
يوسف بن إبراهيم العظمة (1884-1920)، ضابط سوري من دمشق خدم في الجيش العثماني وشارك في الحرب العالمية الأولى. عُيّن وزيراً للحربية في عهد الملك فيصل الأول حيث وضع أساسات الجيش السوري واستشهد وهو على رأس جيشه في معركة ميسلون يوم 24 تموز 1920. يُعتبر الشهيد يوسف العظمة أحد أشهر قادة النضال الوطني في تاريخ المشرق العربي الحديث.
البداية
ولِد يوسف العظمة في حيّ الشاغور بدمشق وكان والده إبراهيم العظمة موظفاً حكومياً في الدولة العثمانية. توفي والده وهو في السادسة من عمره فقام شقيقه الأكبر عبد العزيز العظمة بتربيته ورعايته.
دَرَس العظمة في مدرسة دمشق العسكرية في البحصة ثم في المدرسة الحربية في إسطنبول وفور تخرجه تم تعيينه مرافقاً للمستشار الألماني الجنرال ديتفور سنة 1907.
انتقل يوسف العظمة بعدها إلى فوج القناصة في بيروت قبل تعيينه معاوناً لمدير التعبئة في مدرسة الأركان في قصر يلدز في إسطنبول. وفي عام 1909 أرسلته الدولة العثمانية إلى ألمانيا القيصرية لإتمام دورة عسكرية مكثفة، عاد بعدها مُلحقاً عسكرياً في السفارة العثمانية في القاهرة.
وفي سنة 1913 تم إرساله إلى جبهات القتال الأوروبية وعُيّن قائداً للفرقة 25 في بلغاريا ثم قائداً في الفيلق الثامن في رومانيا. في الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية الأولى انتدبه وزير الحربية العثماني أنور باشا مرافقاً عسكرياً له، حيث ظلّ في هذا المنصب حتى سقوط الحكم العثماني في دمشق نهاية شهر أيلول من العام 1918. عُرض عليه البقاء مع الجيش العثماني ولكنه رفض وعاد إلى دمشق لمبايعة الأمير فيصل بن الحسين حاكماً عربياً على المدينة في 3 تشرين الأول 1918.(1)
مع الأمير فيصل
أُعجب الأمير فيصل بشخصية يوسف العظمة العسكرية وعينه مرافقاً شخصياً له ثم مبعوثاً خاصاً إلى مدينة بيروت. وعند عودته إلى دمشق كُلّف بترجمة الكتب العسكرية العثمانية ونقلها إلى اللغة العربية. وفي 26 كانون الثاني 1920 عينه الأمير فيصل رئيساً لأركان الجيش السوري، ومن هذا الموقع شارك في مراسيم تتويج الأمير فيصل ملكاً على سورية يوم 8 آذار 1920. ولكنه لم يستمر في رئاسة الأركان إلّا أشهر قليلة وفي يوم 3 أيار 1920، عينه الملك فيصل وزيراً للحربية في حكومة الرئيس هاشم الأتاسي، خلفاً للوزير عبد الحميد باشا القلطقجي.
الطريق إلى ميسلون
اعترضت حكومة فرنسا على قرار تتويج الملك فيصل وقالت أن في ذلك تحدياً لاتفاقية سايكس بيكو، المُبرمة قبل أربع سنوات بينها وبين الحكومة البريطانية. وجهت فرنسا إنذاراً إلى الملك فيصل يوم 14 تموز 1920، طالبته فيه بالاعتراف بشرعية الانتداب الفرنسي وبحلّ الجيش السوري وجمع السلاح وتسليم عدداً من المُعارضين لأطماع فرنسا في سورية. طرح الإنذار الفرنسي على الحكومة السورية ورفض الوزير العظمة قبوله، مُطالباً بمواجهة عسكرية مع الفرنسيين. وقد قال أمام الرئيس الأتاسي أنه قادر على الصمود في وجه الجيش الفرنسي لمدة أيام ريثما يحصل تدخلاً دولياً لوقف العدوان.
أما الملك فيصل فكان له رأي مختلف عن رأي يوسف العظمة وقد فضل قبول الإنذار وعدم الدخول في مواجهة عسكرية مع الفرنسيين. تجاوزاً لرأي وزير الحربية، أمر الملك فيصل بتنفيذ ما جاء في الإنذار من مطالب وشروط، وكان أولها حل الجيش الوطني. اعتراضاً على هذا القرار، استقال يوسف العظمة من منصبه.
ولكن المندوب السامي الفرنسي الجنرال هنري غورو اعتبر أن برقية قبول الإنذار جاءت متأخرة وأمر جيشه المرابط في الساحل السوري بالتوجه نحو مدينة دمشق لاحتلالها بالكامل وفرض الانتداب الفرنسي بقوة السلاح. عند سماع الخبر تراجع يوسف العظمة عن استقالته وبدء العمل على استعادة القوات المبعثرة بموجب قرار التسريح الذي كان قد أصدره الملك فيصل. وقد أمر بإقامة عرض عسكري كبير في شارع النصر وسط مدينة دمشق لشد عزيمة الناس وحثهم على مواجهة الفرنسيين.
كان عدد قوات الجيش السوري يومها 3800 جندي نظامي، وفي يدهم 48 مدفعاً وثماني رشاشات و180 عجلة للنقل. بعد العرض العسكري، اجتمع العظمة مع الضابط الدمشقي تحسين باشا الفقير وأصدر قراراً بتعينه قائداً لمعركة المواجهة مع الفرنسيين. وقد سأله العظمة: “هل أنت مستعد للحرب يا تحسين؟” أجابه الفقير بنعم، وبدأت الترتيبات العسكرية لمعركة ميسلون.
شُكل مجلس حربي مؤلف من يوسف العظمة وتحسين الفقير، ومعهم كل من رئيس الأركان ياسين باشا الهاشمي، والعقيد أحمد اللحّام والمقدم مصطفى وصفي والمقدم شريف الحجّار والمقدم حسن يحيى الصبّان والعقيد عارف التوّام، مدير تسليح الجيش السوري. وعندما طلب الملك فيصل منهم إبداء الرأي عن جاهزية الجيش، قالوا إن القوات السورية قادرة على الصمود في وجه فرنسا لمدة أسابيع، في حال وصلتها تعزيزات عسكرية وبشرية من الأهالي والبدو.(2)
على الفور، تم إرسال اللواء الثاني مشاة إلى قرية مجدل عنجر في سهل البقاع، بقيادة المقدم توفيق عاقل، واللواء الرابع إلى حاصبيا وراشيا، وأُبقي الفوج الثاني من اللواء الأول في محيط العاصمة للدفاع عن دمشق، تحسباً لأي انهيار سريع في المعركة. كما فُتح باب التطوع في الجيش السوري، وتقدم 1700 مدني إلى مكتب يوسف العظمة، طالبين السلاح لمواجهة الفرنسيين. ولكن وبعد تسلمهم السلاح الخفيف، فرّ معظمهم ولم يبقى من أصل 1700 متطوع إلا 300 مشخص فقط، معظمهم من الفتيان وأئمة الجوامع، إضافة إلى 115 خيّال قدموا لمساندة العظمة من حيّ الميدان الدمشقي.
وصل عدد القوات السورية النهائية إلى 850 شخص، بين جندي نظامي ومدني متطوع، 647 منهم ليس في حوزتهم أي سلاح. وشارك في معركة ميسلون سرية كاملة من الحرس الملكي، بقيادة الرئيس محمّد علي العجلوني، وسرية الهجانة، بقيادة المقدم مرزوق التخيمي، وسرية رشاش بقيادة الرئيس هاشم الزين.(3)
اللقاء الأخير مع الملك فيصل
وقد خرج يوسف العظمة على رأس جيشه للإشراف على المعركة بنفسه. وقبل توجهه إلى ميسلون، اجتمع مع الملك فيصل في قصره المُطل على مدينة دمشق ودار بينهما الحديث الشهير:
العظمة: أتيت لتلقي أوامر جلالتكم.
فيصل: إذن أنت ذاهب إلى ميسلون؟
العظمة: نعم يامولاي.
فيصل: ولماذا كنت تصر على الدفاع بشدة؟
العظمة: لأنني لم أكن أعتقد أن الفرنسيين يتمكنون من دوس جميع الحقوق الدولية والإنسانية ويقدمون على احتلال دمشق، وكنت أتظاهر بالمناورة للمقابلة بالمثل.
فيصل: وهل يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يُراق على جوانبه الدمُ.
العظمة: أترك ابنتي الوحيدة أمانة لدى جلالتكم.
ثم سلّم بالتحية العسكرية وغادر القصر باتجاه أرض المعركة.
معركة ميسلون
بدأت معركة ميسلون في تمام الساعة السادسة والنصف صباحاً من 24 تموز 1920. زرع يوسف العظمة عدة ألغام في طريق الجيش الفرنسي ولكن واحداً منها فقط انفجر، وكان الانفجار قبل وصول الدبابات الفرنسية إليه، فلم يمنع تقدم العدو. ثار يوسف العظمة غضباً من هذا التقصير وتوجه نحو مكان الألغام وهو يصيح بصوت عال شاتماً الضابط المسؤول. ثم نظر إلى المدفع الجبلي السريع وأمر الضابط المسؤول عنه أن يضرب الدبابات المتقدمة، وكانت المسافة بينهما لا تزيد عن خمسين متراً. وجهت هذه الدبابات نيرانها عليه وأصيب بصدره ورأسه. ويقول تحسين باشا الفقير في مذكراته:
وكان رحمه الله عند سقوطه سند ظهره للمحرس وأدار وجهه نحوي وفيه بقية من حياة والدم يتدفق من فمه، فحالاً أمرت الصدّاح (المبوّق) محمد الترك أن يذهب بسيارتي ويأخذ وزير الحربية قبل أن يصل إليه العدو. ولما أرادت السيارة أن تدور، أصابتها قنبلة مدفع وعاد سائقها ولم يتمكن من أخذ الوزير الذي أمال رأسه وسقط مسلماً روحه الطاهرة.(5)
وقد إنهار الجيش السوري سريعاً بعد انتشار خبر استشهاد يوسف العظمة، وحُسمت المعركة لصالح الفرنسيين، فدخلوا مدينة دمشق في صباح يوم 25 تموز 1920. هرب الملك فيصل إلى مدينة درعا جنوب البلاد وشكّلت حكومة جديدة لمفاوضة المُحتلين، عُيّن فيها جميل الأُلشي وزيراً للحربية، خلفاً للشهيد يوسف العظمة.
عائلة يوسف العظمة
انتقلت السيدة منيرة، زوجة يوسف العظمة التركية إلى إسطنبول وعاشت مع ابنتها الوحيدة ليلى (وهي تولد سنة 1915). وكان لمنيرة العظمة نشاط معروف في المجتمع الدمشقي قبل سفرها، فهي إحدى مؤسسات جمعية نور الفيحاء لتعليم البنات وجمعية النجمة الحمراء المعنية بجرحى الحرب من السوريين والمرتبطة بمنظمة الصليب الأحمر الدولية. وفي عام 1922، وقعت منيرة العظمة على معروض قُدم إلى السلطات الفرنسية باسم سيدات دمشق، مطالبة بإطلاق سراح الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، أحد رفاق زوجها، المحتجز يومها في قلعة دمشق.
أمّا الطفلة ليلى العظمة فقد خصص لها الملك فيصل راتباً شهرياً من سنة 1920 وحتى وفاته عام 1933. وفي عام 1947، خصص لها الرئيس شكري القوتلي راتباً إضافياً قدره ألفي ليرة سورية شهرياً ومعه ألفي ليرة معونة (بموجب المرسوم 982). كبرت ليلى وأصبحت سيدة جميلة تشبه أبيها الوسيم، تعلّمت في المدرسة الفرنسية في إسطنبول وتزوجت من تاجر تركي يُدعى جواد أشار، كان يملك متجراً للقماش في ميدان تقسيم وسط العاصمة التركية، وأنجبت منه ولد واحد سنة 1943، وهو الحفيد الوحيد ليوسف العظمة، واسمه جلال أشار. وكان يوسف العظمة قد سمّى ابنته على اسم والدته ليلى الشربجي، ولا صحة لما نُشر في عدد من بعض الكتب ومواقع التواصل الاجتماعية أنها ماتت فقيرة ومريضة ومُهملة في شوارع إسطنبول.
تخليد ذكرى العظمة
أُطلق اسم يوسف العظمة على شارع رئيسي في كل المدن السورية وعلى ساحة رئيسية وسط مدينة دمشق، تعرف أيضاً باسم بوابة الصالحية. كما أطلق اسمه على عدة مدارس في دمشق وحلب وحمص وحماة واللاذقية، وفي مدينة جنين الفلسطينية، كما تم تحويل منزله المتواضع في منطقة المهاجرين إلى متحف يحمل اسمه ويضم ما تبقى من مقتنياته.
وفي سنة 1937 صُنع له تمثال برونزي من تمويل الجالية السورية في البرازيل، بمبادرة من الدكتور خليل سعادة (والد أنطون سعادة، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي). شُكّلت لجنة لاستقبال التمثال القادم من البرازيل، برئاسة وزير الدفاع شكري القوتلي وعضوية وزير الخارجية فائز الخوري ونائب دمشق فخري البارودي. ولكن رجال الدين اعترضوا على التمثال، فتم وضعه في حديقة هامشية مقابل مبنى البرلمان في شارع العابد، وظلّت الساحة التي تحمل اسم يوسف العظمة خاوية حتى وضع تمثال الفلاح العربي في وسطها سنة 1966. نُقل تمثال يوسف العظمة مجدداً إلى حديقة مبنى الأركان في ساحة الأمويين، وفي موقعه الجديد تعرض التمثال إلى أذى خلال حرب تشرين سنة 1973 ولكنه رُمم وبقي في مكانه.
وفي سنة 2007 نُقل تمثال الفلاح العربي إلى جوار مبنى اتحاد الفلاحين وصمم تمثال جديد ليوسف العظمة، وضع في بوابة الصالحية. أمّا التمثال القديم الأصلي، فقد بقي في حديقة الأركان. وفي الذكرى المئوية لمعركة ميسلون سنة 2020، أصدرت الدولة السورية طابعاً تذكارياً حمل صورة تمثال يوسف العظمة.
وقد صدرت عدة مؤلفات عن يوسف العظمة، كان أشهرها كتاب فاجعة ميسلون للكاتب محيّ الدين السفرجلاني، الذي صدر في دمشق سنة 1937. وقد حققه الوزير والنائب نسيب البكري وقدّم له الدكتور عبد الرحمن الشهبندر. وفي سنة 1998 جُسّدت شخصية يوسف العظمة على شاشة التلفزيون في الجزء الثاني من مسلسل أخوة التراب، ولعب دوره الممثل السوري عارف الطويل.