أحداث

مفاوضات باريس

(آذار - أيلول 1936)

توقيع معاهدة عام 1936 في مبنى وزارة الخارجية بباريس.
توقيع معاهدة عام 1936 في مبنى وزارة الخارجية بباريس.

مفاوضات باريس، هي مباحثات سياسيّة عُقدت في العاصمة الفرنسية في الفترة ما بين آذار وأيلول 1936، وكانت نتيجتها التوقيع على المعاهدة السورية – الفرنسية بين الحكومة الرئيس ليون بلوم، والكتلة الوطنية الممثلة برئيسها هاشم الأتاسي. جاءت المفاوضات بعد إضراب عام دعت له الكتلة الوطنية مطلع العام 1936 استمر ستون يوماً، احتجاجاً على سياسات فرنسا التعسفية واعتقالها لعدد كبير من الشباب والسياسيين، في مقدمتهم نائب دمشق فخري البارودي.

دخلت الكتلة الوطنية في مفاوضات مع الفرنسيين وتوصلت معهم إلى حل يقضي بإنهاء الإضراب الستيني مقابل إطلاق سراح المعتقلين، وسفر وفد من الكتلة إلى باريس لمناقشة استقلال سورية. وعدت معاهدة عام 1936 بتوسيع صلاحيات الحكومة السورية واستعادة وزارتي الخارجية والدفاع، مع ضمّ جبلي العلويين والدروز إلى أراضي الجمهورية والاعتراف باستقلال سورية على مراحل، مقابل مجموعة من الامتيازات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي واقف وفد الكتلة على منحها إلى الجمهورية الفرنسية في سورية.

عند عودة الوفد السوري من باريس، استقال رئيس الجمهورية محمد علي العابد من منصبه ودعا إلى انتخابات نيابية ورئاسية مبكرة، فازت بها الكتلة الوطنية بغالبية مقاعد البرلمان السوري وأنتُخِب هاشم الأتاسي رئيساً. ولكن رفض البرلمان الفرنسي المصادقة على المعاهدة أدى إجهاضها واستقالة الأتاسي من الرئاسة في 8 تموز 1939.

أعضاء الوفد السوري

سافر الوفد السوري إلى فرنسا يوم الأحد 22 آذار 1936، وكان يضم:

وقد عيّن الأتاسي أثناء فترة غيابه زميله شكري القوتلي رئيساً بالوكالة للكتلة الوطنية في سورية.

هاشم الأتاسي ورياض الصلح وسعد الله الجابري في باريس سنة 1936.
هاشم الأتاسي ورياض الصلح وسعد الله الجابري في باريس سنة 1936.

الانتخابات الفرنسية

بعد بدء المفاوضات بمدة قصيرة، أعلن في فرنسا عن انتخابات نيابية عامة في 26 نيسان 1936، وكان الاتجاه الشعبي العام يرجع فوز الجبهة الاشتراكية بقيادة زعيم المعارضة ليون بلوم. توقفت المفاوضات السورية ريثما يتّضح المشهد السياسي في فرنسا، وعادت بعد فوز بلوم برئاسة الحكومة، خلفاً للرئيس إدوار دالادييه، وتعيين بيير فيينو رئيساً للوفد الفرنسي المفاوض مع السوريين.

الرئيس هاشم الأتاسي
الرئيس هاشم الأتاسي

الموضوع اللبناني

استأنفت المفاوضات في 23 حزيران 1936، وطلب فيينو من الأتاسي عدم التطرق إلى مستقبل الكيان اللبناني والتركيز فقط على المسائل المعلقة بالجمهورية السورية. وجه له الأتاسي رداً مفصلاً في 6 تموز 1936، جاء فيه أن قرار فرنسا بإحداث دولة لبنان الكبير هو بالأساس غير قانوني و”غير ديمقراطي” مطالباً بإجراء استفتاء في الأقضية الأربعة (بعلبك والبقاع وحاصبيا وراشيا) لمعرفة مشاعر أهالي تلك المناطق ورغبتهم الحقيقية في الاستقلال أمّ الانضمام إلى الدولة السورية. ردّ فيينو بالرفض القاطع، ولمّح إلى إنهاء التفاوض في حال أصر الأتاسي على موقفه. أقترح أعضاء الوفد السوري إمكانية إنشاء اتحاد فيدرالي بين سورية ولبنان، ولكن المقترح رُفض مجدداً من قبل الفرنسيين واكتفى الطرفان بألا تتضمن المعاهدة أي اعتراف سوري بوجود لبنان مستقل منفصل عن سورية.

المطالب السورية

وبالمقابل وافقت فرنسا على معظم مطالب الوفد السوري، كتأسيس جيش وطني ونقل إدارة الأمن العام والشرطة إلى السوريين، ومعها مديريات القبائل والضرائب والآثار والأوقاف والخط الحديدي الحجازي. وحصل وفد الكتلة على موافقة مكتوبة لتأسيس وزارة الخارجية السورية، تكون لها صلاحية تعيين سفراء في الخارج وإقامة علاقات دبلوماسية مع دول العالم كافة – بما فيها فرنسا – وبعدها يتم تحويل التمثيل الدبلوماسي الفرنسي بدمشق من “مفوض سامي” إلى مرتبة “سفير” ووافقت فرنسا على استعادة وزارة الدفاع السورية، المنحلّة منذ معركة ميسلون سنة 1920، وضم جبل العلويين وجبل الدروز إلى الدولة السورية، بعد حكم ذاتي دام منذ بداية الانتداب.

نص المعاهدة

المادة الأولى: يسود بين فرنسا وسورية سلم وصداقة دائمان ويقوم تحالف توثيقاً للصلات التي تجمع بينهما وتضمن مصالحهما المشتركة.

المادة الثانية: تتشاور الحكومتان في كل أمر من شأنه أن يمس مصالحهما المشتركة وتقفان إزاء الدول الأجنبية موقفاً يلائم تحالفهما مع تجنب كل ما يسيء إلى علاقتهما مع تلك الدول وتقيم كل منهما لدى الآخر ممثلاً سياسياً.

المادة الثالثة: يتخذ الطرفان المتعاقدان جميع التدابير اللازمة لنقل الحقوق والواجبات الناجمة عن المعاهدات والاتفاقيات التي عقدتها فرنسا باسم سورية أو فيما يخصها إلى الحكومة السورية يوم زوال الانتداب عنها.

المادة الرابعة: إذا وقع بين سورية ودولة أخرى خلاف قد يؤدي إلى قطع العلاقات بينهما تتداول الحكومتان الفرنسية والسورية في أمر تسوية ذلك الخلاف بالطرق السلمية وفاقاً لأحكام ميثاق عصبة الأمم. وإذا اشتبك أحد الطرفين المتعاهدين بنزاع، بادر الطرف الثاني إلى نجدته وفي حالة وجود خطر محدق يتداولان فوراً أمر اتخاذ تدابير الدفاع الضرورية. وتنحصر معونة الحكومة السورية في أن تقدم إلى حليفتها فرنسا في الأراضي السورية كل ما في وسعها من التسهيلات والمساعدات بما في ذلك استعمال السكك الحديدية ومجاري المياه والمرافئ والمطارات وسائر وسائل المواصلات.

المادة الخامسة: تقع على الحكومة السورية مسؤولية حفظ النظام في سورية والدفاع عن أراضيها وتقدم لها الحكومة الفرنسية المساعدة العسكرية مدة المعاهدة وفاقاً لنصوص الاتفاق الملحق. وتسهيلاً لقيامها الواجب المترتب عليها بموجب المادة السابعة، تعترف لها الحكومة السورية باستمرار التنقلات الجوية التي تجتاز الأراضي السورية وصيانتها في جميع الظروف لمصلحة التحالف.

المادة السادسة: عقدت هذه المعاهدة لمدة خمسة وعشرين سنة، تشمل الاتفاقيات والعقود الملحقة، وتفتتح المفاوضات الجديدة بشأن المعاهدة أو تعديلها إذا طلب ذلك إحداهما بعد مرور عشرين سنة على وضعها موضع التنفيذ.

المادة السابعة: تبرم المعاهدة بأسرع ما يمكن وتبلغ إلى عصبة الأمم وتوضع موضع التنفيذ يوم قبول سورية في عصبة الأمم.

المادة الثامنة: حال وضع هذه المعاهدة موضع التنفيذ، تسقط عن الحكومة الفرنسية المسؤوليات المترتبة عليها فيما يتعلق بسورية وتنتقل تلقائياً إلى الحكومة السورية.

المادة التاسعة: كتبت هذه المعاهدة بالفرنسية والعربية والمعلول على النص الفرنسي.

إذا وقع خلاف بشأن تفسير المعاهدة وتطبيقها ولم يمكن حله نهائياً بطريق المفاوضة المباشرة بين الطرفين المتعاقدين، يلجأ إلى أصول التحكيم والمصالحة المنصوص عليها في ميثاق عصبة الأمم

باريس في 9 أيلول 1936

وقد ألحق بالمعاهدة الأساسية اتفاقاً عسكرياً مؤلفاً من المواد التالية:

المادة الأولى: تأخذ الحكومة السورية تحت مسؤوليتها بحلوها محل السلطة الفرنسية، القوة العسكرية المنظمة مع تكاليفها وواجباتها.

المادة الثانية: الحد الأدنى الذي يجب أن تحويه القوة العسكرية السورية هو فرقة مشاة ولواء خيالة مع المصالح التابعة لها.

المادة الثالثة: تتعهد الحكومة الفرنسية بمنح الجمهورية السورية بناء على طلبها التسهيلات الآتية على أن تعود نفقاتها على الحكومة السورية.

أ‌- توضع بعثة عسكرية فرنسية تحت تصرف الحكومة السورية، تحدد مهمتها بالاتفاق بين الحكومتين وتتعهد الحكومة السورية بأن لا تَستخدِم سوى الفرنسيين بصفة معلمين واختصاصيين.

ب‌- ترسل الحكومة السورية من تشاء من رجال قواتها المسلّحة إلى المدارس ومراكز التعليم الفرنسية وعلى ظهر السفن البحرية الفرنسية وتحتفظ بحرية إرسالهم إلى بلد آخر إذا لم يكن باستطاعة تلك المدارس قبولهم.

المادة الرابعة: تؤمن الحكومة الفرنسية جميع احتياجات القوى المسلحة السورية من أسلحة وعتاد وسفن وطائرات وتجهيزات من أحدث طراز.

المادة الخامسة: تضع الحكومة السورية تحت تصرف الحكومة الفرنسية لمدة التحالف مواقع لقاعدتين جويتين وتقدم لها حرساً خاصاً للتعاون مع الاختصاصيين من القوى الفرنسية وتبقى القوة الفرنسية في جبل الدروز وبلاد العلويين مدة خمس سنين اعتباراً من نفاذ المعاهدة دون أن يمس بقاءها بحقوق السيادة السورية.

المادة السادسة: تضع الحكومة السورية تحت تصرف الحكومة الفرنسية جميع المواقع والأمكنة والتجهيزات التي تحتاج إليها القوى الفرنسية بما في ذلك استعمال السكك الحديدية والمطارات والمرافئ والهاتف والطرق والمواصلات البرية والبحرية والجوية.

توقيع المعاهدة

وقعت المعاهدة السورية – الفرنسية في الساعة الواحدة ظهراً من يوم 9 أيلول 1936، بحضور رئيس الحكومة ليون بلوم ورئيس الوفد المفاوض بيير فيينو والمفوض السامي الفرنسي هنري دي مارتيل. غادر الوفد الكتلة باريس عائداً إلى سورية في 17 أيلول 1936 وتوقف في جنيف أولاً ثم في إسطنبول، قبل أن يصل مرفأ بيروت في 27 أيلول. وفي 29 حطّ هاشم الأتاسي ورفاقه بدمشق، وخرجت المدينة في استقبالهم ورُفعت فوق مبانيها الحكومية أعلاماً سورية وفرنسية. استقال رئيس الجمهورية محمد علي العابد من منصبه ودعا إلى انتخابات رئاسية ونيابية مبكرة، فازت بها الكتلة الوطنية بغالبية مقاعد المجلس النيابي وانتخب هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية في 21 كانون الأول 1936. عُيّن جميل مردم بك أول رئيس حكومة في عهد الكتلة الوطنية، مسؤولاً عن متابعة وتنفيذ بنود معاهدة عام 1936، التي تبناها مجلس النواب السوري بغالبية مطلقة.

الرئيس جميل مردم بك
الرئيس جميل مردم بك

التراجع الفرنسي

ولكن البرلمان الفرنسي رفض المصادقة عليها وأجبر مردم بك على التوجه إلى باريس للتوقيع على ملاحق إضافية، أعطى بموجبها الفرنسيين حق التنقيب عن النفط في شمال سورية وضمن لهم قواعد عسكرية ثابتة في الساحل السوري. ولكن كل ذلك لم يُقنع المشرعين الفرنسيين، فما كان أمام مردم بك إلا الاستقالة من منصبه في شباط 1939، قبل خمسة أشهر من استقالة الرئيس هاشم الأتاسي.

قيل في معاهدة عام 1936

وصف فارس الخوري معاهدة عام 1936 بالقول: “إنها معجزة القرن العشرين” وقال جميل مردم بك إنها “عروسة الشرق” أما سعد الله الجابري فقد صرّح وقال: “لم يبق على فرنسا إلا أن تعطينا مارسيليا” ولكن الخوري تراجع عن كلامه بعد رفض البرلمان الفرنسي المصادقة على المعاهدة ووصفها بالمبتورة، وقال إنها كانت “عرجاء ومشوّهة” أما زعيم المعارضة الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، فقد عارض المعاهدة بشدة قائلاً: “إنّ هذه المعاهدة كلها سُموم ويحاول السيد جميل مردم بك تبليعها أبناء سورية وطليها بالعسل، ولكن أبناء البلاد سيطحنون جرعه المعسول بالعقل ليروا السموم المدسوسة فيه.”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !