أحمد جمال باشا (6 أيار 1873 – 21 تموز 1922)، ضابط عثماني من جمعية الاتحاد والترقي، شارك في الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1908 وكان أحد أبرز القادة العسكريين في الدولة العثمانية في سنوات الحرب العالمية الأولى. تسلّم عدة مناصب حساسة في زمن السلطان محمد رشاد الخامس، فكان والياً على بغداد ثم وزيراً للبحرية وبعدها قائداً للجيش الرابع وحاكماً عسكرياً على سورية ولبنان وفلسطين خلال السنوات 1914-1917. لقّب بالسفّاح لدوره في مجازر الأرمن وبسبب قرارات الإعدام التي صدرت بحق مجموعة من النواب والمثقفين العرب، الذين أعدموا شنقاً بأمر مباشر منه في المدة ما بين 21 آب 1915 – 6 أيار 1916.
البداية
ولد جمال باشا في مدينة لسبوس اليونانية وكان والده صيدلانياً عسكرياً في الجيش العثماني. دَرَس في الكلية الحربية وعند تخرّجه فيها سنة 1893 التحق بالجيش الثاني. عُيّن في مدينة سالونيك اليونانية سنة 1896، حيث انتسب سراً إلى جمعية الاتحاد والترقي المعارضة لحكم السلطان عبد الحميد الثاني.
انقلاب عام 1908
ما بين 21-23 تموز 1908، شارك جمال باشا في الانقلاب العسكري الذي قادته جمعية الاتحاد والترقي ضد السلطان عبد الحميد في إسطنبول، والذي فرض سلسلة من التنازلات المؤلمة على السلطان، كان من ضمنها حرية الصحف واستعادة الدستور العثماني المعطل منذ عهد المشروطية الأول في سبعينيات القرن التاسع عشر، مع استعادة البرلمان العثماني المعروف بمجلس المبعوثان. بعد أربعة أشهر من تدشين مجلس المبعوثان، وقع انقلاب مضاد في إسطنبول، تزعمته مجموعة من الضباط المحافظين المؤيدين للسلطان عبد الحميد الثاني والمعترضين على الدستور وكل إصلاحات جمعية الاتحاد والترقي. تمكن جمال باشا ورفاقه من التغلّب عليهم وفي 27 نيسان 1909، عزلوا السلطان عبد الحميد عن العرش وأتوا بشقيقه السلطان محمد رشاد الخامس، الذي ظلّ واجهة صورية لضباط جمعية الاتحاد والترقي حتى وفاته عام 1918.
الباشوات الثلاثة
شكّل جمال باشا ثلاثي حكم مع زملائه في الاتحاد والترقي بات يُعرف بحكم الباشوات الثلاثة: أنور وطلعت وجمال. أصبح طلعت باشا صدراً أعظماً في إسطنبول سنة 1917 وعُيّن أنور باشا ناظراً للحربية (وزيراً) ورئيساً لأركان الجيش العثماني، أمّا جمال فقد انتُخب عضواً في اللجنة المركزية لجمعية الاتحاد والترقي وفي آب 1909 عُيّن والياً على مدينة أضنة جنوب تركيا. حافظ جمال الباشا على منصبه حتى منتصف شهر نيسان من العام 1911، عندما صدر قرار بنقله والياً على بغداد. انتقل بعدها إلى قونية قائداً لقوى الاحتياط وشارك في حرب البلقان قبل تعيينه ناظراً للأشغال العامة في إسطنبول نهاية عام 1913. وفي شباط 1914 نُقل إلى نظارة البحرية. ومع حلول نهاية العام 1914، صدر قرار جديد من أنور باشا بتعيينه قائداً للجيش العثماني الرابع في سورية وحاكماً عسكرياً على سورية ولبنان وفلسطين.
الحملة المصرية سنة 1915
كلفه السلطان محمد رشاد بقيادة حملة عسكرية برّية على قناة السويس لتحرير مصر من الاحتلال البريطاني القائم منذ سنة 1882. اتخذ جمال باشا من مدية دمشق مقراً لقيادته العسكرية وفيها خطّط وحشد لحملته المصرية التي بدأت في 2 شباط 1915. ظنّ جمال باشا أن أهالي مصر سيهبون لنصرة الجيش العثماني عند وصوله إلى ضفة القناة. ولكن ذلك لم يحدث وكانت نتيجة الحملة العسكرية مخيبة للآمال، على الرغم من بعض الانتصارات التي حققتها في البدايات. بعد عبورها صحراء سيناء، وصلت قواته إلى قناة السويس منهكة، جائعة، وعطشى، وتصدّت لها البوارج البريطانية الموجودة في القناة. وقد تحمّل جمال باشا مسؤولية فشل الحملة المصرية، بسبب سوء تقديراته العسكرية.
جمال باشا في سورية
حكم جمال باشا سورية بالحديد والنار، وكان مسؤولاً عن تصفية آلاف الأرمن في شمال البلاد، قبل بطشه بالقوميين العرب نظراً لمعارضتهم لسياسات جمعية الاتحاد والترقي. هذا مع أنه بدأ عهده بمحاولة كسب ود العرب والتقرب من قادتهم، مثل الدكتور عبد الرحمن الشهبندر الذي عُيّن طبيباً خاصاً له، والمحدّث الأكبر لبلاد الشّام الشيخ بدر الدين الحسني، الذي كان جمال باشا يحرص على زيارته بشكل دوري وتلبية كل حاجاته. وعندما قرر إصدار صحيفة يومية باللغة العربية، عهد برئاسة تحريرها إلى الشيخ تاج الدين الحسني، ابن الشيخ بدر الدين. صدر العدد الأول من صحيفة الشرق يوم 27 نيسان 1916، وكلّف بإدارة التحرير مع الشيخ تاج المفكر اللبناني الأمير شكيب أرسلان.
كان جمال باشا صديقاً لأعيان سورية الكبار، وفي مقدمتهم أمير الحج الشامي عبد الرحمن باشا اليوسف، رئيس فرع جمعية الاتحاد والترقي بدمشق، وناظر الأوقاف محمد فوزي باشا العظم، الذي كان يزوره في قصره الكائن في منطقة سوق ساروجا للعب الورق بشكل شبه يومي، وفيه تعرف على نجله خالد الذي أصبح رئيساً للحكومات السورية في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين.
الإعدامات
في منتصف العام 1915، شنّ جمال باشا سلسلة من الاعتقالات بين صفوف القادة العرب، المتهمين بالعمالة لصالح دول أجنبية. وفي 21 آب 1915، أمر الباشا بإعدامهم شنقاً في بيروت، وقد شملت التصفيات الأولية صحفيين مرموقين مثل محمد عليّ الأرمنازي (صاحب جريدة نهر العاصي)، ورئيس المنتدى الأدبي المحامي اللبناني عبد الكريم خليل، إضافة إلى الشيخ مسلّم عابدين وعبد القادر الخرسا من دمشق.
بعدها بأشهر معدودة، أطلق جمال باشا حملة جديدة ضد من وصفهم بالخونة، ومنهم عدد من النواب في مجلس المبعوثان، مثل شكري العسلي ورشدي الشمعة وشفيق مؤيد العظم. سيقوا مخفورين للمثول أمام ديوان حربي أقامه جمال الباشا في مدينة عاليه اللبنانية، حيث حكم عليهم جميعاً بالإعدام “شنقاً حتى الموت،” بعد الحصول على موافقة شرعية من مفتي الشّام الشيخ محمد أبو الخير عابدين، المحسوب على جمال باشا. نُفّذ حكم الإعدام في ساحة المرجة بدمشق وساحة البرج ببيروت صباح يوم 6 أيار 1916، وقد شمل كلّاً من الشمعة ومؤيد العظم والعسلي، إضافة للشاعر رفيق سلّوم، نائب رئيس المنتدى الأدبي، والمحامي عبد الوهاب الإنكليزي، والأمير عمر الجزائري نجل الأمير عبد القادر الجزائري، والشيخ عبد الحميد الزهراوي، رئيس المؤتمر العربي الأول الذي عُقد في باريس سنة 1913. ومن يومها أطلق السوريون على جمال باشا لقب السفّاح في كل أدبيّاتهم، وسمّيت ساحة البرج ببيروت بساحة الشهداء.
هذا وقد طالت اعتقالات جمال باشا في سورية عدداً من قادة المعية العربية الفتاة المعارضة، كان في مقدمتهم الدكتور أحمد قدري وشكري باشا الأيوبي وشكري القوتلي، رئيس فرع دمشق للعربية الفتاة. هؤلاء نجوا من الإعدام ولكنهم قضوا سنوات الحرب العالمية الأولى بين السجون والمعتقلات.
لم يكتفِ جمال باشا بهذا الحد، بل أمر أيضاً بنفي قرابة ثلاثمئة عائلة سورية، من رجال ونساء وأطفال، لا علاقة لهم بحادثة القنصلية الفرنسية. تهمتهم الوحيدة كانت الجاه والنفوذ الذي كانوا يتمتعون به في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، مثل آل العابد. صادر جمال باشا أملاكهم وأراضيهم الزراعية وحاول الإتيان بمواطنين أتراك بدلاً عنهم، بهدف تغير الواقع الديمغرافي في سورية.
