سينما جناق القلعة، أول دار سينما بدمشق، أنشأت على طراز المسارح الأوروبية وافتتحت في عهد جمال باشا، قائد الجيش العثماني الرابع سنة 1916. شُيّدت عند نهاية طريق الصالحية، مكان مجلس الشعب حالياً عند زاوية ما يُعرف اليوم باسم شارع العابد. أنشأت الدولة العثمانية هذه الدار، ورصدت لها المبالغ الطائلة تخليداً لانتصارها على الأسطول البريطاني في معركة مضيق جناق قلعة من ناحية، ولاستقطاب أهل دمشق إلى هذا الفن الجديد وإبعادهم عن الشأن السياسي. كما كان الهدف من هذه الدار أن تكون وسيلة دعاية للعثمانيين ودول الحلفاء في الحرب العالمية الأولى.
وصف السينما
صمم البناء من الخارج على الطراز الشرقي والأندلسي، وأثث من الداخل على طراز المسارح الأوروبية، جعله المهندسون يصلح ليكون مسرحاً للتمثيل أيضاً، ولذلك أنشئت فيه شرفات “لوج” تحيط بالمسرح على شكل “حذوة الحصان”، وكانت أقرب شرفة إلى المسرح لا يزيد بعدها على خمسة أو ستة أمتار.
كان فيها فرقة موسيقية نحاسية تجلس أمام ستارة السينما في باحة مخصصة لها لتعزف أنغاماً تتلائم مع المشاهد المعروضة – إذ كانت الأفلام في ذلك الوقت صامتة – وكانت تعزف الموسيقا العسكرية “المارش” في فترات الاستراحة بين فصل وفصل، وكانت مدة الفصل الواحد لا تتجاوز العشرين دقيقة لعدم استيعاب الآلة العارضة للأفلام الطويلة.
كانت فترة الاستراحة تدوم أحياناً أكثر من مدة عرض الفيلم الواحد عندما تكون الفصول قليلة، ولدى ظهور مشاهد مطاردة أو عراك كان العزف الموسيقي يشتد ويشعر المرء وكأنه داخل صلب موضوع الرواية، وتعم الحماسة في نفوس المشاهدين أحياناً حتى لقد تجد الكثيرين يصرخون ويولولون كأن الحوادث التي تجري في الفيلم حقيقة واقعة.
حادثة حريق السينما
لم يستمر العمل في السينما أكثر من شهر واحد فقط، إذ في ليلة قمراء استفاق سكان دمشق على أصوات فرقعة عظيمة، وشاهدوا هذه الدار كتلة من اللهب نتيجة احتراق بكرة فيلم، حيث كانت الأفلام في تلك الحقبة سريعة الاشتعال فتحول المبنى إلى ركام.
وهذا ما أورده الباحث شمس الدين العجلاني في مقال تحدث فيه عن هذه السينما بقوله:
حدث الحريق ليلا عندما انقطع الفيلم أثناء عرضه، ووقع تحت تأثير الحرارة الشديدة المنبعثة من ضوء “القوس الكهربائي”، وكانت الأفلام حينذاك من المواد السريعة الاشتعال، وكانت الآلات العارضة بسيطة لا تتوافر فيها حافظة لبكرات الفيلم أو وسائل إطفاء الحريق ذاتياً، وكان الحريق كارثة لأن الدار كانت متميزة بفخامتها وضخامتها، وهي أول دار سينما أنشئت في “دمشق” على هذا النحو الذي نفتقده في أيامنا هذه.
ويقول السينمائي محمود حديد إن احتراق سينما جناق القلعة قد يكون مفتعلاً، خاصة إذا نظرنا إلى هذا الحريق ضمن السياق التاريخي الذي وقع فيه:
افتتحت هذه السينما في أوضاع سياسية توصف بالصعبة للحكومة التركية الجديدة آنذاك، وكان نشاط الحركات العربية الداعي للتحرر من الحكم التركي في تصاعد، ونظر أهالي دمشق إلى هذه السينما التي افتتحها جمال باشا السفاح على أنها دار للفسق، ولم تكن تحظى بمباركتهم، لذا اعتقد أن حادثة الاحتراق قد تكون مدبرة، خاصة أن حادثة الاحتراق هذه لم تكن الوحيدة في دمشق وإنما عادت لتداهم أكثر من سينما خلال مدة قصيرة. فالفيلم لا يحترق إلا إذا ارتفعت درجة حرارته عن طريق تعريضه للضوء وهو في حالة الثبات، وسينما جناق قلعة احترقت ليلاً ولم يكن وقت عرض الفيلم.
كما مر ذكر سينما جناق قلعة في كتابات الشيخ الشيخ علي الطنطاوي الذي حضر حفل افتتاحها، فيقول في كتابة دمشق صور من جمالها وعبر من نضالها: “وأين يسهر من يريد سهرا ً أو لهوا ً؟ وما في البلد إلا سينما أنشأها الأتراك للدعاية الحربية كانت في موقع البرلمان، أخذونا إليها فأرونا (فيلماً) عن حرب (شنا قلعة) أثناء الحرب الأولى.”
أبرز العاملين في السينما
عرف من العاملين في هذه الدار الميكانيكي اليوناني الأصل “ساسو” الذي كان يشغل آلات السينما.
موضعها حالياً
بقي مكانها أرضاً محروقة ردحاً من الزمن منذ عام 1916 ولغاية 1928 حين قررت حكومة رئيس الوزراء الشيخ تاج الدين الحسني بناء المجلس النيابي في موضعها، والذي مازال قائماً حتى وقتنا الحالي.