معروف الدواليبي
رئيس مجلس نواب (حزيران - تشرين الأول 1951 وسنة 1962)، رئيس حكومة (1951 و 1961-1962).

معروف الدواليبي (29 آذار 1909 – 15 كانون الثاني 2004)، سياسي سوري ورجل دولة من حلب، شكّل حكومتان في تاريخ سورية الحديث، كانت الأولى في عهد الرئيس هاشم الأتاسي سنة 1951 والثانية في عهد الرئيس ناظم القدسي سنة 1961.
انتُخب رئيساً للبرلمان السوري من حزيران حتى تشرين الأول 1951، وتولّى حقيبة الاقتصاد الوطني ثم وزارة الدفاع في مرحلة ما قبل الوحدة السورية المصرية. هو أحد القادة التاريخيين لحزب الشعب وكان من مُشرعي دستور سنة 1950. وقد شارك في تأسيس كلية الشريعة في جامعة دمشق وعَمِل ضمن هيئتها التدريسيّة، كما كان وبعد خروجه من سورية سنة 1963 مُستَشاراً لملوك السعودية حتى وفاته عام 2004.
البداية
ولِدَ معروف الدواليبي في مدينة حلب وهو سليل أسرة يعود نسبها إلى الصحابي فيروز الديلمي الذي ولّي على صنعاء في عهد معاوية بن أبي سفيان.(1) دَرَس العلوم الشرعية في مدرسة مسجد الإسماعيلية بجوار بلدية حلب، التي سُمّيت فيما بعد بالمدرسة الخسروية، ثم التحق بكلية الحقوق في جامعة دمشق ونال شهادتها سنة 1940.
مع الكتلة الوطنية
انتَسَب الدواليبي في شبابه إلى الكتلة الوطنية وانتُدب من قبلها للإشراف على الاستفتاء التي أقامته عصبة الأمم في لواء إسكندرون، وكانت نتيجته سلخ المنقطة عن سورية وضمّها إلى تركيا.(2) كان ذلك خلال عهد الكتلة الوطنية الأول في الحكم، وخلال رئاسة هاشم الأتاسي. توجّه بعدها الدواليبي إلى فرنسا لدراسة الحقوق الرومانية في جامعة باريس، حيث انتُخب رئيساً لرابطة الطلاب العرب.
الزواج
اِقتَرَنَ معروف الدواليبي من فتاة فرنسية من عائلة محافظة كان يُقيم عندها خلال فترة دراسته الجامعية. كانت هذه الفتاة تدرُس في لندن وكان أفراد أُسرَتهَا يعملون رُهباناً في الكنائس، ومع ذلك لم تُمانع اعتناق الإسلام ديناً وقد شاركت زوجها في مراحل نضاله المُختلفة ضد الفرنسيين والبريطانيين.(3) وكانت أولى مساهماتها السفر مع الدواليبي إلى ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية، للعمل معه ومع الرايخ الثالث، المُعادي لليهود وللصهيونية.
العمل مع هتلر
قرار سفر الدواليبي إلى ألمانيا جاء بعد توجّه مُفتي القدس الحاج أمين الحُسيني إلى برلين، طالباً العون المادي والعسكري من الزعيم النازي أدولف هتلر. جمعتهم مع هتلر مصالح مشتركة ضد الإنكليز والصهاينة وقد وعد هتلر بإلغاء وعد بلفور وتحرير البلاد العربية من الاستعمار الفرنسي والبريطاني، مُقابل الحصول على دعم من العالم الإسلامي. وكان هذا الأمر يروق جداً لمعروف الدواليبي ورفاقه المُتطرفين في كرهِهم للصهيونية، وقد أحبّوا أمين الحُسيني ووثقوا به منذ أن كان قائداً لثورة مُسلّحة ضد البريطانيين في بلاده سنة 1936.
في برلين، وضع الدواليبي نفسه تحت تصرف المُفتي وعمل معه على الترويج للقضية العربية داخل المجتمع الألماني. ولكنه وعند سقوط العاصمة الألمانية واحتلالها عسكريّاً سنة 1945 هرب الدواليبي إلى مدينة الفاشتاين في جبال اليرون النمساوية، حيث كان من المُقرر أن يتم نقل مكتب هتلر ومكتب السفير الياباني.(4) ولكن هتلر لم يتمكّن من مُغادرة برلين وانتَحَرَ في إحدى أقبيتها العسكرية يوم 30 نيسان 1945.
قبل وفاته، كان هتلر قد أوصى القيادة النازية بنقل معروف الدواليبي ورفاقه إلى السعودية، لكي لا يقعوا أسرى في أيدي الجيوش الأمريكية والبريطانية والفرنسية. وقد وعدت القيادة الألمانية بتنفيذ أوامر الفوهرر، غير أن المطارات قصفت كلها. قرر الألمان عندئذ نقل أمين الحُسيني في طائرة خاصة تُقلع من أعالي الجبال، ولكن الحكومة السويسرية قامت باعتراضها وألقت القبض عليه وسلّمته إلى الفرنسيين. ثم أُلْقِي القبض على أنصاره وجُمِعوا بمكان واحد داخل الأراضي الألمانية، بانتظار نقلهم إلى السجون الأمريكية.
تمكن الدواليبي من الفرار وقال لأحد الحرّاس إنه من رعايا المُستعمرات الفرنسية وتحجج بأن زوجته مواطنة فرنسية. وقد افتعل قصة كاذبة للخروج من المُعتقل، بأن قوات فرنسا الفيشية الموالية لهتلر قد اعتقلته خلال الحرب، مدعياً أنه كان مناهضاً للفاشية والنازية، فسُمح له بالخروج من ألمانيا والعودة إلى فرنسا وبعد كتابة العبارة التالية على أوراقه الثبوتية: “يُتابع سفره إلى دمشق، لأنه تحت الحماية وعذرُه أنه اعتُقل.”(5)
العودة إلى باريس
بعد وصوله باريس مع زوجته عَلِم الدواليبي أنه مطلوب من قبل المباحث الفرنسية، فلجأ إلى منزل ناجية ذي الفقار، عمّة الملك فاروق المُقيمة في فرنسا والتي كانت تتمتع بحصانة دبلوماسية.(6) وكان الدواليبي قد هرّب معه من ألمانيا سائق الحاج أمين، وهو مواطن سوري يُدعى خالد رمضان، الذي طلب منه تسليم نفسه إلى السلطات الفرنسية ليتم نقله إلى مكان احتجاز المُفتي. تجاوب السائق من هذا الطلب وأرسل رسالة سريّة إلى معروف الدواليبي عن مكان اعتقال أمين الحُسيني، في فيلّا داخل قرية صغيرة على نهر اللوار جنوب باريس. (7)
تهريب مفتي القدس في فرنسا
قرر الدواليبي تهريب المُفتي من معتقله وحصل على مبلغ 100 ألف فرنك فرنسي من السفير السوري في باريس عدنان الأتاسي، خُصّصت لهذه العملية.(8) ولكنه لم يتمكن من فعل ذلك بسبب الحراسة المُشددة على أمين الحُسيني، فانتظر الدواليبي قليلاً حتى تغيّر الأوضاع الدولية ونشوب خلاف بين بريطانيا وفرنسا، بسبب دعم رئيس الحكومة ونستون تشرشل لقضية استقلال سورية ودعوة وفد من دمشق إلى الولايات المتحدة للمشاركة في تأسيس الأمم المتحدة في أيار 1945.
انزعج شارل ديغول من التدخل البريطاني في شؤون سورية ومن دعوتها إلى الأمم المتحدة، كما غضب من إبعاده عن اجتماع عقد في مصر بين تشرشل والرئيس شكري القوتلي. لعِب الدواليبي على هذا الخلاف وأقنع الفرنسيين بضرورة الإفراج عن أمين الحُسيني للضغط على البريطانيين والنيل من سياساتهم في الشرق الأوسط.
وبالفعل، قررت فرنسا إطلاق سراح المُفتي ونقله إلى منزل جديد لا يعرف مكانه إلا قائد الشرطة العسكرية الفرنسية. من هنا بدأت المرحلة الثانية من تهريب المُفتي، بتخطيط وتنفيذ من الدواليبي. زاره في مكان إقامته الجبرية وطلب منه حلق لحيته وخلع عمامته وارتداء بزة وقبعة إفرنجية، ثم أخذ له صورة بحلّاسه الجديد ووضعها على جواز سفر سوري مزوّر باسم “معروف الدواليبي.”(9) ثم قام الدواليبي بحجز تذكرة وأرسله إلى مصر، على أساس أنه المواطن السوري معروف الدواليبي وليس مُفتي القدس أمين الحُسيني، المطلوب والملاحق دولياً.
وصل المُفتي إلى مصر وتم اعتقال الدواليبي فوراً بجريمة تهريب “مجرم حرب” من فرنسا. ولكن السلطات الفرنسية أفرجت عنه بعد حين، لأنها لم تكن مُنزعجة كثيراً من تخلّصها من أمين الحُسيني، لما في ذلك من إحراج وتحدّي لبريطانيا العظمى، فعاد معروف الدواليبي إلى سورية في 14 تموز 1946. وكان الجنرال ديغول قد أوصى السفينة الفرنسية التي نقلته إلى مصر ومن ثمّ إلى سورية، بأن لا تُعطي اسمه لأي جهاز أمني، لكي يصل موطنه سالماً.(10)
في جامعة دمشق
بعد أشهر من عودته إلى سورية، عُيّن الدكتور الدواليبي أستاذاً لمادة الحقوق الرومانية في جامعة دمشق، ثمّ عضواً في اللجنة المُكلّفة بإنشاء كلية الشريعة التي كان يتقدمها الشّيخ مصطفى السباعي، زعيم حركة الإخوان المسلمين في سورية. وعند افتتاحها في منتصف الخمسينيات، صار يُدرس فيها مادتي أصول الفقه الإسلامي والحديث الشريف.(11) وكان الدواليبي وعند وصوله دمشق قد طُرح عليه منصب سفير سورية في السعودية سنة 1946 ولكنه رفض وفضّل العمل في مهنة التدريس.(12)

مع حزب الشعب
دخل معروف الدواليبي عالم السياسة عبر الانتخابات التي أجريت سنة 1947، عندما ترشّح لعضوية مجلس النواب بصفة مُستقل بعد أن كانت الكتلة الوطنية قد حلّت نفسها منذ تحقق الجلاء قبل أشهر.
وفي سنة 1948 شارك في تأسيس حزب الشعب، وهو أول حزب سياسي مُعارض في مرحلة الاستقلال، ولِد من رحم تلك الانتخابات النيابية وكان يطمح لإسقاط حكم الرئيس شكري القوتلي وتعزيز موقع مدينة حلب الاقتصادي والسياسي عبر إقامة وحدة مع العراق.
وقد وعد حزب الشعب بتعزيز موقع المدن السورية الكبرى، مثل حلب وحمص وحماة، للوقوف في وجه هيمنة الدمشقيين على المشهد السياسية السوري منذ انتخاب شكري القوتلي سنة 1943. اعترض الدواليبي على تعديل الدستور للسماح لشكري القوتلي بولاية رئاسية ثانية ولكنه رفض تأييد الانقلاب العسكري الذي أطاح به وبحكمه يوم 29 آذار 1949، معتبراً أنه يتنافى مع روح الديمقراطية.
وقد اجتمع الدكتور الدواليبي حسني الزعيم، مهندس الانقلاب الأول، الذي عرض عليه التعاون مع العهد الجديد، ولكنه رفض قائلاً إن قلّة الثقة بعهد القوتلي لا تعني القبول بنظام عسكري، مُسجلاً اعتراضه على نزول الدبابات إلى الشوارع واعتقال رئيس الجمهورية.(13)
دستور عام 1950
وبعد سقوط حسني الزعيم ومقتله في منتصف شهر آب من العام 1949، عُقد اجتماع في مبنى الأركان العامة بدمشق، دعا له اللواء سامي الحناوي، مهندس الانقلاب الجديد المحسوب على العراق والمقرب من قادة حزب الشعب، وحضره معظم السياسيين القدامى وكان من بينهم معروف الدواليبي.(14)
قال اللواء لحناوي أنه لا يرغب بتسلّم الحكم وسيكتفي برئاسة الأركان ويُعيد الجيش إلى ثكناته. وفي هذا الاجتماع تقرر عودة هاشم الأتاسي إلى الحكم للإشراف على انتخاب مؤتمر تأسيسي تكون مهمته وضع دستور جديد للبلاد بدلاً من الدستور القديم الذي قام حسني الزعيم بحلّه قبل أشهر. خاض معروف الدواليبي تلك الانتخابات وفاز بعضوية اللجنة التي قامت بصياغة دستور عام 1950. وقد ذهبت غالبة مقاعد المؤتمر التأسيسي إلى أعضاء حزب الشعب.
الدواليبي وزيراً للاقتصاد
وفي 27 كانون الأول 1949، سُمّي معروف الدواليبي وزيراً للاقتصاد في حكومة الرئيس خالد العظم، إضافة لمهامه في اللجنة الدستورية. وقد توجّه إلى القاهرة وحصل على قرض من الحكومة المصرية بقيمة ستة ملايين دولار أمريكي للنهوض بالاقتصاد السوري، وبعدها سافر إلى الرياض لإبرام معاهدة الصداقة والتجارة مع السعودية في كانون الثاني 1950.(15)
وقد أثار الوزير معروف الدواليبي اهتمام الصحف العالمية عندما صرّح من تحت قبة المجلس النيابي أنه مستعد للتحالف مع الاتحاد السوفيتي للوقوف في وجه الصهيونية العالمية. وقد جاء في تصريحه: “إن استمر الضغط الأمريكي على العرب، لجعلهم يسيرون بالاتجاه السوفيتي، وأنا أقترح إجراء استفتاء في العالم العربي ليعرف الملأ ما إذ كان العرب يفضلون ألف مرة أن يصبحوا جمهورية سوفيتية على أن يكونوا طعمة لليهود.”(16) أدى هذا التصريح إلى تصنيف معروف الدواليبي بأنه “عدو للولايات المتحدة الأمريكي” وتم التعامل معه على هذا الأساس من قبل إدارة الرئيس هاري ترومان.
حكومة الدواليبي الأولى (28-29 تشرين الثاني 1951)
ساد جو من التوتر الرهيب بين معروف الدواليبي والعقيد أديب الشيشكلي، المعارض لحزب الشعب ولمشروع الوحدة مع العراق. وقد نفّذ الشيشكلي انقلابه الأول في نهاية العام 1949 للتخلص من اللواء سامي الحناوي وحرمان حزب الشعب من الدعم العسكري الذي كانوا يتمتعون به لتحقيق وحدتهم مع العراق. لم يقترب الشيشكلي من رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي، ولكنه وضع شرطاً على جميع الحكومات المتعاقبة في عهده، أن تذهب حقيبة الدفاع إلى عسكري يُُدعى فوزي سلو، وذلك لإجهاض مشروع الوحدة وضمان عدم طرح هذا الموضوع مجدداً داخل السلطة التنفيذية.
وقد قبل بهذا الشرط جميع رؤساء الحكومات من كانون الأول 1949 وحتى تكليف معروف الدواليبي بتشكيل وزارة جديدة في 28 تشرين الأول 1951. رفض الانصياع إلى مطلب أديب الشيشكلي، وأبقى على حقيبة الدفاع لنفسه، متجاهلاُ كل التهديدات التي وصلته من ضباط الجيش.(17) أمّا بقية المناصب فقد ذهبت الحقائب السيادية إلى قادة حزب الشعب، وجاءت حكومة الرئيس الدواليبي على الشكل التالي:
أحمد قنبر (حزب الشعب): وزيراً للداخلية
شاكر العاص (حزب الشعب): وزيراً للخارجية
على بوظو (حزب الشعب): وزيراً للاقتصاد
الدكتور منير العجلاني (مستقل): وزيراً للمعارف
جورج شاهين (مستقل): وزيراً للأشغال العامة والمواصلات
محمد الشوّاف (مستقل): وزيراً للصحة
عبد الرحمن العظم (مستقل): وزيراً للمالية
محمد مبارك (حركة الإخوان مسلمين): وزيراً للزراعة
غضب الشيشكلي من هذا التطاول وهدد الدواليبي برد السريع. وعندما لم يستجب الأخير، نفذّ الشيشكلي انقلابه الثاني صباح يوم في 29 تشرين الثاني 1949 وقام باعتقال الرئيس الدواليبي مع جميع أعضاء حكومته، في ضربة كبيرة لحزب الشعب وجميع الداعمين لمشروع الوحدة مع العراق.
في عهد الشيشكلي
وكان الدواليبي وقبل اعتقاله قد نال ثقة مجلس النواب عند تلاوة بيان حكومته التي وعد بأن تحافظ على نظام سورية الجمهوري وتُراعي توازنات الحرب الباردة. كما قال أنه لن يدخل في مواجهة لا مع الولايات المتحدة أو مع الاتحاد السوفيتي، رافعاً شعار: “المزيد من الأصدقاء لسورية.”(18) مع ذلك وصفته الصحف الأمريكية بأنه أحد أشرس أعداء الولايات المتحدة في العالم العربي، وأكثرهم هجوماً على الغرب بسبب مواقفه السابقة المؤيدة للنازية أولاً ثم لاتحاد السوفيتي.(19)
سيق معروف الدواليبي إلى سجن المزة بأمر من أديب الشيشكلي، وفي 2 كانون الأول 1951، استقال الرئيس هاشم الأتاسي من منصبه احتجاجاً على الانقلاب الجديد. في نفس اليوم، قام الشيشكلي بتعيين فوزي سلو رئيساً للدولة، وفرض أحكاماً عرفية وحكماً عسكرياً على سورية دام حتى 25 شباط 1954. واحداً تلو الأخر، استقال وزراء الدواليبي من مناصبهم وخرجوا من السجن، إلّا رئيس الحكومة الذي أصرّ على موقفه وبقي في المعتقل حتى كانون الثاني 1952.(20) تم إخراجه من السجن لفترة قصيرة، ليُعاد سجنه في 29 حزيران 1953 بسبب شدة انتقاداته لأديب الشيشكلي.
بعد خروجه من المُعتقل، توجه الدواليبي إلى مدينة حمص لحضور اجتماع في منزل الرئيس المُستقيل هاشم الأتاسي، تقرر فيه عدم الاعتراف بشرعية حكم الشيشكلي ورفض الدستور الذي كان قد فرضه على البلاد. وعند تولّى الشيشكلي رئاسة الجمهورية رمسياً في 11 تموز 1953، ضاعف معروف الدواليبي من معارضته للحكم وهرب العراق ومن ثمّ في لبنان، تفادياً للاعتقال. ومن منفاه الجديد، راقب الثورة العسكرية التي انطلقت ضد أديب الشيشكلي من جبل الدروز وحمص، والتي نجحت بإسقاطه في 25 شباط 1954.
عند سماعه نبأ استقالة الشيشكلي وهروبه إلى السعودية عبر لبنان، عاد الدواليبي إلى سورية وتوجه مجدداً إلى حمص لمرافقة هاشم الأتاسي في عودته إلى دمشق يوم 1 آذار 1954. وقد تقرر أن يعود الأتاسي إلى رئاسة الجمهورية لإكمال ما تبقى من ولايته الدستورية التي قُطعت بسبب انقلاب الشيشكلي.

الدواليبي وزيراً للدفاع
اعتبرت الطبقة السياسية الحاكمة يومها أن عهد الشيشكلي لم يمر على سورية وحاولت إعادة عقارب الساعة إلى عشيّة وقوع الانقلاب في 29 تشرين الثاني 1951، عندما كان معروف الدواليبي رئيساً للحكومة.
وبذلك، قدم الدواليبي استقالة حكومته حسب الأصول الدستورية، ووافق عليها الرئيس الأتاسي، قبل أن يُعيين صبري العسلي خلفاً له في السراي الكبير. وفي هذه الحكومة سُمّي الدكتور الدواليبي وزيراً للدفاع من 1 آذار ولغاية 29 حزيران 1954.
الوحدة السورية المصرية
كانت علاقة معروف الدواليبي جيدة بالرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي وصل إلى الحكم في بلاده سنة 1952 بعد قيامه بثورة عسكرية على الملك فاروق الأول. وقد اجتمع معه الدواليبي في القاهرة عندما زار مصر على رأس وفد نيابي وأيّد قرار تأميم قناة السويس سنة 1956، كما وقف مع عبد الناصر في حربه ضد بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، فيما عُرف بالعدوان الثلاثي. ولكنه عارض عبد الناصر في حربه مع الإخوان المسلمين وفي الدولة البوليسية التي أوجدها في مصر. مع ذلك، بارك معروف الدواليبي قيام الوحدة السورية المصرية وصوت لصالحها من داخل مجلس النواب سنة 1958، أملاً أن يستطيع الرئيس المصري وضع حد لتجاوزات العسكر وطموحاتهم في سورية.
وبذلك، لم يُعارض قرار الرئيس عبد الناصر حلّ جميع الأحزاب في سورية، وعلى رأسها حزب الشعب، معتبراً أن جميع التضحيات تهون من أجل الوحدة العربية. وقد تعرض الحزب في زمن الوحدة إلى ضربة قاسية عند الإطاحة بالحكم الملكي في العراق يوم 14 تموز 1958، التي طالما حلم الدواليبي ورفاقه بتحقيق وحدة معهم منذ نهاية الأربعينيات. وقد تسلّم الحكم في بغداد مجموعة من الضباط المحسوبين على الرئيس جمال عبد الناصر، الناقمين على كل مخلفات العهد الملكي وحلفائه في الوطن العربي.
حكومة الدواليبي الثانية (22 كانون الأول 1961 – 19 حزيران 1962)
كان معروف الدواليبي متواجداً في القاهرة يوم انقلاب الانفصال على جمهورية الوحدة في 28 أيلول 1961، فعاد مُسرعاً إلى دمشق ليضع نفسه تحت تصرف العهد الجديد.(21) ترشّح الدواليبي في الانتخابات النيابية التي جرت في مطلع عهد الانفصال وفاز بغالبية أصوات مدينة حلب، مما جعله مُرشحاً طبيعياً لتولّي رئاسة الحكومة من جديد.(22) وقد جاء تكليفه بهذا المنصب بطلب من غالبية أعضاء المجلس، وبمساندة رئيس رابطة العُلماء الشّيخ مكي الكتاني والدكتور ناظم القدسي، زميله في حزب الشعب الذي كان قد انتُخب رئيساً للجمهورية في 14 كانون الأول 1961.(23)
في بداية الأمر رفض الدواليبي قبول التكليف برئاسة الحكومة، وقال للرئيس القدسي أنه لا يجوز أن تكون رئاسة الجمهورية والحكومة في أيد شخصيات حلبية، معتبراً أن أهالي دمشق لن يقبلوا بذلك.(24) وفي مُذكّراته، يقول الدواليبي: “أذاع ناظم القدسي بياناً بتكليفي دون عِلمي، واستدعاني فجئت وقلت له: يا ناظم بك لقد أخطأت، واغرورقت عيناي بالدموع.”(25)
ولكنه وتحت الإصرار والضغط من زملائه في حزب الشعب، قبل المنصب من جديد وشكّل حكومته الثانية والأخيرة في الأسبوع الأخير من العام 1961، التي كانت الأكبر في تاريخ سورية، مؤلفة من 16 وزيراً. وقد جاءت حكومة الدواليبي الثانية على الشكل التالي:
الدكتور معروف الدواليبي (حزب الشعب): رئيساً للوزراء ووزيراً للخارجية
جلال السيّد (حزب البعث): نائباً لرئيس مجلس الوزراء ووزيراً للزراعة
أحمد قنبر (حزب الشعب): وزيراً للداخلية
رشاد برمدا (حزب الشعب): وزيراً للدفاع والتربية
سهيل الخوري (الحزب الوطني): وزيراً للشؤون البلدية والقروية
مصطفى الزرقا (حركة الإخوان المسلمين)، وزيراً للعدل والأوقاف
محمد الشوّاف (مستقل): وزيراً للأشغال العامة
عبد الرحمن الهنيدي (مستقل): وزيراً للصناعة
الدكتور عدنان القوتلي (مستقل): وزيراً للاقتصاد
فؤاد العادل (مستقل): وزيراً للثقافة والإرشاد القومي والإعلام
محمود العظم (مستقل): وزيراً للدولة مكلفاً بوزارة الصحة والإسعاف العام
نعوم السيوفي (مستقل): وزيراً للتخطيط
أحمد علي كامل (مستقل): وزيراً للمواصلات
بكري القباني (مستقل): وزيراً للإصلاح الزراعي
الدكتور رشيد الدقر (مستقل): وزيراً للمالية والتموين
محمد عابدين (مستقل): وزيراً للشؤون الاجتماعية والعمل
انقلاب آذار 1962
ولكن حكومة الدواليبي اصطدمت مجدداً مع العسكر، تماماً كما فعل رئيسها في فترة حكومته الأولى قبل عشر سنوات. وفي هذه المرة، كانت المواجهة بينه وبين العقيد عبد الكريم النحلاوي، قائد انقلاب الانفصال، الذي عارض نهج الدواليبي ومحاولاته المتكررة لإبعاد الضباط عن السياسة. تحرك النحلاوي بانقلاب ضده يوم 28 آذار 1962 وقام باعتقال كلّ من الرئيس الدواليبي ومعه الرئيس القدسي مع عدد كبير من قادة حزب الشعب.
وقد جاء في مُذكّرات الدواليبي أن انقلاب النحلاوي الثاني كان بدعم وتمويل من الرئيس جمال عبد الناصر، الذي أراد الإطاحة بحكام سورية الجدد، وقد وجد حليفاً في عبد الكريم النحلاوي الذي كان قد وجد نفسه خارج دائرة صنع القرار منذ عودة معروف الدواليبي إلى الحكم.
ولكن فترة الاحتجاز لم تستمر إلا أيام معدودة فقط، وقام قائد الجيش اللواء عبد الكريم زهر الدين بالتمرد على عبد الكريم النحلاوي يوم 1 نيسان 1962. أُطلق سراح الموقوفين وعاد ناظم القدسي إلى القصر الجمهوري والدواليبي إلى السراي الحكومي، حيث ظلّ رئيساً للحكومة حتى مطلع صيف عام 1962.
المواجهة مع عفلق
في 8 آذار 1963، وقع انقلاب جديد في سورية، قام به مجموعة من الضُبّاط الناصريين والبعثيين الموالين للرئيس جمال عبد الناصر والطامعين لاستعادة الوحدة مع مصر. اعتقلوا الرئيس القدسي والرئيس معروف الدواليبي مُجدداً، بعد تطبيق قرار العزل المدني عليهم، الصادر عن مجلس قيادة الثورة، بتهمة تأييد وشرعنة “جريمة الانفصال.” كما صدر مرسوم بحلّ جميع الأحزاب يومها، وفي مقدمتها حزب الشعب.
أُطلق سراح الرئيس القدسي وبقى الدكتور الدواليبي محتجزاً في سجن المزة حتى منتصف عام 1964، عندما تم الإفراج عنه بأمر من رئيس الدولة أمين الحافظ، الذي كان قد زاره في السجن وتعامل معه باحترام. وعند خروجه من المُعتقل، دُعي الدواليبي لزيارة الحافظ في القصر الجمهوري، في محاولة لإقامة صلح بينه وبين ميشيل عفلق، مؤسس حزب البعث. كانت علاقة الدواليبي بعفلق سيئة منذ أن عرفه مُدرّساً في ثانوية التجهيز الأولى بدمشق في منتصف الأربعينيات، وكان الخلاف بينهما عقائدياً وسياسياً وشخصياً.
رفض الدواليبي إلقاء التحية على ميشيل عفلق، وقال لأمين الحافظ أنه وخلال فترة اعتقاله، طلب أن يأتيه مأمور السجن بنسخة من القرآن الكريم لكي يُصلي، فجاء السجّان بنسخة من كتاب عفلق الشهير في سبيل البعث كما طلب منه أن يحفظها كنصٍ مُنزل ومُقدس. وعند هذا الحد، قال أمين الحافظ للدواليبي: “من الأفضل يا دكتور أن تترك هذا البلد.”(26)
المنفى الأخير
غادر معروف الدواليبي سورية وتوجه أولاً إلى لبنان، معلناً اعتزاله العمل السياسي. وعندما عِلِم الملك فيصل بن عبد العزيز بأمره، دعاه إلى السعودية ليكون مُستشاراً خاصاً له، مُكلّفاً بتطوير ومراقبة عمل الديوان الملكي. وقد حلّ الدواليبي ضيفاً على جميع حكّام السعودية وخدم الملك فيصل وأشقائه من بعده، الملك خالد ثمّ الملك فهد. كما عَمِل رئيساً للمؤتمر الإسلامي وعضواً في المجلس الأعلى للمساجد في مكة منذ عام 1975، ورئيساً لمنظمة الإسلام والغرب، التي كان مقرها في مدينة جنيف السويسرية. منذ سنة 1989 ولغاية عام 1994.
مذكرات الدواليبي
في سنوات المنفى عمل معروف الدواليبي على تدوين مُذكّرات عبر حوارات مُنظمة أجراها مع الدكتور عبد القدوس أبو صالح، بدأت سنة 1987 وانتهت عام 1993. وقد جمعت تلك الحوارات في كتاب حمل عنوان مُذكّرات معروف الدواليبي، صدر في السعودية سنة 2005.
مؤلفاته
خلال حياته المديدة وضع معروف الدواليبي عدداً من الأبحاث القانونية والتاريخية والدينية، منها الوجيز في الحقوق الرومانية وتاريخها (دمشق 1961)، المدخل إلى أصول علم الفقه (بيروت 1965)، نظرات إسلامية في الاشتراكية الثورية (بيروت 1965) دراسات تاريخية عن أصل العرب وحضارتهم الإنسانية (بيروت 1971)، “الإسلام والسلام والمشكلات الإنسانية” (بيروت 1980)، والدولة والسلطة في الإسلام (بيروت 1983).
الوفاة
توفي الدكتور معروف الدواليبي عن عمر ناهز 95 عاماً يوم 15 كانون الثاني 2004 ودُفن في البقيع في المدينة المنورة.