نفخ الزجاج اليدوي هي حرفة يعود تاريخها إلى أكثر من ألفي عام، اشتهرت بها بشكل خاص بلاد الشام، ففي دمشق كانت لها أهمية كبيرة اقتصادياً وحضارياً وفنياً، أتقنتها العديد من العائلات وتوارثتها عبر الأجيال حتى يومنا هذا، واشتهرت المدينة بوجود عشرات ورشات ومعامل صناعة الزجاج في أزقتها القديمة خاصة في حي الشاغور، لم يتبقَ منها اليوم إلا عدد محدود جداً، ومن أشهر العائلات التي ما تزال تمارس هذه المهنة في دمشق عائلة الحلاق في خان الزجاج في منطقة باب شرقي. وتمَارس المهنة في محافظات سورية أخرى منها إدلب.
الطريقة
تحتاج حرفة الزجاج اليدوي إلى فرن مصنوع يدوياً من الطوب، يشوى فيه الزجاج المكسر والرمل بعد فرزه بحسب الألوان، وتبلغ حرارته 1200 درجة، ولا يمكن إطفاؤه أبداً وإلا تجمدت عجينة الزجاج داخله الأمر الذي يحتاج عدة ساعات لصهرها من جديد. ويستخدم الحرفيون أيضاً أدوات مساعِدة مثل الملاقط والمقصات والأسياخ والأنابيب المعدنية.
بعد صهر عجينة الزجاج، يعاد تشكيلها عن طريق النفخ بأنبوب معدني بأشكال وأحجام متنوعة لصناعة الأكواب والأباريق والصحون والثريات والمزهريات وغيرها، ويمكن تلوين العجينة باستخدام الأكاسيد المعدنية مثل أوكسيد النحاس أو المنغنيز أو الكوبالت، كما يمكن إدماجها مع عناصر أخرى مثل الرخام في الأرضيات أو الجبصين في الجدران. وبعد تشكيل القطع توضع إلى جانب الفرن كي تتخمر على درجة حرارة 700، وتخفض الحرارة تدريجياً حتى تخرج القطعة إلى الجو الخارجي وقد تماسكت، ويمكن بعدها أيضاً الرسم عليها بخطوط ذهبية أو فضية حسب الطلب.
عام 2023 أدرجت منظمة اليونسكو الحرفة على قائمة التراث الثقافي اللامادي الذي يحتاج إلى صون عاجل، وذلك لتسليط الضوء على أهمية الحرفة وخطورة اندثارها نتيجة المصاعب العديدة التي واجهتها أثناء سنوات الحرب، وعلى رأسها تراجع أعداد اليد العاملة وصعوبة الحصول على المحروقات لتشغيل الفرن وتراجع الطلب في الأسواق.
قيل في حرفة نفخ الزجاج
يتطلب إتقان نفخ الزجاج اليدوي وقتاً وصبراً لأنها حرفة تحتاج إلى الجلوس أمام الفرن لفترات طويلة، والدقة وكذلك اللمسة الفنية أثناء تشكيل المنتجات.
أطلق الرحالة ابن بطوطة على الزجاج اليدوي في دمشق مصطلح “الزجاج العجيب”، وذلك في كتاب رحلاته “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”، حين كان يتحدث عن أسواق دمشق وفيها شوارع قائمة على أعمدة تضم حوانيتاً لمن يصنعون الجواهر وأواني الزجاج العجيبة.
ويتغنى الدمشقيون بالزجاج المصنوع يدوياً في مدينتهم فيقولون “أرق من زجاج الشام” وهو مثل قديم يدلّ على دقة وإتقان هذه الصناعة.
وكتب عنها محمد سعيد القاسمي وجمال الدين القاسمي في كتاب “قاموس الصناعات الشامية”: “الزجّاج هو من يعمل أواني الزجاج، كالقناديل والقناني والقطارميز بالمعمل المشهور الكائن في محلة الشاغور… يجلب معدن الزجاج الدمشقي من جبل عذرا إحدى قرى دمشق، ويوضع في تنور ثم ينقل إلى تنور آخر فيسبك بعضه بعضاً حتى يصير كالعجين، ثم يسحب وينقل إلى تنور آخر، حيث أعدت آلة التشغيل والصناعة في تنويع ما يراد منه. هذه الصنعة من بقايا الصنائع المدروسة في دمشق، كالقيشاني الذي أعجزت صنعته الأوروبيين، مع اختراعهم الأشياء المدهشة التي تحير العقول، فسياحهم يشترون قطعه المعروفة عند مجيئهم إلى بلادنا بأغلى ثمن، كغيره من القطع القديمة المعروفة بالأنتيكة”.