الثورة العربية الكبرى
بعد أشهر على الإعدامات التي هزت أركان المجتمع السوري وخلقت جوّاً من الإرهاب والرعب، انطلقت الثورة العربية الكبرى في حزيران 1916، بقيادة أمير مكة الشريف حسين بن علي، المدعوم عسكرياً وسياسياً من قبل بريطانيا. كان جمال باشا قد التقى بنجله الأمير فيصل في زيارته دمشق يوم 26 آذار 1915، حيث أظهر له الأخير ولاءً مطلقاً وتظاهر أمامه بنية تشكيل قوات عسكرية عربية خاصة لدعم الجيش العثماني في معاركه. بناء على هذه الوعود الزائفة سمح جمال باشا للأمير فيصل بمغادرة دمشق والتوجه إلى إسطنبول، قبل أن يكتشف أنه تعرض لخدعة كبيرة من قبل الشريف حسين.
أضعفت الثورة العربية مركز الجيش الرابع في سورية وزعزعت وضعه العسكري. ازدادت الأحوال سوءاً بعد قيام الجيش البريطاني بقيادة الجنرال إدموند اللنبي بالهجوم على فلسطين في مطلع عام 1917. حين استُدعي جمال باشا إلى إسطنبول للتشاور حول أوضاع سورية في نهاية كانون الأول 1917 كانت قواته في الجبهة الشاميّة قد تقهقرت أمام القوات البريطانية المدعومة من الثائرين العرب. صدر قرار بعدم عودته إلى سورية واستبدل به الضابط جمال باشا المرسيني، الملقّب بجمال الصغير، الذي وصل دمشق في تشرين الثاني 1917 وبقي فيها لغاية سقوط الحكم العثماني في سورية نهاية شهر أيلول من العام 1918.
سنوات المنفى
في 2 تشرين الثاني 1918، سقطت حكومة صديقه الصدر الأعظم طلعت باشا وهرب الباشوات الثلاثة إلى برلين، بمساعدة القوات الألمانية الحليفة. لجأ بعدها جمال باشا إلى سويسرا بعد صدور قرار غيابي بالإعدام بحقه في إسطنبول، بتهمة اضطهاد الرعايا العرب والأرمن في مدة حكمه في سورية.
وفي سنة 1920، سافر جمال باشا إلى أفغانستان بدعوة من ملكها أمان الله خان، حيث تعاقد معه لتدريب الجيش الأفغاني وتطويره. توجه إلى موسكو في أيلول 1921 للتعرف على قادة الاتحاد السوفيتي الجدد، في محاولة للحصول على دعم عسكري منهم للعودة إلى بلاده وتقريب وجهات النظر بينهم وبين مصطفى كمال أتاتورك.
الاغتيال
كلفته الحكومة الأفغانية بالسفر إلى مدينة تبليسي الجورجية لإجراء مفاوضات جديدة مع قادة السوفيات، وفيها اغتيل على يد الثوار الأرمن يوم 21 تموز 1922. رصده كركين لالايان وسيرجيو فارتايان، اللذان أطلقا النار عليه ثأراً للأرمن الذين ذبحوا بأمره وتحت إشرافه في السنوات 1915-1916.
إرث جمال باشا في سورية
في مدة حكمه لسورية، أطلق جمال باشا اسمه على شارع رئيسي في مدينة دمشق، بالقرب من سوق الحميدية. ولكن التسمية ألغيت بعد سقوط الحكم العثماني بأمر من الملك فيصل الأول وصار الشارع يعرف من يومها باسم شارع النصر. كما أن الدولة السورية المستقلة عدّت أن يوم إعدامات جمال باشا في السادس من أيار، هو عيد وطني لكل الشهداء، وهو المعترف به عيداً وطنياً في كل من سورية ولبنان. هذا وقد بقيت عائلة جمال باشا وكل ذريته ممنوعين من دخول سورية حتى رفع المنع في فترة التقارب السوري – التركي بعد سنة 2003، عندما زار حفيده الصحفي حسن جمال دمشق ضمن وفد مرافق لرئيس الحكومة التركية رجب طيّب أردوغان.
جمال باشا في المسرح والتلفزيون
بعد سنتين على خروج جمال باشا من دمشق وإثر قيام الحكم العربي في سورية، ظهرت شخصيته في مسرحية “جمال باشا السفّاح” التي عُرضت في صالة زهرة دمشق في ساحة المرجة، على مقربة من مكان إعدامات عام 1916، وكانت من بطولة الفنان الفلسطيني عبد الوهاب أبو سعود، الذي قام بدور جمال باشا. وفي سنة 1988، عُرض مسلسل أخوة التراب على شاشة التلفزيون السوري، الذي تدور أحداثه في زمن الحرب العالمية الأولى، وظهر فيه الممثل السوري فائز أبو دان بشخصية جمال باشا. وجسّد الفنان عابد فهد شخصيته في مسلسل سنوات الحب والرحيل سنة 2022.