استقبالهم بسبب انشغاله مع رئيس إندونيسيا أحمد سوكارنو، وعندما فعل مساء 13 كانون الثاني 1958 قال لهم أنه لا يعترف بهذا الطلب لأنهم عسكريين لا يمثلون القيادة السياسية في سورية. رد اللواء البزري بالقول إنهم يمثلون الشارع السوري، مُؤكداً للرئيس أن القيادة السورية لا تستطيع أن ترفض طلبهم.(11)

ولكن الرئيس المصري التزم بموقفه إلى أن تلقى اتصالاً هاتفياً من الرئيس القوتلي من دمشق، الذي أكد له أن الضباط مخولين بالتفاوض باسم الدولة، وقام بإرسال وزير الخارجية صلاح البيطار إلى مصر لدعم موقف البزري وإضفاء شرعية سياسية على مفاوضات الوحدة. ثم سافر القوتلي بنسفه إلى القاهرة واجتمع مع عبد الناصر ليتم اتفاق على دمج الدولتين في كيان سياسي جديد أطلق عليه اسم الجمهورية العربية المتحدة، والتي تم الإعلان عنها رسمياً في شباط 1958.
البزري في زمن الوحدة
ولكن وبعد أسابيع قليلة من ولادة جمهورية الوحدة، قام الرئيس عبد الناصر بتسريح عفيف البزري من الجيش السوري وإعفائه من منصبه في يوم 2 نيسان 1958، بعد ترفيعه إلى رتبة فريق. كان قرار إعفاء البزري قراراً صادماً بالنسبة إلى جميع الضباط، لأنه كان يُعتبر صانع الوحدة وأحد أشد المتحمسين لها في سورية. ويعود تسريح البزري المبكر إلى سببين، أولهما هو نفوذه في الجيش السوري، حيث لم يرد الرئيس عبد الناصر أن ينافسه أحد داخل المؤسسة العسكرية، والثاني بسبب ميوله الحزبية لأن عبد الناصر أراد تطهير الجيش السوري من الأحزاب. وقد تخوف عبد الناصر من عفيف البزري، لأنه تجرئ على شكري القوتلي وتحداه بسفره إلى مصر دون استئذان سنة 1958. وقال أن من يتجاوز رئيسه السوري يمكنه تجاوز رئيسه المصري في أي وقت، لذلك فضل عبد الناصر التخلص منه في الأسابيع الأولى من حياة الجمهورية العربية المتحدة.
هذا الإعفاء كان صادماً بالنسبة لعفيف البزري، الذي لم يتوقع أن يكون هو أول ضحية في جمهورية الوحدة. وقد انتقل سراً إلى صفوف المعارضة، على الرغم من تعيينه في هيئة تخطيط الدولة في مصر، وهو منصب شرفي لا سلطة سياسية له. استقال البزري من منصبه الجديد وقال أنه يفضل العيش في دمشق، بعيداً عن الحياة العسكرية والحزبية. وقد أيد الانقلاب العسكري الذي أطاح بجمهورية الوحدة يوم 28 أيلول 1961، وكان في مقدمة منتقدي جمال عبد الناصر في سورية. وبعدها بأشهر قليلة وضع البزري كتاباً بعنوان الناصرية في جملة الاستعمار الحديث، تضمن هجوماً عنيفاً على عبد الناصر، وقد صدر في بيروت سنة 1962.
في سنواته الأخيرة
غاب عفيف البزري عن أي منصب سياسي أو عسكري من بعدها، وتفرغ لكتابة مذكراته وبعض الدراسات العسكرية، منها “علم الرمي للمدفعية” و”المدفع في الميدان.” كما وضع دراسة عن ضرورة تأسيس فرع الجغرافيا في الجيش السوري ورفعها إلى القيادة العسكرية في مطلع عهد حزب البعث، ليتم تبنيها بالكامل. وخلال حرب عام 1967، عُيّن عفيف البزري رئيساً للجنة الدفاع الوطني في سورية، بقرار من وزير الدفاع حافظ الأسد. وفي سنة 1973، ألّف البزري كتاباً بعنوان “الصهيونية العسكرية بعد حرب تشرين” وجاء بعده كتاب “الكفاح المسلّح” الذي صدر عن منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1980.
طلب منه ياسر عرفات وضع دراسات عسكرية لصالح حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، كان من بينها “معركة شقيف عرنون” و”الأزمة الراهنة للنظام الامبريالي” و”كفاح العالم الثالث.” وقد وضع دراسة بعنوان “المفاعل الذري والقنبلة الذرية” التي قام ياسر عرفات بتقديمها للعقيد الليبي معمّر القذافي سنة 1985. وفي سنة 1984 وضع البزري كتابان، كان الأول بعنوان الجهاد في الإسلام وحمل الثاني عنوان إسرائيل والمياه العربية. وقد نشر مذكراته على حلقات في مجلّة فتح الثوري، بعنوان “سورية جزيرة الحرية الخضراء.”
الوفاة
توفي الفريق عفيف البزري في دمشق عن عمر ناهز 80 عاماً يوم 28 كانون الثاني 1994.