أعلام وشخصياتضباط وقادة عسكريون

أديب الشيشكلي

رئيس الجمهورية السورية (تموز 1953 - شباط 1954)

 

الرئيس أديب الشيشكي
الرئيس أديب الشيشكي

أديب بن حسن الشيشكلي (1909 – 27 أيلول 1964)، ضابط سوري من حماة وقائد انقلابين في مطلع عهد الاستقلال، كان الأول في شهر كانون الأول من العام 1949 والثاني في تشرين الثاني 1951. وفي 11 تموز 1953 انتُخب رئيساً للجمهورية وبقي يحكم سورية لغاية الإطاحة به واستقالته في 25 شباط 1954. يُعد أحد الآباء المؤسسين للجيش السوري، وقد شارك في حرب فلسطين، متطوعاً في جيش الإنقاذ ثم في الجيش السوري، وأسهم إسهاماً بارزاً في انقلاب حسني الزعيم يوم 29 آذار 1949 وانقلاب سامي الحناوي في 14 آب 1949. وقد شهد عهده نهضة اقتصادية وصناعية كبيرة، وتقارباً مع كل من السعودية ومصر. عاش سنواته الأخيرة في المنفى، وحاول المشاركة في انقلاب جديد سنة 1956 ولكنّه انسحب منه باكراً وحكم عليه بالإعدام بسببه. وقد اغتيل في البرازيل بعد عشر سنوات من مغادرته الحكم سنة 1964.

 البداية

ولِد أديب الشيشكلي في حماة وهو سليل عائلة كبيرة من الملّاكين والآغوات. دَرَس في المدرسة الزراعية بمدينة السلمية وفي كلية حمص الحربية، وعند تخرجه عُيّن ضابطاً في جيش الشرق التابع لسلطة الانتداب الفرنسي في سورية. عرف بنزعته القومية وشدّة معارضته للفرنسيين، ما أثّر في ترفيعه وأدى إلى تعيينه في مناطق نائية، في ريف الرقة أولاً ثمّ في مدينة البوكمال.

الشيشكلي ضابطاً في جيش الشرق.
الشيشكلي ضابطاً في جيش الشرق.

الانشقاق عن جيش الشرق

ساند ثورة رشيد علي الكيلاني ضد الإنكليز في العراق سنة 1941 وقاد ثورة مماثلة ضد الفرنسيين في حماة. وعند قصف دمشق في 29 أيار 1945 انشقّ الشيشكلي عن جيش الشرق واحتلّ قلعة حماة، بالتعاون مع شقيقه صلاح الشيشكلي وصديقه أكرم الحوراني. كانت نيتهم الزحف نحو مدينة دمشق لتحريرها من الفرنسيين، ولكن تدخلاً من الجيش البريطاني منعهم من ذلك وأجبرهم على تسليم مواقعهم. والجدير بالذكر أن الشيشكلي في هذه المرحلة من حياته كان شديد التأثر بفكر الحزب السوري القومي الاجتماعي ومؤسسه أنطون سعادة، وقد انضمّ إلى هذا الحزب وظلّ يعمل في صفوفه حتى وصوله إلى رئاسة الجمهورية سنة 1953.

الشيشكلي في جيش الإنقاذ

ومع بدء انسحاب القوات الفرنسية عن سورية انتسب الشيشكلي إلى الجيش السوري الوليد يوم تأسيسه في 1 آب 1945، وشارك في الاستعراض العسكري الذي أقيم بدمشق يوم عيد الجلاء الأول في 17 نيسان 1946.

الشيشكلي في حرب فلسطين سنة 1948.
الشيشكلي في حرب فلسطين سنة 1948.

وفي 1 كانون الأول 1947 تطوع في جيش الإنقاذ مع فوزي القاوقجي لمحاربة العصابات الصهيونية في فلسطين وعُيّن قائداً لفوج اليرموك الثاني.  خدم في شرقي الجليل الأعلى، حيث حقق انتصارات ميدانية كبيرة أدت إلى منحه أرفع الأوسمة الحربية من قبل رئيس الجمهورية شكري القوتلي. كانت مرحلة حرب فلسطين حاسمة في مسيرة الشيشكلي العسكرية، فبعد المشاركة الطوعية في جيش الإنقاذ، عُيّن ضابطاً في القوات النظامية التي دخلت فلسطين بعد ساعات من إعلان ديفيد بن غوريون ولادة دولة إسرائيل يوم 14 أيار 1948.  وقد تعرف يومها على قائد الجيش حسني الزعيم وتوطدت صداقة متينة بينهما كما وجمعهما هدف مشترك بالتخلص من الطبقة السياسية الحاكمة في سورية، الممثلة بالرئيس شكري القوتلي، وتحميلها مسؤولية الهزائم المتتالية في فلسطين.

وكان الشيشكلي أحد الموقعين على معروض خاص من ضباط الجيش إلى رئيس الجمهورية، يشكون فيه من كثرة التهجم عليهم من بعض النواب. طالب الضبّاط، وفي مقدمتهم حسني الزعيم، بإحالة النواب إلى القضاء بتهمة إثارة الفتن والإساءة إلى المؤسسة العسكرية. وعندما لم يستجب القوتلي إلى مطالبهم، قرر حسني الزعيم ورفاقه التحرك والقيام بانقلاب عسكري.

تسليم أنطون سعادة

شارك المقدم أديب الشيشكلي في انقلاب الزعيم بقيادة فوج مشاة ومدرعات نحو مدينة دمشق، سُحب من الجبهة السورية – الإسرائيلية ليلة 29 آذار 1949. وبعد نجاح الانقلاب واعتقال القوتلي، فرض حسني الزعيم نفسه حاكماً عسكرياً على سورية ثم رئيساً للجمهورية في 26 تموز 1949. وقد بقي الشيشكلي وفيّاً له لغاية تسليم أنطون سعادة إلى السلطات اللبنانية، ليُعدم في 8 تموز 1949. وكان سعادة قد جاء إلى دمشق بواسطة من أديب الشيشكلي، وحصل على لجوء سياسي من حسني الزعيم، الذي وعد بألا يسلمه إلى لبنان مهما كانت الظروف والضغوطات. ووعد الشيشكلي بمساعدة سعادة على إطلاق ثورة عسكرية في لبنان، تُطيح برئيس الجمهورية اللبنانية بشارة الخوري ورئيس وزرائه رياض الصلح، ولكنّ خيانة الزعيم لسعادة أنهت كل هذه المخططات. غضب الشيشكلي كثيراً من حادثة تسليم سعادة، وعندما كثرت انتقاداته للزعيم قام الأخير بتسريحه من الجيش في 1 آب 1949.

مع الانقلاب الثاني: 14 آب 1949

انضم الشيشكلي إلى صفوف الضباط المعارضين، وفي 14 آب 1949 شارك في الانقلاب العسكري الذي أطاح بحسني الزعيم وأودى بحياته. في ليلة الانقلاب وبعد إعدام الزعيم، قام الشيشكلي بأخذ قميصه الملطخ بالدم وقدمه إلى جوليت المير، أرملة أنطون سعادة الموجودة يومها في دير سيدة صيدنايا، قائلاً لها: “إليك بالدليل على انتقامنا من الغادر، لقد غسلنا الدم بالدم.”

أديب الشيشكلي جالساً أمام اللواء سامي الحناوي بعد انقلاب 14 آب 1949.
أديب الشيشكلي جالساً أمام اللواء سامي الحناوي بعد انقلاب 14 آب 1949.

تولّى مهندس الانقلاب اللواء سامي الحناوي، رئاسة أركان الجيش وأعاد الشيشكلي إلى الخدمة العسكرية، مع تعيينه قائداً للواء الأول في بلدة قطنا القريبة من دمشق. من موقعه الجديد عارض الشيشكلي التقارب بين سورية والعراق ومحاولة توحيد البلدين تحت العرش الهاشمي التي وقف وراءها كل من سامي الحناوي ورئيس الدولة هاشم الأتاسي، بدعم من حزب الشعب المسيطر على السلطة التشريعية منذ سقوط حسني الزعيم. كان الشيشكلي ينظر إلى الأسرة الهاشمية الحاكمة في بغداد على أنها أداة في يد بريطانيا، ويرى أنها تريد نسف نظام سورية الجمهوري والإتيان بنظام حكم ملكي. وقد نُقل عنه مراراً قوله: “ستزول الجمهورية على جثتي.”

ومع اقتراب التوقيع على ميثاق الوحدة، قام الشيشكلي بتنفيذ انقلاب عسكري يوم 19 كانون الأول 1949 – هو الثالث بعد انقلاب الزعيم في آذار وانقلاب الحناوي في آب – وكان يهدف إلى حرمان هاشم الأتاسي وقادة حزب الشعب من الدعم العسكري الذي كان يوفره لهم سامي الحناوي.  أمر الشيشكلي باعتقال الحناوي وتسريحه من الجيش بتهم التآمر على نظام سورية الجمهوري. وقد جاء في البلاغ العسكري رقم واحد الذي أذيع باسم أديب الشيشكلي عبر إذاعة دمشق:

ثبت لدى الجيش أن رئيس الأركان العامة اللواء سامي الحناوي وعديله السيد أسعد طلس، وبعض ممتهني السياسة في البلاد، يتآمرون على سلامة الجيش وسلامة البلاد ونظامها الجمهوري مع بعض الجهات الأجنبية، وكان الجيش يعلم هذا الأمر منذ البداية وقد حاول ضباطه بشتى الطرق، بالامتناع تارة وبالتهديد تارة أخرى، أن يحولوا دون إتمام المؤامرة وأن يقنعوا المتآمرين بالرجوع عن غايتهم فلم يفلحوا، فاضطر الجيش حرصاً على سلامة البلاد وسلامته، وحفاظاً على النظام الجمهوري، أن يقصي هؤلاء المتآمرين، وليس للجيش أي غاية أخرى، وأنه يترك البلاد في يدي رجالها الشرعيين، ولا يتدخل إطلاقاً في القضايا السياسية، اللهم إلّا إذا كانت سلامة البلاد وكيانها يستدعيان ذلك.

أعلن الشيشكلي أن انقلابه لا يستهدف السلطة المدنية المنتخبة والممثلة برئيس الجمهورية، بل إنه مجرد “حركة جراحية” داخل الجيش، هدفها إجهاض مشروع الوحدة والتخلص من سامي الحناوي. جاء باللواء أنور بنود إلى رئاسة الأركان، واكتفى بأن يكون نائباً له، فيما بدى للوهلة الأولى تواضعاً من الشيشكلي.  ولكن اشترط على رئيس الجمهورية تعيين صديقه الوفي اللواء فوزي سلو في وزارة الدفاع، مع حق الاعتراض على أية عودة إلى مشروع الوحدة قد يحاول وزراء حزب الشعب طرحه داخل السلطة التشريعية. تفادياً لأي صدام مع المؤسسة العسكرية، قبِل هاشم الأتاسي بهذا الشرط وحاول التعايش مع أديب الشيشكلي ابتداء من شهر حزيران 1950، عند تسميته فوزي سلو وزيراً للدفاع في حكومة الدكتور ناظم القدسي.

العقيد أديب الشيشكلي مع اللواء فوزي سلو.
العقيد أديب الشيشكلي مع اللواء فوزي سلو.

اغتيال العقيد محمد ناصر

بعدها بأسابيع اغتيل العقيد محمد ناصر، قائد القوى الجوية، يوم 31 تموز 1950. كان العقيد ناصر عضواً في مجلس العقداء الذي اجتمع على الإطاحة بسامي الحناوي، وهو من ألمع ضباط الجيش وأكثرهم جرأة ونفوذاً.  وصل محمد ناصر إلى المستشفى العسكري حيّاً، وقبل مفارقة الحياة أدخل أصبعه في فمه، حيث كان الدم يسيل منه بغزارة، وكتب اسم شخصين، كليهما من أعوان الشيشكلي، وقال إنهما من أطلق عليه النار. أثارت هذه القصة عاصفة من الشائعات، ورأى مراقبون أن الشيشكلي أمر بتصفية محمد ناصر للحد من شعبيته في الجيش، لكونه أحد أهم منافسيه بين العسكريين، باعتبار أن الضابط المغدور كان قد رفض المشاركة في انقلاب الشيشكلي وجاهر في انتقاده له. ولكن المحكمة العسكرية التي شكلت لأجل جريمة مقتل محمد ناصر قررت تبرئة أعوان الشيشكلي، وهما عبد الغني قنوت وإبراهيم الحسيني، لعدم توفر أدلة كافية ضدهم.

محاولة اغتيال الشيشكلي

وفي 12 تشرين الأول 1950، تعرض الشيشكلي نفسه لمحاولة اغتيال، وقف خلفها تنظيم سري حمل اسم كتائب الفداء العربي، ضم مواطناً مصرياً مداناً بعملية اغتيال أمين عثمان، أحد وزراء الملك فاروق. وقد اشترك معه في محاولة اغتيال الشيشكلي كل من جهاد ضاحي وهاني الهندي، إضافة للدكتور جورج حبش. وتبين أنهم حاولوا أيضاً اغتيال مراسل جريدة التايمز في سورية، وزرعوا قنابل في مدارس يهودية وفي مقر المفوضية الأمريكية بدمشق. أحيلوا إلى المحاكمة وكان من المفترض إعدامهم جميعاً لولا تدخل مفاجئ من الشيشكلي، الذي زار المواطن المصري حسين توفيق في سجنه وتحدث معه مطولاً قبل أن يأمر بإطلاق سراحه والعفو عنه وعن رفاقه.

انقلاب الشيشكلي الثاي: 29 تشرين الثاني 1951

لم تؤثر حادثة اغتيال محمد ناصر على مسيرة الشيشكلي، وظلّ يحكم سورية من خلف ستارة فوزي سلو حتى 28 تشرين الثاني 1951، يوم تشكيل حكومة معروف الدواليبي التي رفضت الانصياع لشروط الشيشكلي وإسناد حقيبة الدفاع للواء سلو، كما فعل كل أسلافه من قبله.  طلب الشيشكلي إلى الدواليبي الاستقالة أو العدول عن موقفه، وعندما لم يستجب، أمر الشيشكلي باعتقاله يوم 29 تشرين الثاني، مع معظم الوزراء المحسوبين على حزب الشعب.

حاول رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي تدارك الموقف، وعندما لم تنجح مساعيه مع الشيشكلي، قدّم استقالته إلى مجلس النواب يوم 2 كانون الأول 1951. ولكنّ الشيشكلي كان قد أمر بحلّ المجلس، وفور تسلمه استقالة الأتاسي، أصدر قراراً بتسمية فوزي سلو رئيساً للدولة والحكومة. وعطّل الدستور وفرض الأحكام العرفية، قبل حلّ جميع الأحزاب في 6 نيسان 1952. وقد استثني من هذا القرار حزب الشيشكلي القديم، الحزب السوري القومي الاجتماعي.

السياسة الداخلية

كانت جمهورية الشيشكلي هي الأكثر صرامة وانضباطاً في عهد الاستقلال، وكان يقول دوماً إن الدول مثل الجيوش الحديثة، لا تُحكم إلّا بالانضباط والقوانين الصارمة. في عهده فُرض على العلماء والمشايخ والأئمة ارتداء اللباس الديني التقليدي، ومنعوا من الإفتاء وإلقاء الخطب إلا بعد مراجعة السلطات الأمنية وأخذ موافقة مسبقة. وضعت قوانين لمن يرغب دخول سورية بقصد السياحة أو العمل، أُلغيت سمة الدخول المجانية (الفيزا) التي كانت تُعطى للزائرين العرب في السابق. وقد جاء في قرارات الشيشكلي أن على أي زائر أن يُبرز شهادة مصرفية ودليل ملاءة مادية، وذلك لمنع الفقراء والمتسولين من دخول الأراضي السورية. ومنع الشيشكلي المؤسسات التعليمية الخاصة من تلقي المعونات المادية من الخارج، وطبّق هذا الأمر على المدارس الأجنبية كافة وعلى الجامعة السورية.

الرئيس الشيشكلي مع الرئيس محمد نجيب سنة 1952.
الرئيس الشيشكلي مع الرئيس محمد نجيب سنة 1952.

السياسة الإقليمية

اعترفت جميع الدول العربية بانقلاب الشيشكلي وجاء اعتراف مماثل من الولايات المتحدة وبريطانيا في 17 كانون الأول 1952. قاد أديب الشيشكلي عملية انفتاح على جميع دول الجوار إلّا العراق، وافتُتحت أول سفارة أردنية بدمشق بعد زيارة رسمية قام بها إلى عمّان للقاء الملك طلال في 19 آذار 1952. وقد جاء هذا التقارب بعد اغتيال الملك عبد الله الأول في القدس سنة 1951، الذي كان الشيشكلي يتهمه بالعمالة للغرب ويحملّه وزر هزيمة الجيوش العربية في فلسطين. وفي 8 نيسان 1952 زار الشيشكلي الرياض والتقى بالملك عبد العزيز آل سعود وبعدها توجه إلى القاهرة لتهنئة الضباط الأحرار على ثورتهم واجتمع مطولاً مع الرئيس محمد نجيب ووزير داخليته جمال عبد الناصر.

السياسة الاقتصادية

اقتصادياً اتبع الشيشكلي سياسة ليبرالية وفرض على مؤسسات الدولة السوري عدم التدخل في الحياة الصناعية والتجارية، قائلاً إن دورها يجب أن يقتصر على جباية الضرائب فقط. وصل عدد الشركات المساهمة في عهد الشيشكلي إلى سبع وثلاثين شركة، كان مجموع رأس مالها سبعين مليون ليرة سورية، جميعها مستقلة استقلالاً تاماً عن الدولة.

وقد ألغى الشيشكلي امتياز مصرف سورية ولبنان القائم منذ زمن الانتداب الفرنسي، والذي كان يُصدر النقد السوري ويُعدّ العميل الحكومي الوحيد بموجب امتياز أعطي له منذ سنة 1924. وقد أصدر الشيشكلي عبر الرئيس فوزي سلو مرسوماً بتأسيس مصرف سورية المركزي،  وفي أثناء تصفية أعمال مصرف سورية ولبنان شُكّلت مؤسسة حكومية لإصدار النقد، ونقلت إليها كل ودائع الخزينة السورية. وقد أنشأ الشيشكلي فريقاً اقتصادياً مؤلفاً من وزير الاقتصاد منير دياب وحاكم المصرف المركزي الدكتور عزت طرابلسي ونائبه الدكتور عوض بركات، فرضوا على جميع البنوك العاملة في سورية ضرورة تعريف عملياتها المصرفية وتحديد الحد الأدنى لرأس مالها واحتياطها النقدي، مع شروط الانتساب إلى مجالس إدارتها.

وأرسل مستشاريه إلى فرنسا وبلجيكا وسويسرا للاستفادة من التجربة المصرفية في تلك الدول وتعاقد مع نائب حاكم مصرف فرنسا المركزي ليكون مستشاراً لصرف سورية المركزي في مرحلة التأسيس. ولكنّ مصرف سورية المركزي لم ير النور إلّا بعد مغادرة الشيشكلي السلطة، وافتُتح في عهد الرئيس شكري القوتلي سنة 1956. وقد سرى ذلك أيضاً على معرض دمشق الدولي الذي وضعت أساساته في عهد الشيشكلي ولكنه لم ير النور إلا بعد سبعة أشهر من سقوطه.

أديب الشيشكلي خطيباَ في مهرجان تأسيس حركة التحرير العربي سنة 1952.
أديب الشيشكلي خطيباَ في مهرجان تأسيس حركة التحرير العربي سنة 1952.

حركة التحرير العربي

بعد حل جميع الأحزاب قام الشيشكلي بتأسيس تنظيم سياسي جديد يدين له بالولاء المطلق، عرف باسم حركة التحرير العربي . ولدت الحركة في مهرجان خطابي كبير وسط دمشق يوم 27 آب 1952، وكان تدشينها في ساحة باتت تُعرف من يومها باسم “ساحة التحرير،” نسبة لحركة التحرير العربي. خطب الشيشكلي أمام الجماهير المحتشدة في الساحة، معلناً برنامجه السياسي المؤلف من 31 نقطة، منها السعي لتوحيد البلاد العربية وتحريرها من الهيمنة الأجنبية، مع ضمان حقوق الأقليات والمرأة. طالب بإعادة توزيع أراضي الدولة على الفلاحين وإنشاء مدارس زراعية وصناعية، مع جعل التجنيد العسكري إجبارياً لكل مواطن بلغ الثامنة عشرة من عمره.

كانت حركة التحرير العربي عبارة عن خليط أيديولوجي بين القومية العربية ومبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي التي رافقت الشيشكلي منذ مرحلة الشباب. ومن أهم سماتها كان فتح الانتساب أمام النساء والسماح لهن بالعمل في السياسة والترشح لعضوية المجلس النيابي، عكس الأحزاب التقليدية التي كانت عضويتها محصورة بالذكور فقط. وفي 24 تشرين الأول 1952، افتُتح فرع حركة التحرير العربي في حلب، معقل حزب الشعب، ودخل الشيشكلي المدينة في استعراض جماهيري كبير مؤلف من ألف سيارة ومركبة. وفي خطابه، وصف حركته قائلاً:

كانت حركة التحرير العربي وليدة الانقلاب العسكري والضرورات الوطنية التي دعت إليه، فهي حركة انقلابية إصلاحية لا علاقة لها بأي حركة سابقة أو حزب قديم، ولكنها تفتح صدرها لجميع العناصر الطيبة دون تفريق أو تمييز. وهذا قلبي وهذه يدي، أمدهما للمواطنين الصادقين إذا أحبوا العمل لمصلحة سورية ومصلحة العروبة، وما على الرسول إلا البلاغ.

عُيّن الدكتور مأمون الكزبري أميناً عاماً للحركة واختار الشيشكلي لنفسه لقب “الرئيس المؤسس.”

الانتخابات النيابية

دعا أديب الشيشكلي إلى انتخابات نيابية سنة 1953، بعد تقليص عدد مقاعد البرلمان من 114 إلى 82 مقعداً. وكانت هذه الانتخابات هي الأولى في تاريخ سورية التي تُشارك فيها المرأة السورية، وذلك عبر المدرسة ثريا الحافظ، التي ترشحت عن مدينة دمشق ولكنها لم تنجح. أجريت الانتخابات في ظلّ مقاطعة شاملة من جميع الأحزاب التقليدية، وفازت حركة التحرير العربي بستين مقعداً، وحصل الحزب السوري القومي الاجتماعي على مقعد واحد نظراً لتحالفه مع الشيشكلي. وقد انتُخب مأمون الكزبري رئيساً لمجلس النواب.

الرئيس أديب الشيشكلي يلقي القسم الرئاسي في 11 تموز 1953.
الرئيس أديب الشيشكلي يلقي القسم الرئاسي في 11 تموز 1953.

الشيشكلي رئيساً للجمهورية

رشّح مجلس النوّاب الجديد الشيشكلي لرئاسة الجمهورية من دون أي منافس، وانتُخب رئيساً في 11 تموز 1953 بعد حصوله على 90% من أصوات الناخبين، الذين قدر عددهم بمليوني مواطن سوري. ومع بداية عهده المباشر، بدأ العمل بدستور جديد كان الشيشكلي قد وضعه وصدّق عليه رئيس الدولة فوزي سلو في 16 حزيران 1953. أبرز ما جاء في دستور الشيشكلي كان فيما يتعلق بصلاحيات رئيس الجمهورية وطريقة انتخابه، فأصبح الانتخاب مباشراً من الشعب لا من مجلس النواب كما جرت العادة منذ سنة 1932، وصار الوزراء مسؤولين أمامه فقط وليس أمام المجلس النيابي.

مؤتمر حمص

خلت حكومة الشيشكلي من جميع الأحزاب التقليدية التي أجمعت على مقاطعة العهد بقيادة هاشم الأتاسي. دعا الأتاسي إلى اجتماع كبير في داره بحمص في تموز 1953، حضره ممثلون عن الحزب الوطني وحزب الشعب وحزب البعث، تقرر فيه عدم الاعتراف بشرعية حكم الشيشكلي وبضرورة محاربته بكل الطرق القانونية. ومن مقره في جبل الدروز، أيد الزعيم سلطان باشا الأطرش مقررات مؤتمر حمص وأصدر بياناً وصف فيه الشيشكلي بالديكتاتور الذي يجب على السوريين إسقاطه. نظراً لتقدّمهما في السن ومكانتهما الرفيعة في المجتمع السوري، لم يستطع الشيشكلي من اعتقال هاشم الأتاسي وسلطان الأطرش، ولكنّه أمر باعتقال نجليهما عدنان الأتاسي (وهو من أعضاء حزب الشعبومنصور الأطرش (وهو من قادة حزب البعث).

وقد اشتد الخلاف بين الشيشكلي والبعثيين بعد أن كانوا من أشد مؤيديه في بداية العهد، فقرر اعتقال ميشيل عفلق وصلاح البيطار ومعهم أكرم الحوراني، ابن حماة وصديق طفولة الشيشكلي، الذي كان يرأس الحزب الاشتراكي العربي. وفي شهر كانون الثاني 1953 فرّ ثلاثتهم إلى لبنان، وشكّلوا تحالفاً سياسياً ضد الشيشكلي تمثل في دمج حزبيهم في حزب واحد أطلق عليه اسم حزب البعث العربي الاشتراكي.

سقوط الشيشكلي

كانت عبارة الشيشكلي الشهيرة: “إن أعدائي يشبهون الأفعى، رأسها في جبل الدروز (معقل سلطان الأطرش) ومعدتها في حمص (معقل هاشم الأتاسي)، أما ذيلها فهو في حلب (مقر حزب الشعب). إذا سحقت الذيل ماتت الأفعى.” وقد بدأ الشيشكلي بضرب خصومه في جبل الدروز بعد اكتشاف سلاح في القريا قادماً من العراق. وكان العراق قد وضع نفسه في مواجهة الشيشكلي إقليمياً وقام بإنشاء فصيل من المنشقين عن الجيش السوري، المعروفين بقوات سورية الحرّة.

وفي كانون الأول 1953، انطلقت مظاهرات كبيرة ضد حكم الشيشكلي من حلب، ردّ عليها الرئيس باعتقال عدد كبير من زعماءالمدينة، مثل رشدي الكيخيا وعبد الوهاب حومد. وقد شملت الاعتقالات فيضي الأتاسي في حمص والأمير حسن الأطرش في جبل الدروز  وصبري العسلي، أمين عام الحزب الوطني. وفي 25 شباط 1954 قام النقيب مصطفى حمدون باحتلال إذاعة حلب، (وهو من جماعة أكرم الحوراني) وطلب إلى الشيشكلي الاستقالة ومغادرة البلاد فوراً. اشترك معه في العصيان كل من العقيد فيصل الأتاسي (ضابط أركان اللواء الثاني) والعقيد أمين أبو عساف (قائد اللواء الثالث في دير الزور) والمقدم عبد الجواد رسلان (قائد حامية الساحل الغربي في اللاذقيةوالعقيد محمود شوكت (قائد المنطقة الوسطى) والعقيد عمر قباني (قائد حامية حوران).

دعا الرئيس الشيشكلي قادة أركانه إلى اجتماع عاجل في قصر الضيافة في شارع أبي رمانة، تقرر فيه تنحي الرئيس ومغادرته البلاد إلى السعودية، تجنباً لسفك مزيد من الدماء. وقد اتُخذ هذا القرار على الرغم من أن الشيشكلي كان ما يزال قادراً على سحق التمرد عن طريق الدبابات والمدافع الثقيلة التي بقيت تحت إمرته في قطنا والقابون، وعبر قوى الهجانة التي كانت بقيادة شقيقه صلاح الشيشكلي. قبل مغادرته دمشق أذاع الشيشكلي البيان التالي:

رغبة مني في تجنب سفك دماء الشعب الذي أحب، والجيش الذي ضحيت بكل غال من أجله، والأمة العربية التي حاولت خدمتها بإخلاص صادق، أتقدم باستقالتي من رئاسة الجمهورية إلى الشعب السوري الذي انتخبني والذي أولاني ثقته آملاً أن تخدم مبادرتي هذه قضية وطني، وأبتهل من الله أن يحفظه من كل سوء وأن يوحده ويزيده منعة وأن يسير به إلى قمة المجد.

توجه الشيشكلي إلى بيروت، ومن بعدها إلى السعودية. وعلى الفور تولّى رئاسة الجمهورية بالوكالة رئيس مجلس النواب  مأمون الكزبري من 26 شباط وحتى 1 آذار 1954. عاد بعدها هاشم الأتاسي لإكمال ما تبقى من ولايته الدستورية التي كانت قد قُطعت إثر انقلاب الشيشكلي الثاني سنة 1951. وقد عدّ الأتاسي أن مرحلة الشيشكلي لم تمر على سورية وفور دخوله القصر الجمهوري قام بإبطال دستور الشيشكلي وبرلمان الشيشكلي ومعظم القرارات التي صدرت في عهده وحملت توقيعه.

الشيشكلي في سنوات المنفى.
الشيشكلي في سنوات المنفى.

المؤامرة العراقية

بعد سنتين من خروجه من سورية وقع الاختيار على أديب الشيشكلي للقيام بانقلاب عسكري ضد شكري القوتلي الذي كان قد عاد إلى رئاسة الجمهورية سنة 1955. الانقلاب الجديد كان بتخطيط وتمويل من الوصي على عرش العراق الأمير عبد الإله، عدو الأمس بالنسبة للشيشكلي. تناسى  الأمير عبد الإله ما حدث بينه وبين الشيشكلي في الماضي وتواصل به عبر شقيقه صلاح للقيام بانقلاب يُطيح برجال الدولة السورية المحسوبين على مصر والرئيس جمال عبد الناصر، ومنهم القوتلي ورئيس مجلس النواب أكرم الحوراني وعبد الحميد السراج، مدير المكتب الثاني (شعبة المخابرات العسكرية).

اجتمع الشيشكلي بشقيقه بباريس مع عدد من الضباط العراقيين في شهر نيسان من العام 1956، ثم سافر إلى لبنان للقاء شخصيات سورية كانت من حلقته الضيقة في الماضي القريب، يمكنه الاعتماد عليها في تنفيذ الانقلاب الجديد. وقد وصل الشيشكلي إلى بيروت في تموز 1956 متخفياً واجتمع مع ضباطه السابقين قبل أن يعدل عن فكرة الانقلاب خوفاً من عواقبها على أفراد أسرته في حماة، في حال عدم نجاح الانقلاب. وبعد انسحاب الشيشكلي من المؤامرة العراقية قرر الأمير عبد الإله التعاون مع مجموعة من السياسيين للقيام بالانقلاب المطلوب، ولكنّ المؤامرة كُشفت من قبل المخابرات السورية واعتُقل جميع المشتركين بها من وزراء ونواب. مثلوا أمام القضاء العسكري في محكمة علنية أقيمت على مدرج الجامعة السورية، غاب عنها الشيشكلي وحكم عليه فيها بالإعدام بتهمة الخيانة العظمى.

الوفاة

عاش أديب الشيشكلي سنواته الأخيرة في البرازيل، في منزل قريب من جسر نهر داس واغتيل على يد المواطن السوري نواف غزالة في الساعة الثالثة من عصر يوم 27 أيلول 1964.  وقال غزالة إنه قتل الشيشكلي انتقاماً لأهله وشهداء الدروز الذين قتلوا في حملة الشيشكلي على جبل الدروز سنة 1953.

آخر صورة للشيشكلي في منفاه في البرازيل.
آخر صورة للشيشكلي في منفاه في البرازيل.

ذكرى الشيشكلي

صدرت في سنوات لاحقة مجموعة دراسات عن حياة أديب الشيشكلي، منها كتاب من أسرار الشيشكلي لنديم أبو إسماعيل، الذي قدم له الأمير حسن الأطرش سنة 1954. تلاه كتاب أديب الشيشكلي: البداية والنهاية للصحفي السوري هاني الخيّر سنة 1994، وكتاب أديب الشيشكلي: الحقيقة المغيبة لسعد فنصة وبسام البرازي سنة 2022. ومن أهم ما جاء في هذا الكتاب هو توجيه الاتهام لحمد عبيد، وزير الدفاع سنة 1964، بتصفية الشيشكلي انتقاماً لما حدث بينه وبين الدروز.

وقد قدّم الشيشكلي بقلمه كتاب من مذكرات حكومة حسني الزعيم للوزير والمحامي فتح الله صقال سنة 1951، واجتمع  بالصحفي البريطاني باتريك سيل في أثناء التحضير لكتابه الأول، الصراع على سورية، الذي صدر في لندن سنة 1965. وفي سنة 1997، ظهرت شخصية الشيشكلي على شاشة التلفزيون في الجزء الثاني من مسلسل حمام القيشاني، ولعب دوره الفنان أسامة الروماني.

المناصب

رئيس أركان الجيش والقوات المسلّحة (3 كانون الأول 1951 – 11 اموز 1953)
رئيس الحكومة السورية (11 تموز 1953 – 25 شباط 1954)
رئيساً للجمهورية السورية (11 تموز 1953 – 25 شباط 1954)

 

المصدر
1. هاني الخيّر. أديب الشيشكلي: البداية والنهاية (دمشق 1994)، 202. نفس المصدر، 223. نفس المصدر4. نذير فنصة. أيام حسني الزعيم: 137 يوم هزت سورية (دار الآفاق الجديدة، دمشق 1983)، 215. نفس المصدر، 57.6. هاني الخيّر. أديب الشيشكلي: البداية والنهاية (دمشق 1994)، 777. نفس المصدر، 898. باتريك سيل. الصراع على سورية (باللغة الإنكليزية – مطبعة جامعة أوكسفورد 1965)، 180-181 9. نفس المصدر، 12210. سامي مروان مبيّض. عبد الناصر والتأميم (دار رياض نجيب الريّس، بيروت 2019)، 4511. نفس المصدر، 107-10812. نفس المصدر13. نفس المصدر14. مطيع السمان. وطن وعسكر (مكتبة بيسان، بيروت 1995)، 40415. هاني الخيّر. أديب الشيشكلي: البداية والنهاية (دمشق 1994)، 10616. نفس المصدر، 114.17. نفس االمصدر، 10918. باتريك سيل. الصراع على سورية (باللغة الإنكليزية – مطبعة جامعة أوكسفورد 1965)، 132

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !