أحداث

الإضراب الستيني

(كانون الثاني - آذار 1936)

 

الإضراب الستيني، هو إضراب عام في جميع المدن السورية، نظمته الكتلة الوطنية في الفترة ما بين كانون الثاني – آذار 1936، رداً على اعتقال نائب دمشق فخري البارودي. وكانت نتيجة الإضراب إقالة حكومة الشيخ تاج الدين الحسني المحسوبة على فرنسا والدخول في مفاوضات سياسية مع قادة الكتلة، أدت إلى سفر وفد سوري إلى باريس، برئاسة هاشم الأتاسي، لمناقشة مستقبل الانتداب الفرنسي في سورية. وقد عاد وفد الكتلة الوطنية إلى دمشق في أيلول 1936، بعد توقيع معاهدة مع الحكومة الفرنسية، وعدت السوريين باستقلال تدريجي ولكنّها لم تُطبق بسبب رفض البرلمان الفرنسي المصادقة عليها، خوفاً من قرب وقوع حرب عالمية جديدة في أوروبا.

البداية

تعود جذور الإضراب الستيني إلى المظاهرات الحاشدة المنددة بالانتداب الفرنسي التي قادتها الكتلة الوطنية في حلب يوم وفاة إبراهيم هنانو في 21 تشرين الثاني 1935.  شارك أكثر من 150 ألف شخص في جنازة هنانو، حيث رفعت شعارات جريئة مطالبة بإنهاء الانتداب وسقوط فرنسا. اعتقلت السلطات الفرنسية مئة من المشيعين، كان من بينهم النائب سعد الله الجابري، خليفة إبراهيم هنانو في حلب. وبعد الانتهاء من الدفن، اقتحمت القوات الفرنسية منزل هنانو في حلب وصادرت ما في داخله من أوراق ووثائق، ما أشعل المزيد من المظاهرات والاعتقالات، وصلت إلى 160 شاباً من أنصار الكتلة الوطنية. لم تتوقف المظاهرات خلال الأسابيع الأخيرة من العام 1935، وفي 18 كانون الأول 1936 اعتقلت السلطات الفرنسية نائب دمشق فخري البارودي بتهمة التحريض، وقالت إنه هو المسؤول عن كل المظاهرات التي شهدتها سورية منذ خريف العام 1935.

توسع رقعة المظاهرات والإضراب

وبالتزامن مع اعتقال البارودي قامت سلطة الانتداب بإغلاق مكاتب الكتلة الوطنية في كلّ من دمشق وحلب، ما شجّع الناس على المزيد من التظاهر. عرض رئيس غرفة التجارة عارف الحلبوني أن يقوم بوساطة بين رئيس الكتلة هاشم الأتاسي والمندوب السامي الفرنسي هنري دي مارتيل، وعندما فشلت مساعيه، دعت الكتلة إلى إضراب عام في كل المدن السورية ابتداء من صباح يوم 27 كانون الأول 1936. وقام الأتاسي برفع برقية إلى عصبة الأمم قائلاً:

أغلقت مكاتب الكتلة الوطنية في سورية بعد إبعاد النائب فخري البارودي وسجن مئات من الشباب والطلاب بدون حكم. أحتل الجند شوارع المدن السورية، أطلقت النار على الطلاب وقُتل منهم عدد كبير، خُرقت حرمة المنازل، خُطف الأطفال لإرهاب العائلات هذه التدابير تؤدي البلاد إلى مجازفة مخيفة. نرجوكم العمل لوضع حدّ لهذه السياسة الخرقاء، ساعدونا على مطالبنا الحقّة.

لم تستجب عصبة الأمم لرسالة الأتاسي، وردت سلطة الانتداب بمنع رفاقه بدمشق، شكري القوتلي ونسيب البكري ولطفي الحفار، من المشاركة بالإضراب ووضعتهم قيد الإقامة الجبرية في منازلهم، مع نفي جميل مردم بك إلى بلدة أعزاز على الحدود السورية – التركية وطرد فارس الخوري من عمادة كلية الحقوق في الجامعة السورية، ما أدى إلى إضراب طلّاب الجامعة.

مع كل هذه التدابير الصارمة، تمكنت الكتلة الوطنية من حشد الشارع الدمشقي داخل الجامع الأموي وعند محاولة الشبّان الخروج في مظاهرة، تم إطلاق النار واستشهد أربعة منهم. أغلقت كل متاجر دمشق احتجاجاً على لجوء الفرنسيين للرصاص الحيّ في تفريق المتظاهرين، وأضربت مدينة حمص تضامناً ودعماً لأهالي دمشق وحلب. قُتل ثلاثة متظاهرين في حمص، جميعهم من أنصار هاشم الأتاسي. امتد الإضراب بسرعة إلى المدن السورية كافة، وشمل كلّ من حماة واللاذقية، وصولاً إلى مدينة دير الزور على ضفاف نهر الفرات، التي دخلت الإضراب رسمياً يوم 10 شباط 1936. وحدها الأفران بقيت تعمل في كل هذه المدن لتأمين حاجة المواطنين اليومية من الخبز، بطلب من هاشم الأتاسي.

وقد حدد الأتاسي مطالب الكتلة الوطنية وشروطه لوقف الإضراب: إطلاق سراح المعتقلين، وفي مقدمتهم فخري البارودي، إصدار عفو عام عن المبعدين السياسيين، إبطال قرار طرد الطلاب من مدارسهم وجامعتهم بسبب مشاركتهم في الإضراب، وفتح مكاتب الكتلة الوطنية في دمشق وحلب.

نهاية الإضراب

أدركت وزارة الخارجية الفرنسية المردود السيئ الذي سيعود على فرنسا وسمعتها من جراء ما يحدث في سورية، وأوعزت إلى المندوب السامي هنري دي مارتيل بأن يتصل بقادة الكتلة الوطنية ويعلمهم بقبول فرنسا بمطالبهم الأساسية والتفاوض معهم على هذا الأساس. وفي بادرة حسن نية تجاه الكتلة الوطنية، أمر دي مارتيل بإعفاء رئيس الحكومة تاج الدين الحسني من مهامه، بسبب قربه من الفرنسيين، وعيّن الوجيه الدمشقي المستقل عطا الأيوبي، المقبول سياسياً من قبل هاشم الأتاسي، رئيساً للحكومة السورية.

توجه الأتاسي والرئيس عطا الأيوبي إلى بيروت لمفاوضة هنري دي مارتيل، واتفق الطرفان على إنهاء الإضراب وفتح المتاجر مقابل إطلاق سراح البارودي وصحبه وسفر وفد رفيع برئاسة الأتاسي إلى باريس للتفاوض على مستقبل الانتداب الفرنسي في سورية.  وفي 2 آذار 1936 أصدر الأتاسي بياناً يدعو فيه الشعب إلى فتح المتاجر ونزل بنفسه إلى سوق الحميدية، أكبر أسواق دمشق التجارية، لقصّ الشريط الأخضر الذي وضع عند مدخله، معلناً إنهاء الإضراب الستيني. اعترفت فرنسا بالكتلة الوطنية يومها كممثل شرعي للشعب السورية، وكانت رسالة هاشم الأتاسي واضحة: وحدها الكتلة الوطنية قادرة على إغلاق الأسواق، ووحدها الكتلة الوطنية قادرة أيضاً على فتحها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !