محمد جميل بن سليم سلطان (1909-1979)، شاعر وأديب سوري من دمشق، كان أحد أشهر المدرسين السوريين في النصف الأول من القرن العشرين وثاني مدراء مدرسة التجهيز الأولى، خلفاً لمديرها المؤسس جودت الهاشمي. عين مدرساً في الجامعة السورية وشارك في كتابة معظم الكتب المدرسية في اللغة العربية، وكان لفترة وجيزة مديراً لإذاعة دمشق سنة 1951.
وبعد عودته إلى سورية سنة 1940، عُيّن أُسْتَاذًا في مدارس درعا ثم مديراً للتعليم في حوران من سنة 1945 ولغاية عام 1949. عُيّن مدرساً في الجامعة السورية، وفي سنة 1951 سمّي مديراً لإذاعة دمشق. وفي منتصف الخمسينيات، أصبح مديراً لثانوية التجهيز الأولى، خلفاً لمديرها المؤسس جودت الهاشمي، ثم مسؤولاَ عن التعليم الابتدائي في وزارة المعارف وعضواً في معظم اللجان المخصصة بوضع المناهج والإشراف على امتحانات البكالوريا الأدبي في سورية.
المؤلفات
تقاعد جميل سلطان من الجامعة السورية سنة 1966 وتفرغ لأعماله الأدبية. وقد ضمّت قائمة مؤلفاته:
منير بن صادق شورى (25 نيسان 1910 – 19 كانون الأول 2001) طبيب سوري من دمشق وأحد أشهر الأطباء السوريين في النصف الأول من القرن العشرين. أسس قسم الجراحة البولية في المستشفى الجامعي بدمشق وانتخب نقيباً للأطباء سورية وعميداً لكلية الطب في الجامعة السورية سنة 1964، وهو زوج السيدة قمر قزعون، رئيسة الهلال الأحمر العربي السوري وشقيق الفنان التشكيلي نصير شورى.
عمل منير شورى على الجبهة سنة 1948 وله يعود الفضل في إنقاذ حياة عدد كبير من الجنود السوريين أثناء حرب فلسطين الأولى. بيديه العاريتين أجرى عشرات العمليات الجراحية الميدانية لاستخراج الرصاص من أجساد الجنود المصابين، ما أثّر على أصبعين بيده اليمنى أصيبوا بحروق دائمة. كما ساهم مع مجموعة من الأطباء في تأسيس الهلال الأحمر العربي السوري وانتخبت زوجته قمر قزعون رئيسةً لفرعه بدمشق. تقديراً لجهوده في إنشاء الهلال الأحمر أو أثناء حرب فلسطين، منحه رئيس الجمهورية شكري القوتلي وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى سنة 1948.
منجزاته الطبية
وبعد انتهاء الحرب، عاد منير شورى إلى عمله بدمشق وأنشأ مثانة صناعية لمرضى سرطان المثانة، مصنوعة من جزء من الكولون، واخترع أداة لتفتيت الحصى في الكلية. أسس مستشفى خاص بدمشق من عشرة أسرّة خصصت ثلاثة منها لتكون مجانية بشكل دائم، وانتخب نقيباً لأطباء سورية في دورتين متتاليتين ابتداء من العام 1954 ولغاية سنة 1962. وفي سنة 1974 أطلق الجمعية السورية للجراحة البولية وكان رئيساً لقسم السريريات الجراحية في المستشفى الوطني، وعمل أيضاً في مستشفى الفرات. سمّي عميداً لكلية الطب سنة 1964 وظلّ يدرس في الجامعة السورية التي تحول اسمها إلى جامعة دمشق حتى سنة 1992.
السياسة
انتسب منير شورى إلى حركة التحرير العربي، التي أسسها العقيد أديب الشيشكلي سنة 1952، وبعدها بأشهر انتخب نائباً عن دمشق في البرلمان السوري وكان رئيساً للكتلة النيابية الأكبر في المجلس. ولكنه نشاطه السياسي ظل محدوداً وقد توقف مع سقوط حكم الشيشكلي سنة 1954.
نشاطات أخرى
إضافة لعمله الطبي المعروف، كان منير شورى محباً للرياضة وقد تميز بكرة القدم وكان هدّاف نادي بردى في شبابه. وفي سنة 1963، انتخب رئيساً للجمعية السورية للفنون ولعب دوراً كبيراً في تشجيع المواهب الشابة في التمثيل والغناء والرسم والنحت.
الحياة العائلية
وفي سنة 1940 تزوج منير شورى من قمر قزعون، الرائدة في الحقل النسائي، وله منها أربع أولاد: الدكتور وسيم شورى، المهندسة ميسان شورى، الأستاذ دارم والأستاذة رنا شورى.
الوفاة
توفي منير شورى في دمشق يوم 19 كانون الأول 2001 عن عمر ناهز 91 عاماً.
ملاتيوس الثاني الدوماني (8 تشرين الثاني1837 – 25 كانون الثاني 1906)، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس وأول بطريرك عربي يعتلي سدة الكرسي الأنطاكي منذ عام 1724. تسلّم مهامه سنة 1899 وبقي في منصبه لغاية وفاته عام 1906. واهتم بتعزيز العِلم والآداب وعُرف عنه تأسيسه مدرسة دير سيدة البلمند البطريركي مطلع القرن العشرين.
البداية
ولد ميخائيل موسى الدوماني في دمشق ودرس في المدرسة البطريركية من ثم المدرسة الإكليريكية البطريركية في التي كانت تحت إشراف الكاهن يوسف مهنا (يوسف الدمشقي). سيّم ميخائيل الدوماني كاهناً في 22 أيار 1860 متخذاً اسم “ملاتيوس” وبعدها أصبح أسقف مدينة اللاذقية في 19 تشرين الثاني 1865. أسس الدوماني مدرسةً للذكور في المدينة عام 1867، وحاز سنة 1869على الوسام المجيدي من الدرجة الرابعة من السلطان السلطان عبد العزيز وعلى وسام المخلص الذهبي من جورج الأول ملك اليونان.
وفي مطلع سبعينيات القرن التاسع عشر، احتج الدوماني لدى الحكومة العثمانية على المضايقات التي تجري من قبل السلطات المحلية بحق مسيحيي اللاذقية، ما دفع بالبطريرك الأنطاكية إيروثيوس إلى عزله مع مطران طرابلس في 18 شباط 1873. إلا أن الأزمة لم تستمر طويلاً، وعاد من بعدها الدوماني مطراناً على طرابلس.
مع نهاية القرن التاسع عشر، عاد الشعب الأنطاكي (وخاصة ما سُمي بالفريق الوطني) للمطالبة بتولي بطريرك عربي سدة الكرسي الأنطاكي، وزاد من حدة هذه المطالب فظاظة البطريرك اليوناني اسبيريدون (الذي تولّى السدة البطريركية عام 1891) وسوء معامتله للرعية والإكليروس العرب. وفي حزيران 1897 حمل ناظم باشا والي سورية شكاوى الشعب الأنطاكي إلى السلطان عبد الحميد الثاني والذي وجه باجتماع المجمع الأنطاكي الأرثوذكسي لإيجاد حل للمشكلة.
تدخل بطاركة القسطنطينيةوأورشليم (القدس) والإسكندرية (وكلهم يونان) إضافة إلى الهيئات الثقافية والرعايا اليونان في سورية لصالح إسبيريدون الأول، بينما أُشيع عن تدخل روسي لصالح الفريق الوطني وبعد صد ورد ومداولات عديدة نال الوطنيون مطلبهم وقدم إسبيريدون استقالته في شهر كانون الثاني عام 1898.
وفي منتصف عام 1899 انتخب المجمع الأنطاكي المقدس ملاتيوس بطريركاً لأنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس تحت اسم “ملاتيوس الثاني.” وفي 23 تشرين الأول 1899 أصدر السلطان عبد الحميد الثاني مرسوماً بقبول نتائج الانتخاب وتصديق تولي ملاتيوس السدة البطريركية.
ملاتيوس بطريركاً
عقب انتخابه، قام ملاتيوس الثاني بعقد مجمع لمطارنة أنطاكية للروم الأرثوذكس الذين قاموا بإقرار عدة بنود إصلاحية، ومنها تأسيس مدرسة في دير سيدة البلمند البطريركي عام 1900. وكان للدوماني فضل في تعزيز الآداب فأنشأ مكتبة ضمت 4000 كتاب واعتنى بمطبعة الدار البطريركية في دمشق وأسس الجمعيات الخيرية.
الوفاة
توفي ملاتيوس الثاني في إثر سكتة دماغية حادة أصابته في دمشق يوم 25 كانون الثاني 1906.
المناصب
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس (23 تشرين الأول 1899-25 كانون الثاني 1906)
أحمد بن محمد آغا القباني (1833-1903) رائد الفنون في سورية ومؤسس المسرح الغنائي في الوطن العربي. لعب دوراً ريادياً في تأسيس المسرح الدمشقي خلال النصف الثاني من القرن العشرين وأثر كثيراً بالفن المصري من خلال سنوات عمله في القاهرة.
البداية
ولِد أحمد أبو خليل القباني في حيّ الشاغور بدمشق سنة 1833 وتلقى علوماً دينية في صغره وعند ختمه القرآن الكريم، زار مفتي دمشق الشّيخ محمود الحمزاوي دار القباني في حيّ مئذنة الشحم لتهنئة والده على هذا الإنجاز، مُتمنياً على القباني الفتى أن يسلك طريق العِلم أو أن يصبح تاجراً مثل مُعظم أفراد أسرته.
ولكن ميوله الفنية كانت قد بدأت تظهر من خلال زياراته السريّة والمتكررة إلى مقهى العمارة، حيث كان يشاهد عروض “كراكوز وعيواظ” (خيال الظلّ) التي كانت رائجة في دمشق يومها، كونها وسيلة الترفيه الوحيدة المتاحة أمام الناس.
عندما وصل هذا الخبر إلى مسامع شيوخه، غضبوا منه وطردوه من حلقات التدريس في الجامع الأموي، بحجة أنه قد أصبح من رواد المقاهي، وأن من يسلك هذا الطريق لا مكان له في عالم المساجد. وفي أحد الأيام، دخل والده إلى غرفته فوجده يمارس التمثيل أمام المرآة، أو “التشخيص” كما كان أهل الشّام يسمونها، فقام بطرده من المنزل وقطع المصروف عنه.(1)
طريق الفن
قرر القباني أن يمتهن التمثيل والغناء والتأليف المسرحي، ضارباً بعرض الحائط كل ما سيُقال عنه في مجتمع دمشق المحافظ. استأجر محلاً لوزن القبّان، وصار يصرف من عائداته على تطوير موهبته، وعرف من يومها بلقب “القباني،” عِلماً أن أفراد الأسرة من قبله كانوا يعرفون باسمهم الأصلي: آل أق بيق.(2)
لقي دعماً من والي الشّام صبحي باشا، الذي كان قد حضر عروض المسرح الفرنسي في اسطنبول وأعجب بهذا الفن، فقرر أن يتبناه ويشجعه في دمشق عند تعيينه حاكماً عليها عام 1871. كانت أولى عروض القباني المدعومة من الوالي مسرحية قصيرة قُدمت في خان العصرونية ذلك العام، وانتقل مسرحه بعدها إلى سجن مهجور في محلّة القنوات، ثم إلى خان الجمرك، بين سوق الحرير وباب البريد.(3)
القباني في زمن مدحت باشا
بعد سبع سنوات، حصل القباني على دعم إضافي من الوالي مدحت باشا، فقام بتأسيس مسرح صيفي لفرقته، كان مقره في حيّ باب توما المسيحي، بعيداً عن رجال الدين.
كانت جميع العروض المسرحية من تأليفه وتلحينه وتمثيله، حيث اعتمدت كثيراً في بداياتها على المسرح الأوروبي، ثم صار يقدم عروضاً أقرب إلى الحياة اليومية، مستوحاة من التراث العربي، تتخللها فقرات غنائية وعدد من الموشحات والأدوار. قدم كل الوصلات الغنائية بنفسه، ليكون مؤسس المسرح الغنائي (الميوزيكال) ليس فقط في دمشق بل في العالم العربي.
وضع خلال مسيرته الفنية أكثر من ثمانين عملاً، ضاع معظمها بسبب أسفاره المتعددة. استعان بالطقوس الدينية، بما فيها من أناشيد وأدعية، وقام بنقلها من زوايا دمشق إلى خشبات مسارحها، لتكون عرضة لتأمل الجمهور ونقده، مما ضاعف من نقمة رجال الدين عليه، وكان على رأسهم الشّيخ سعيد الغبرا، أحد المُدرسين القدامى في الجامع الأموي.
وزاد من حفيظتهم أن معظم أعمال القباني كانت تحكي عن الحب في علاقات خارجة عن المؤسسة الزوجية، الأمر الذي أعتبره رجال الدين مخلاً بالآداب العامة.(4)
حاول القباني إقناعهم بالحوار، ولكنهم رفضوا الاستماع إليه، فعرض عليهم مشاركتهم بعائدات شباك التذاكر، وقدم لهم بطاقات مجانية لكي يشاهدوا ما كان يحتوي مسرحه من قيم وعبر أخلاقية، ولكنهم رفضوا التعاون معه. وحده المفتي محمود الحمزاوي، صديق أبيه، قبل الدعوة ولباها.(5)
فرقة القباني
استطاعت فرقة القباني، بالرغم من كل الضغوط المالية والاجتماعية، أن تستقطب أبناء كبرى العائلات الدمشقية إلى صفوفها، وكان على رأسهم الممثل الشاب عطا الأيوبي، الذي عرفه السوريون لاحقاً كأحد زعماء البلاد، والذي أصبح رئيساً للوزراء في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين.
كما ضمّت فرقة القباني نقولا شاهين، أحد أبناء حي القيمرية الذي دخل سلك الشرطة لاحقاً وصار مديراُ لشرطة دمشق في زمن الانتداب الفرنسي.(6) كما ضمت داوود خوري، وهو ابن موظف رفيع في الحكومة، وصالح درويش، الذي صار من أشهر أطباء الأسنان في سورية.
لم يكن بين أركان فرقته أي عنصر نسائي، نظراً لعدم دخول السيدات إلى عالم التمثيل، فكان القباني يطلب من الممثلين الذكور تقديم الأدوار النسائية، ولم يتردد أي منهم في ذلك، بالرغم من استهجان المجتمع ودعوات الإغلاق المتكررة التي ظهرت في خطب الجوامع، لأن الرجال صاروا، وبفضل القباني، “يتشبهون بالنساء.” كان هذا الأمر، دينياً، يُعتبر من الكبائر.
المواجهة مع رجال الدين
تداعى رجال الدين إلى تكفيره، وكانوا يرسلون الفتية والأشقياء لشتمه في حارات الشّام، يلاحقونه في الطرقات ويصرخون: “كافر…ماجن…زنديق!” ذهب الشيخ سعيد الغبرا إلى اسطنبول ووقف على أبواب الجامع، منتظراً خروج السلطان عبد الحميد الثاني. ثم خاطبه قائلاً: “أدركنا يا أمير المؤمنين. فإن الفسق والفجور قد تفشيا في الشّام!” قدم معروضاً للسلطان، باسم “الأئمة والعلماء،” أدى إلى إغلاق مسرح القباني بفرمان سلطاني.
المرحلة المصرية
لم يستسلم القباني فشدّ رحاله مع المغامرين من أعضاء فرقته متجهاً إلى مصر، حيث كانت الفنون وكان المسرح أكثر رواجاً وتقبلاً بين الناس. بواسطة تاجر حلبي مقيم في الإسكندرية إجتمع فور وصوله بالخديوي توفيق، الذي وضع مسرح الأوبرا الشهير في القاهرة تحت تصرفه بشكل مجاني، وقدم له قطعة أرض في ميدان العتبة الخضراء لكي يبني مسرحاً جديداً عليها.(7)
ولإضفاء شرعية كاملة على عمله، ولكي لا يتعرض له أحد المشايخ المصريين، قام الخديوي توفيق بحضور عرض مسرحية “الحاكم بأمر الله،” برفقة رجالات الدولة المصرية.(8)
لم يحميه هذا الدعم من شيوخ مصر، الذين هاجموه بقسوة كما هاجمه علماء الشّام من قبلهم، وشنت جريدة الزمان القاهرية حملة عنيفة ضده، جاء في إحدى مقالاتها:
وقد رأينا أول أمس ما تقشعرُّ منه الأبدان إذ كان رجال حالقون لشواربهم ولحاهم يقفون موقف النساء. وسمعنا البعض يصرخ من اللوجات: يا قلبي يا روحي” وما أشبه ذلك من الألفاظ التي لا تقال في محفل أدبي. فكيف بالله يرجى الإصلاح من منبع الفساد وكيف يُؤمن الآداب من عملٍ ليس إلّا قلّة حياء؟ ويا ليت أصحابنا اقتصروا على ملابس النساء أو حركات الفاضلات النازلات في مقام التشخيص بل رأينا منهم من التهتك وخلع العذار والإفراط في الغنج وعدم المبالاة بالآداب ما ألجأنا أن نحرم حضور الناس لتشخيصهم. على أن هؤلاء المشخصين ليسوا بمصريين بل هم بعض المطرودين من سورية.(9)
ذات يوم وخلال تواجد القباني مع فرقته في مدينة المينا، قام مجهولون بحرق مسرحه، وعند محاولته استئجار موقع جديد، رفض المصريون التعاون معه، لأنه شامي، وكان ذلك بتحريض من نجوم مصر الذين بدؤوا يغارون من نجاحاته المتكررة ويرغبون بإقصائه عن أرض مصر. فشد الرحال عائداً إلى دمشق 1900.
زيارة الولايات المتحدة الأميركية
قبل توجهه إلى دمشق، سافر إلى مدينة شيكاغو في الولايات المتحدة سنة 1893 لحضور المعرض العالمي المقام هناك، وبقي فيها مدة ستة أشهر. وفي أمريكا تعلم القباني الكثير، فكان التسجيل الصوتي قد طرح للعوام واستطاع القباني أن يستمع لنفسه، ليعيد ويكرر ويطور نبرات صوته واداءه.
رُتّب بعدها لقاء وديّاً بينه وبين السلطان عبد الحميد الثاني، الذي أدرك أنه ظلم القباني في الماضي، فامر الوالي ومجلس الولاية بعدم التعرض له بتاتاً، وكان هذا بترتيب من مستشار السلطان الدمشقي أحمد عزت العابد.
السنوات الأخيرة
أدى عروضه الآخيرة بدمشق في منزل صديقه ابراهيم نقاش، يوم زفاف ابنه الوحيد في 10 حزيران 1901. وحينما دخلت صبية تحمل الخمور للضيوف، واستثنت القباني، نظراً للفته البيضاء الكبيرة. فقال لها مبتسماً: “يا فتنة للناظرين، لماذا لم تقدمي لي الشراب أسوة بالخاضرين؟(10) أجابت: “لأنك مُسلم والخمر محرم عندكم.” هنا مسك بعوده وأعطى إشارة للعازفين، وردّ عليها غناءً بالقول:
رب ساق قام يسعى صاد قلبي بالذوائب
قلت ناوليني الحميا قال كلا أنت تائب
قلت لما تبّت عنها كان هذا الحسن غائب.
لم يستمر مسرح القباني في دمشق إلّا سنة وأحد عشر شهراً، وكان عمر فترته في مصر أطول بكثير، وصل إلى 17 عاماً من العطاء، كان يقدم فيها أربعة أعمال في السنة الواحدة. مع ذلك، استطاع أن يُشرع مهنة التمثيل في مدينته، بالرغم من كل المضايقات، محدثاً زلزالاً في المجتمع الدمشقي.
الوفاة
توفي أبو خليل القباني في دمشق إثر اصابته بمرض الطاعون في 15 كانون الثاني سنة 1903.
سلمى الحفار الكزبري (1923 – 11 آب 2006)، كاتبة سورية من رائدات عصرها، تنوّع نتاجها الأدبي بين القصة القصيرة والرواية والسيرة والشعر والدراسة والتحقيق، وهي ابنة لطفي الحفار، أحد الآباء المؤسسين للدولة السورية الحديثة. جمعت أوراقه وأصدرتها في كتاب قيم عن حياته وفي سنة 1995 نالت جائزة جائزة الملك فيصل العالمية لعلمها الدؤوب في توثيق حياة الأديبة الفلسطينية مي زيادة وجمع مراسلاتها مع جبران خليل جبران.
وعند نفي والدها مجدداً إلى العراق سنة 1940، بتهمة مقتل عبد الرحمن الشهبندر، تأثرت الحفار كثيراً ووضعت أولى رواياتها بعنوان يوميات هالة، تحدثت فيها عن الظلم الكبير الذي تعرض له لطفي الحفار يوم إلصاق هذه التهمة به وبرفاقه في الكتلة الوطنية. وعند صدور الكتاب سنة 1950 أهدته إلى روح سعد الله الجابري، صديق أبيها وأحد المتهمين الثلاث بجريمة مقتل الشهبندر.
الحياة الزوجية
تزوّجت سلمى الحفار سنة 1941 من محمد كرامي، شقيق عبد الحميد كرامي رئيس وزراء لبنان، وبعد وفاته المُبكر، اقترنت بالدبلوماسي السوري نادر الكزبري عام 1948، لتُعرف من بعدها باسمها الكامل: “سلمى الحفار الكزبري” وهو الاسم الذي رافق معظم كتاباتها ونتاجها الأدبي من يومها.
وفي سنة 1965 صدر كتابها الشهير عينان من أشبيليا وبعدها بعام كانت مجموعة قصصية ثالثة بعنوان الغريبة. وفي سنة 1971 أصدرت سيرتها الذاتية بعنوان عنبر ورماد، تلاها كتاب في ظلال الأندلس، وهو عبارة عن مجموعة محاضرات كانت قد ألقتها في سورية وإسبانياوتونس. ضمّ الكتاب نص محاضرة عن المرأة العربية، أُلقيت باللغة الإسبانية في مدريد سنة 1963 ومحاضرة ثانية عن الشاعرة الأندلسية ولادة بنت المُستكفي، أُلقيت بالإسباني أيضاً سنة 1967، و”أثرنا في الأندلس” التي أُلقيت في المنتدى الاجتماعي بدمشق سنة 1965.
بعدها كانت رواية البرتقال المر عن مأساة الشعب الفلسطيني، والتي صدرت عن دار النهار في بيروت سنة 1975. وفي العام 1993 نشرت مجموعة ثانية من محاضراتها عن الأندلس في كتاب بصمات عربية ودمشقية على الأندلس، الذي صدر عن وزارة الثقافة السورية. وفي سنة 1986 جاء كتاب حزن الأشجار، تلاه الحب بعد الخمسين سنة 1989. كما أصدرت ثلاثة دواوين باللغة الفرنسية :”الوردة الوحيدة” (1958)، “نفحات الأمس” (1966)، و”بوح،” إضافة إلى مجموعة شعرية كتبتها باللغة الإسبانية “عشية الرحيل.”
وقبل جائزة الملك فيصل كانت سلمى الخفار نالت وسام من الحكومة الإسبانية إلى جانب جائزة شريط السيدة سنة 1965، ومنحتها جامعة باليرمو في صقلية جائزة البحر المتوسط تقديراً لأعمالها سنة 1980.
الوفاة
توفيت سلمى الحفّار الكزبري في بيروت عن عمر ناهز 83 عاماً يوم 11 آب 2006.
محمد بن محمد بن حسين الميداني (1875- 4 آذار 1961)، الشهير بأبي الخير الميداني، عالم وفقيه حنفي من دمشق، أسس رابطة العلماء وكان رئيساً لها من سنة 1954 ولغاية عام 1960.
البداية
ولد أبو الخير الميداني في حيّ الميدان ودَرس في المدرسة الرشدية العسكرية في محلّة البحصة ثم في مكتب عنبر. أرادت أمه أن يصبح ضابطاً في الجيش العثماني والتحق بالمدرسة الحربية في إسطنبول ولكنه سرعان ما تخلّى عن حلمه وعاد إلى دمشق لدراسة علوم الشريعة. قرأ السيرة النبوية عند الشّيخ سليم المسوتي في جامع التوبة وبدأ حياته خطيباً في الجامع نفسه.
وعند انهيار الحكم العثماني في سورية نهاية شهر أيلول 1918 قرر الأمير الشهابي البقاء في دمشق وسمّي مُديراً لشؤون الزراعة والحراج في عهد الملك فيصل الأول. ومع بداية الانتداب الفرنسي عام 1920 عُيّن مديراً لأملاك الدولة حتى سنة 1935، عندما صدر قرار من قبل رئيس الجمهورية محمد علي العابد بتسميته مديراً للاقتصاد الوطني ثم وزيراً للمعارف في حكومة عطا الأيوبي الأولى في شباط 1936.
وفي كانون الأول 1943، عُيّن الأمير مصطفى الشهابي وزيراً للمالية في حكومة جميل الألشي أولاً، ثم في وزارة عطا الأيوبي في آذار 1943. أشرفت هذه الحكومة على الانتخابات التي أوصلت شكري القوتلي إلى رئاسة الجمهورية في 17 آب 1943، والذي أصدر مرسوماً فور انتخابه بتعيين الشهابي محافظاً لمدينة اللاذقية. في سنة 1945، عينه رئيس الحكومة سعد الله الجابري أميناً عاماً على السراي الكبير (دار الحكومة)، ليعود إلى اللاذقية محافظاً بعد نهابة الانتداب عام 1946. وقد بقي الشهابي في منصبه حتى سقوط حكم القوتلي إبان الانقلاب الأول في 29 آذار 1949.
وزيراً مغوضاً في مصر
وبعد انتخاب حسني الزعيم رئيساً للجمهورية في 26 حزيران 1949، شكلت حكومة برئاسة الدكتور محسن البرازي، سمّي فيها الأمير مصطفى وزيراً للعدل حتى 14 آب 1949. وبعد زوال حكم الزعيم ومقتله مع البرازي، أعيدت الحياة النيابية إلى سورية وانتُخب هاشم الأتاسي مجدداً رئيساً للجمهورية فقام بتعيين الأمير الشهابي وزيراً مفوضاً في مصر سنة 1951، ليكون شاهداً على ثورة الضباط الأحرار في 23 تموز 1952. وقد قلّده الرئيس المصري اللواء محمد نجيب الوشاح الأكبر مع الرصيعة من وسام النيل.
في مجمع اللغة العربية
بعد انتهاء خدمته في مصر عاد الشهابي إلى سورية وتفرغ لأعماله في مجمع اللغة العربية، الذي كان قد انتُخب عضواً فيه منذ سنة 1926. ثم أصبح نائباً للرئيس سنة 1956 وبعدها بثلاث سنوات، انتُخب رئيساً للمجمع بالإجماع، خلفاً للشاعر خليل مردم بك.
مؤلفاته
وضع مصطفى الشهابي كتباً ودراسات متنوعة خلال حياته المديدة، منها:
شكيب بن مراد الجابري (19 كانون الثاني 1897 – 23 كانون الثاني 1980)، مهندس كيميائي وأديب سوري من حلب. أسس مجلات أدبية بدمشق وشغل عدة مناصب في حياته كان أهمها يوم تعيينه وزيراً مفوضاً في إيرانفي عهدالرئيس أديب الشيشكلي.
البداية
ولِد شفيق جبري في حلبوهو سليل عائلة سياسية عريقة عَمِلت في الشأن العام منذ منتصف القرن التاسع عشر. دَرَس في مدارس عاليهوفي الكليّة الإسلاميّة في بيروت، ثم سافر إلى سويسراللدراسة في جامعة جنيفسنة 1930 وعمل سكرتيراً فيعصبة الأمم، قبل توجهه إلى برلينلنيل شهادة الدكتوراه في الكيمياء. وقد لاحقته السلطات الفرنسية في سورية بسبب نشاطه في الحركة الوطنية مع عمّه سعد الله الجابري وباقي أفراد عائلة الجابري
العمل الحكومي
عاد شكيب الجابري إلى سورية بعد تعيين سعد الله الجابري رئيساً للحكومة سنة 1943 وسمّي مديراً للمطبوعات. ومن دمشق أصدر مجلّة ثقافية بعنوان “العالمان” ومجلّة ثانية بعنوان “أصداء” كانت تهدف إلى استقطاب الأقلام الشابة ولكنها لم تستمر طويلاً. وفي سنة 1945 عينه الرئيس الجابريمديراً للمعادن في سورية، وبعدها بسبع سنوات، جاءت تسميته وزيراً مفوضاً في طهران في عهد لرئيس أديب الشيشكلي،الذي أراد فتح قنوات تعاون مع الحكومة الوطني التي قانت بقيادة الدكتور محمد مصدق.
موقفه من الوحدة السورية – المصرية
وفي سنة 1955 استدعي الجابري إلى دمشق وعُيّن مديراً لشركة الزجاج الوطنية. أيّد الوحدة السورية – المصرية عند قيامها ولكنه سرعان مع انقلب ضدها بسبب القرارات الاشتراكية التي صدرت عن الرئيس جمال عبد الناصر، ومنها قانون الإصلاح الزراعي في أيلول 1958 الذي طال أراضي آل الجابري في سورية، وقرارات التأميم سنة 1961 التي صادرت المصانع والمصارف الخاصة. ومع حلول سنة 1963 انتقل الجابري للعيش في السعودية وعُيّن مستشاراً للمك فيصل حتى استشهاده عام 1975.
مؤلفاته
شارك شكيب الجابري في تأسيس جمعية الأدباء العرب سنة 1957 وأصبح رئيساً لها حتى سنة 1961، وكان رئيساً لجمعية الفنون السورية منذ عام 1959. صدرت له أربع روايات، وهي:
أبو اليسر بن محمد أبو الخير عابدين (1889-2 أيار 1981)، طبيب وعالم وفقيه سوري من دمشق، تسلّم إفتاء الجمهورية السورية من سنة 1954 ولغاية عام 1963، مع انقطاع قصير في الأشهر الأخيرة من سنوات الوحدة السورية المصرية. مارس مهنة الطب طوال ثلاثين عاماً وكان مُدرّساً في الجامعة السورية وخطيباً في جامع الورد بحيّ سوق ساروجا. وهو أحد أعيان دمشق في النصف الأول من القرن العشرين.
البداية
ولد أبو اليسر عابدين في حي سوق ساروجا وكان والده الشيخ أبو الخير عابدين مفتياً بدمشق على في السنوات الأخيرة من الحكم العثماني ومطلع العهد الفيصلي. قرأ على يد أبيه وتولّى القضاء الشرعي في مدينة بعلبك سنة 1920، قبل أشهر من فصلها عن سورية وضمّها إلى دولة لبنان الكبير. انضم إلى الهيئة التدريسية في الجامعة السورية، مدرساً لمادة الأحكام الشرعيّة، ودرس في كلية الطب وتخرج فيها سنة 1926. عمل طبيباً طوال حياته، إضافة للتدريس في كليتي الطب والشريعة والخطابة في جامع الورد التي ورثها عن أبيه. وفي سنة 1949 عزله حسني الزعيم عن التدريس، بسبب رفضه تأييد الانقلاب الأول الذي أطاح بحكم رئيس الجمهورية شكري القوتلي.
مفتياً للجمهورية السورية
عاد الشيخ عابدين إلى التدريس بعد سقوط حكم الزعيم ومقتله في 14 آب 1949 وفي 12 حزيران 1953، انتخب مفتياً للجمهورية خلفاً للشّيخ محمد شكري الأسطواني. كان له دور بارز في تنظيم أسبوع التسلّح الذي دعا إليه الرئيس القوتلي بعد عودته إلى الحكم سنة 1956 وأيّد الوحدة السورية المصرية عند قيامها في 22 شباط 1958.
بارك الانقلاب العسكري الذي قاده عبد الكريم النحلاوي في 28 أيلول 1961 وأعيد إلى منصبه بقرار من الدكتور ناظم القدسي يوم انتخابه رئيساً للجمهورية في منتصف شهر كانون الأول من العام نفسه. أصدر بيان تأييد لعهد الانفصال واتهم عبد الناصر بالخداع وقال إنه “تظاهر بالوطنية وإغناء الفقير، فأفقر الغنيّ وأمات الفقير.” وعندما وصل حزب البعث إلى الحكم سنة 1963، عزل عابدين عن منصبه مجدداً بتهمة تأييد “جريمة الانفصال” فانصرف للتدريس والخطابة.
المؤلفات
وضع المفتي أبو اليسر عابدين عدداً كبيراً من المؤلفات في حياته، كان من بينها:
توفي الشّيخ أبو اليسر عابدين بدمشق عن عمر ناهز 92 عاماً يوم 2 أيار 1981.
عائلة المفتي
اشتهر عدد من أقرباء المفتي عابدين في حياته ومن بعده، فكان ابنه محمد عزيز عضواً في الهيئة العليا لكبار عُلماء الشّام، وحفيده الدكتور يسار عابدين رئيساً لجامعة دمشق سنة 2020. أما شقيق المفتي محمد رشد عابدين فكان نائباً لرئيس محكمة التمييز ثمّ رئيساً لمحكمة النقض الشرعية وأصبح ابنه علاء الدين عابدين رئيساً لفرع حزب البعث بدمشق في السنوات 1979-2000.
نجيب الريّس (1898 – 9 شباط 1952)، مؤسس جريدة القبس الدمشقية في زمن الانتداب الفرنسي وأحد قادة الحزب الوطني في مرحلة الاستقلال. انتسب إلى الكتلة الوطنية في شبابه وانتخب نائباً في البرلمان السورية سنة 1943. يُعدّ من أبرز الصحفيين السوريين في أربعينيات القرن العشرين وهو صاحب نشيد يا ظلام السجن خيّم ووالد الناشر والكاتب رياض الريّس.
البداية
ولِد نجيب الريّس في مدينة حماة ودرس في مدارسها الابتدائية قبل انتقاله إلى دمشق لدراسة الحقوق في الجامعة السورية. لم يكمل دراسته الجامعية وتفرغ باكراً للعمل الصحفي وبدأ حياته المهنية مراسلاً لجريدة النهار اللبنانية. عُرف بموقفه المعارض للانتداب الفرنسي، ما أدى إلى اعتقاله وسجنه في جزيرة أرواد سنة 1922، وفيه وضع نشيده الشهير يا ظلام السجن خيّم الذي أصبح من أشهر الأناشيد الوطنية في سورية، لا يضاهيه من حيث الشعبية والانتشار إلّا نشيد بلاد العرب أوطاني لصديقه في الحركة الوطنية فخري البارودي.
مع القبس
بعد خروجه من المعتقل أنضم الريّس سنة 1925 إلى صفوف حزب الشعب، بقيادة الزعيم الوطني عبد الرحمن الشهبندر وعمل رئيساً لتحرير صحيفة بريد الشرق الأسبوعية. وفي 1 أيلول 1928 أطلق صحيفة القبس اليومية التي صدرت بداية بصفحتين، خلافاً للأربع صفحات المتعارف عليها في الصحف السورية يومئذ، وكانت من القطع الصغير. وكانت القبس امتداداً لصحيفة المقتبس التي أوقفها صاحبها محمد كرد علي قبل بضعة أشهر ولصحيفة القبس القديمة التي ظهرت بدمشق سنة 1913 وكانت برئاسة المحامي شكري العسلي، أحد شهداء 6 أيار 1916. وضع الريّس صورة العسلي على غلاف العدد الأول من القبس ونظراً لخطها الوطني المتشدد حققت الصحيفة نجاحاً مبهراً في عامها الأول وأصبحت من أكثر الصحف السورية تداولاً وشهرة. وقد تعرضت للتعطيل مراراً في زمن الانتداب، أثناء حكم تاج الدين الحسني ثم في عهد رئيس حكومة المديرين بهيج الخطيب عام 1940.
النشاط السياسي
انضم نجيب الريّس إلى صفوف الكتلة الوطنية ودافع بشدّة عن المعاهدة التي أبرمتها في باريس – معاهدة عام 1936 – ما وضعه في مواجهة مباشرة مع حليف الأمس عبد الرحمن الشهبندر، المعارض للمعاهدة. شن الريّس هجوماً على منتقدي المعاهدة، وفي مقدمتهم الشهبندر، داعياً السوريين للاستثمار بعهد الكتلة ودعم حكومة الرئيس جميل مردم بك. وحذّر من مطامع الأتراك في سورية وكتب الكثير من منطقة لواء إسكندورن التي سُلخت عن الأراضي سورية في زمن الحكومة المردمية وألحقت بتركيا سنة 1939. جمعاً وضع نجيب الريّس 700 مقال في مرحلة الانتداب الفرنسي: 64 منها عن قضية اللواء السليب و 182 افتتاحية في شتى الأمور السياسية، نُشرت كلّها في القبس.
انتسب نجيب الريّس في شبابه إلى عشيرة البنائين الأحرار وكان عضواً في محفل قاسيون الدمشقي، قبل أن يُطرد منه وهو لايزال برتبة “المبتدئ” سنة 1925 لإفشاء أسرار الماسونية. كتم نشاطه الماسوني طيلة حياته وتوفي دون أن يعرف أحد عن عضويته في محفل قاسيون. بعد رحيله بسنوات طويلة قامت الكتابة السورية سعاد جروس بجمع أوراقه في كتاب، ومنها رسالة طرده من المحفل. وعلى الرغم من وصف المحفل لهذا الطرد بالنهائي، إلا أنه تراجع ودعا نجيب الريّس لحضور إحدى حفلاته الخيرية بدمشق سنة 1934. وقد ورد اسمه في برنامج الحفل الموزع على الحضور بـصفة “الأخ” نجيب الريّس.
معركة دستور عام 1950
تعرض نجيب الريّس إلى مضايقات كبيرة في مرحلة الاستقلال، من قادة حزب الشعب أولاً المنافسين له وللحزب الوطني. جاء ذلك بعد وصولهم إلى الحكم سنة 1949 وسعيهم جاهدين لإلغاء امتياز القبس. واصطدم أيضاً مع جماعة الإخوان المسلمين بسبب معارضته لهم أثناء مناقشة دستور عام 1950. حاول نواب الإخوان فرض مادة دين الدولة على مسودة الدستور وكتب الريّس مقالاً مطولاً في القبس، جاء بعنوان “البلاد ليست لنا وحدنا.” دافع عن المسيحيين وحقوقهم السياسية في سورية، وطالب بسنّ دستور عصري يحترم “علمانية الدولة السورية”:
لو كانت هذه البلاد للمسلمين وحدهم، لكانوا أحراراً في فرض دينهم على أنفسهم وعلى حكوماتهم وحكامهم، ولكن البلاد ليست لنا وحدنا، بل هي لنا ولغيرنا، وخصوصاً للنصارى الذين كانت لهم قبلنا، والذين دخلنا عليهم وهم فيها أصحاب دولة وملك ودين. حرمة الدين الإسلامي لا تكون بالنصوص والقوانين المفروضة، بل تكون بالتقوى والتمسك بتعاليم الدين، فلنكن متدينين أتقياء لا متعصبين أشداء، وليكن الدين مظهراً لأخلاقنا لا منفراً لإخواننا ومواطنينا.
أكمل الريّس كلامه بالقول: “لماذا تضعون هذه المادة الذي يثير، مجرد وضعها فقط، نفوس غير المسلمين في سورية وفي غيرها ويفتح علينا وعلى بلادنا باباً جديداً من الدعاية في العالم الخارجي نحن في غنى عن فتحه؟”
الموجهة مع أكرم الحوراني
واعترض الريّس على المادة 30 من مسودة الدستور، التي حددت سقف الملكية الزراعية في سورية وأعطت الدولة حق انتزاعها من أصحابها في حال تقصيرهم في زراعتها أو استثمارها. وقف خلف هذا الطرح يومها الزعيم الاشتراكي أكرم الحوراني وردّ عليه الريّس قائلاً:
لقد أصبحوا يرددون كلمات “الإقطاعية” و”الرأسمالية” في أحاديثهم وخطبهم، يهاجمون ويتجاهلون ما يجنوه على الفلاحيين في الدرجة الأولى من قتل روح العمل في نفوسهم وتحويلهم عن الكسب الحلال إلى الكسل والبطالة والفتن.
ختم الريّس مقاله محذراً من أن تصرفات الحوراني وأفكاره قائلاً إنها ستؤدي إلى “أرض عاطلة عن الإنتاج، فلاحين عاطلين عن العمل، وملاكين يتركون قراهم بوراً يرتع فيها هؤلاء التقدميون الاشتراكيون مثل أكرم الحوراني، فلا يجدون فيها غير جياع لا يملكون إلا أصواتهم بعد أن أفقدوهم مؤنتهم وطعامهم في سبيل مبادئهم.”
الوفاة
توفي نجيب الريّس عن عمر ناهز 54 عاماً في 9 شباط 1952 وأطلقت الدولة السورية اسمه على جادة رئيسية في مدينة دمشق وأخرى في مسقط رأسه بحماة، تكريماً له لمنجزاته الوطنية.
“وهو على حداثة سنه قد زيّن المطبوعات العربية في سورية ومصر بشذرات قلمه السيال ونفثات براعه الطليق وبنات فكره المولد، حتى باتت مقالاته الشيّقة الأسلوب والغزيرة المادة في كل موضوع طرحه، لذّة المطالعين وأحدوثة الأسمار.”
بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية انتقلت دار الريّس على بيروت، حيث عمل رياض الريّس حتى وفاته في أيلول 2020. أوصى بنقل أوراق أبيه ومراسلاته وصوره إلى الكاتب السوري سامي مروان مبيّض، لوضعها ضمن مقتنيات مؤسسة تاريخ دمشق التي كان الريّس يشغل عضوية مجلس حكمائها منذ سنة 2017.