أحداث

زيارة غليوم الثاني إلى دمشق

زيارة رسمية قام بها إمبراطور ألمانيا إلى دمشق سنة 1898

غليوم الثاني في دمشق سنة 1898.
غليوم الثاني في دمشق سنة 1898.

زيارة فيلهلم الثاني أو كما يسمى في المصادر العربية غليوم الثاني إلى دمشق، هي الزيارة الرسمية التي قام بها إمبراطور ألمانيا إلى دمشق مساء يوم الاثنين 7 تشرين الثاني 1898، بدعوى من السلطان العثماني عبد الحميد الثاني حيث بدأت الجولة من إسطنبول ثم ولاية الشام وسنجق القدس ومتصرفية لبنان. هدفت الجولة إلى زيارة الأراضي المقدسة وتدشين عدد من المؤسسات ألمانية ومنها الكنيسة الإنجيلية الألمانية في القدس، إلا أن الهدف الغير المعلن فقد كان للتعبير عن سياسة ألمانيا الجديدة في جعل الشرق الأوسط منطقة نفوذ لألمانيا القيصرية.

التحضير للرحلة

أعلن السلطان عبد الحميد استعداده لتحمل جميع نفقات الرحلة، ووضعها تحت الإشراف الدولة العثمانية بما يتفق مع كرم الضيافة الشرقية، إلا أن الإمبراطور رفض ذلك وفضل تكليف شركة توماس كوك بجميع مستلزمات الرحلة. ولهذه الغاية عمدت الشركة المذكورة إلى شراء مستلزمات الرحلة من السوق السورية كالسجاد والأبسطة والخيام والأواني، وتعاقدت مع مكارين لتقديم الدواب، ومع مترجمين وطهاة وخدم، كما تم نقل الدواب والجياد الخاصة من برلين لركوب الإمبراطور في فلسطين وسورية وذلك بحسب ما ذُكر في جريدة المقطم.

عمد السلطان عبد الحميد الثاني إلى إعداد قصر لائق لضيفه في حديقة قصر يلدز، على مقربة من القصر الذي كان الإمبراطور قد نزل فيه أثناء زيارته الأولى للعاصمة العثمانية سنة 1889. وذكرت صحيفة الأهرام المصرية نقلاً عن الصحف الأوروبية، أن الإمبراطور لم ينزل في القصر الجديد بسبب الرطوبة، وذلك لحداثة بنائه، وفضل الإقامة في القصر القديم الذي سبق ونزل فيه عام 1889.

تم تشكيل وفد من كبار المسؤولين العثمانيين لاستقبال الإمبراطور عند وصوله إلى الدردنيل، ووفد آخر بقيادة رئيس أركان الجيش شاكر باشا لمرافقة الإمبراطور في بلاد الشام. كما ألحق بالوفد مجموعة من الصحافيين لتغطية هذا الحدث، ومنهم الصحفي أحمد راسم بك الذي رافق وفد الإمبراطور إلى جانب خمسة عشر صحفياً أجنبياً وعربياً.

وبسبب ترافق زيارة الإمبراطور مع اغتيال إمبراطورة النمسا على يد أحد الفوضويين الإيطاليين، وضع أربعة آلاف جندي حراسة على الطريق من بيروت لدمشق، وقد جرى اعتقال الأجانب المشتبه بهم في العاصمة العثمانية وفي مدن بلاد الشام ولاسيما الإيطاليين منهم، ومنع البحارة الإيطاليون واليونانيون من النزول إلى المرافئ السورية.

أما عن التجهيزات التي تمت في دمشق فقد أقيمت مخيمات لاستراحة الإمبراطور أثناء سفره بالقطار من بيروت إلى دمشق، وتم تزيين الطرق وإعادة طلاء جدران المباني العامة والخاصة والمحلات التجارية، والعناية بالشارع الواصل من محطة البرامكة إلى حيّ المرجة، ودعي الجمهور الدمشقي لإقامة احتفال مدته ثلاثة أيام، رفعت خلالها الأعلام الألمانية والعثمانية مع شعار النسر والطغراء العثمانية والتي بلغ عددها ثمانية وعشرون ألفاً بالإضافة للافتات التحية على شرف الضيف والمضيف.

تغطية الزيارة في الصحف البريطانية.
تغطية الزيارة في الصحف البريطانية.

في دمشق

قررت الدولة أن يبيت الإمبراطور الألماني في منزل وجيه دمشق وصدرها أحمد رفيق باشا الشمعة فقام الأخير بتجهيز قصره الذي كان يمتد من حي القنوات إلى باب سريجة وباب الجابية. وذكر الشيخ على الطنطاوي في مذكراته أن أحمد باشا الشمعة استعد لإنزاله في داره، وبنى جناحاً لذلك واستقدم له الثريات والفوانيس من إسطنبول. إلا أن خلافاً وقع بين أحمد باشا الشمعة وأمير الحج عبد الرحمن باشا اليوسف حول أحقية كل منهما باستضافة الإمبراطور مما جعل والي الشام حسين ناظم باشا يقرر استضافة الإمبراطور في فندق داماسكوس بالاس منعاً للخلاف، والاكتفاء بإقامة ولائم على شرفه في قصور الشمعة واليوسف. أسرع الوالي بهدم السجن المركزي في ساحة المرجة ومهّد الأرض وسواها فصار مكان الفندق فسيحاً لاستقبال الإمبراطور، وهدم مبنى سراي البوليس وأنشأ مكانه مبنى ضخم جعله مجمعاً تجارياً ومسرحاً وسينما ومقهىً رفيع المستوى.

ويذكر المهندس الدكتور طلال العقيلي في دراسة له حول هذه الزيارة أن الإمبراطور وصل إلى ساحة المرجة في عربة مجللة بالذهب الخالص تجرها أربعة أحصنة، وخلفها مركبة زوجته ومائة مركبة أخرى للحاشية. وقد زينت الساحة وأبنيتها المجاورة بالمصابيح، قدر عددها بالمليون مصباح، مع خمسون ألف شمعة. وغرقت الساحة بالأضواء، وغصت بالسكان والمستقبلين.

حيا الإمبراطور الجمهور المحتفى به في ساحة المرجة، وزار سوق القميلة مقابل القلعة وسوق الحميدية وساحة المسكية وقصر العظم ومنازل دمشقية تقليدية وقاعة عبد الله بك العظم وجامع نور الدين وجامع السنانية وعدد من الكنائس ومحل حنانيا الرسول، حيث دلف منها للجامع الأموي الذي أثار إعجابه، ثم أطال الوقوف عند زيارة ضريح صلاح الدين، حيث وصف الإمبراطور الألماني السلطان الأيوبي الراحل بأنه أعظم بطل بين جميع الحكام السابقين، مؤكداً على سعادته بأن يكون في مدينة “الرجل النبيل الذي ارتفعت رتبته بتعليم أعدائه كيف يجب أن يكون الأبطال”. كما قام الإمبراطور بجولة في جبل قاسيون ومنطقة الصالحية، وشهد مناورات سلاح الفرسان والاستعراضات العسكرية في ساحة المرجة.

الامبراطور الألماني فيلهيلم الثاني وعقيلته في ضيافة آل العظم بدمشق، تشرين الثاني 1898

وفي مساء يوم الثلاثاء 8 تشرين الثاني 1898 أقامت بلدية دمشق مأدبة عشاء كبرى على شرفه، خطب فيها الضيف خطاباً باللغة الألمانية، جاء فيه:

أبدي الشكر باسمي وباسم حضرة الإمبراطورة، فكما أنني متمتع بهذا السرور العميق والامتنان لهذه المراسم الاحتفالية الشائقة الفائقة كذلك أراني مبتهجاً من صميم فؤادي عندما أفتكر بأنني في مدينة عاش عاش بها من كان أعظم أبطال الملوك الغابرة بأسرها الشهم الذي تعالى قدره بتعليم أعدائه كيف تكون الشهامة ألا وهو المجاهد الباسل السلطان الكبير صلاح الدين الأيوبي.

عشية مغادرته بيروت إلى ألمانيا طلب غليوم الثاني من الوفد العثماني أن يخبر السلطان بأنه لن ينسى هذه الرحلة أبداً، ويحترم دائماً الصداقة بينه وبين عبد الحميد، وفي مذكراته قال الإمبراطور أنه لم يسبق له أن لقي ترحيباً حاراً منذ توليه العرش مثل الترحيب الذي شهده في دمشق. كما روى خليل خطار سركيس مؤسس جريدة لسان الحال قول الإمبراطور عن دمشق أنها أجمل مدن الأرض، وقال كذلك “دع أربعين مليون ألماني يأتون إلى هذه الأراضي لمعرفة كيف يتم الترحيب بالملوك في الشرق.”

المواقف من الزيارة

تم توثيق هذه الزيارة التاريخية من قبل الكثير من الصحف العربية، وتباينت الآراء حولها بين من كانت له آراء إيجابية كصحيفة المؤيد المصرية، التي رأت في الزيارة تدشيناً لتحالف واضح، وقد وصفته بعظيم الغرب وعميد أوروبا. وبالمقابل لاقت الزيارة نقد لاذع من صحف أخرى كصحيفتي الأهرام والمقطم التي رأت فيها محاولة للاستحواذ على ممتلكات الدولة العثمانية الآسيوية وساحل سورية وتوطين الفلاحين الألمان فيه، فضلاً عن هيمنتها على التجارة العثمانية وفوزها بالامتيازات وامتصاصها ثروات البلاد. واعتبرت الأهرام أن زيارة غليوم الثاني إلى الشرق هي سياسية واقتصادية الأهداف، وإن ما يقال عن صداقة أو تحالف بين ألمانيا والسلطنة هو كلام وهم. ورفضت الأهرام الصداقة الألمانية بالقول: “نكره أن نكون كالسمك يطعم الطعمة في الصنارة، تشكمنا بعد قليل، أو كالطير ينثر لنا الحب فوق فخ منصوب لنا.”

أما صحيفة المقطم فلفتت بدورها الانتباه إلى موقف ألمانيا من المسألة المصرية والأهداف السياسية والاستعمارية من وراء رحلة امبراطورها، كفرض حمايتها على رعاياها الكاثوليك في الشرق وسعيها للاستيلاء على ساحل سوريا. فدعت إلى الريبة في صديقتنا الجديدة، لما وراء صداقتها الخفية من الغايات الاستعمارية والتجارية.

وأثارت زيارة الإمبراطور وكلماته ردود فعل عربية واسعة، وكتب أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدة “عظيم الناس من يبكي العظاما” قائلا:

فهل من مبلغ غليوم عني

مقالا مرضيا ذاك المقاما

رعاك الله من ملك همام

تعهد في الثرى ملكا هماما

أرى النسيان أظمأه فلما

وقفت بقبره كنت الغماما

تقرب عهده للناس حتى

تركت الجليل في التاريخ عاماً

توثيق الزيارة

بالإضافة لما نشر في الصحافة العربية والعالمية عن هذه الزيارة فقد تم التوثيق لها عبر مجموعة من صور الأرشيف العثماني التي احتفظت بها مكتبة جامعة إسطنبول. كما أصدرت برلين بطاقة بريدية عن دمشق والزيارة التاريخية التي قام بها هذا القيصر لهذه المدينة الخالدة وجاء فيها:

“Nice litho postcard of the Damascus Mosque used in Hamburg, Germany in 1898 and sent to Tabor Sudetenland Czechoslovakia. In series issued to commemorate the 1898 trip of the German Royal Couple (Kaiser Wilhelm II) to Damascus”

ومعناها باللغة العربية: “بطاقة بريدية حجرية لطيفة لمسجد دمشق استخدمت في هامبورغ بألمانيا عام 1898 وأرسلت إلى تابور سوديتنلاند تشيكوسلوفاكيا. في سلسلة صدرت لإحياء ذكرى رحلة الزوجين الملكيين الألمان عام 1898 (القيصر فيلهلم)”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !