العدوان الفرنسي على مدينة دمشق، هو قصفٌ وحشي تعرّضت له العاصمة السورية ما بين 18-20 تشرين الأول 1925. كان ذلك أيام الثورة السورية الكبرى، وقد أدى القصف إلى تدمير أحياء سكنية كاملة في حيّ سيدي عامود ومنطقة الجزماتية في الميدان، إضافة لحرق أسواق الحميدية والبزورية وتدمير قسم كبير في قصر العظم. وهو القصف الأول لمدينة دمشق في زمن الانتداب الفرنسي، الذي تلاه قصف ثاني وأخير في 29 أيار 1949. وكان لقصف دمشق تأثيراً بالغ الأهمية على الثورة المشتعلة في أرجاء البلاد، وقد ألهم الكثير من الأدباء في كتب قصائد عصماء عن صمود دمشق وأهلها، وفي مقدمتهم أمير الشعراء أحمد شوقي.
البداية
في تموز 1925 انطلقت الثورة السورية الكبرى من جبل الدروز، بقيادة سلطان باشا الأطرش، وانضم إليها فوراً الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، الذي أغلق عيادته الطبية في دمشق والتحق بصفوف الثوّار. على أثر تفاقم الحالة في الجبل وغوطة دمشق، اجتمع عدد من الأعيان في منزل الحاج عثمان الشرباتي، صديق الشهبندر، وقرروا نقل الثورة إلى مدينة دمشق. حضر الاجتماع كل من حسن الحكيم وجميل مردم بك وفارس الخوري، وتقرر فيه اقتحام المدينة من قبل الثوّار صباح يوم 18 تشرين الأول 1925، بهدف اعتقال أو تصفية المندوب السامي الفرنسي موريس ساراي، الذي كان من المفترض أن يزور دمشق يومها قادماً من بيروت. وقد تألفت في أحياء دمشق مجموعات مسلّحة للقيام بهذه المهمة، تولّى تدريبها وتسليحها الشيخ محمد الأشمر.
شهدت مدينة دمشق يوم 14 تشرين الأول مرور موكب كبير لشهداء الغوطة، بعضهم موثق اليدين مما يدل على أنهم أعدموا، خلفهم عربة محملّة بالجثث ومن بينها يد صغيرة تدل على أن صاحبها طفل لا يتجاوز العاشرة من عمره. عرض هذا المشهد في ساحة المرجة، وبقي معروضاً نحو خمس ساعات. وفي نفس اليوم، تم قصف ونهب قريتي جسرين والمليحة في الغوطة، تلاهُ ضرب قرية جرمانا، ما ضاعف من غليان دمشق وغضب أهلها، مع تنامي رغبتهم بالثأر من الفرنسيين.
معركة دمشق
دخل الثوار مدينة دمشق من جهة الشاغور صباح يوم الأحد 18 تشرين الأول وكان عددهم نحو أربعمائة فارس بزعامة حسن الخرّاط، أحد حراس بساتين الشاغور. ودخلت مجموعة ثانية من المجاهدين، بقيادة رمضان باشا شلاش. توجهوا نحو قصر العظم في سوق البزورية حيث اشتبكوا مع الحامية الفرنسية المتواجدة على أبوابه، ظنّاً منهم أن الجنرال ساراي موجود في داخله. بعد معركة دامية تمكنوا من دخول القصر، مع استمرار إطلاق النار عليهم من خارجه ما أدى اشتعال النار في أرجائه، ليكتشفوا أنهم وقعوا بكمين وأن ساراي لم يكن موجوداً. أغلقت كل مخارج القصر ومداخله، مع كل مداخل سوق البزورية، وفي الساعة الرابعة بعد الظهر، بدأت المدافع الفرنسية بقصف المدينة، بأمر من الجنرال ساراي.

توجهت سيارات عسكرية مصفحة باتجاه سوق مدحت باشا وبدأت بإطلاق النار على أبواب المتاجر والمستودعات، قبل أن يدخلها جنود السنغال لنهبها. تم تدمير معظم متاجر الأسواق القديمة في محيط قصر العظم، وكان الضرر الأكبر في البزورية والحميدية ومدحت باشا. تطاير سقف سوق الحميدية، وانهار على المتاجر الصغيرة. وعند الانتهاء من الأسواق، صوّبت نيران المدفعية صوب حيّ الجزماتية في منطقة الميدان، الذي أحرق ونُهب، ومنع جنود السنغال سيارات الإطفاء من الوصول إليه لكي تشتد النيران في داخله.

في كتابة سياسة دمشق ووجهاء المدن أيام الانتداب الفرنسي يصف المؤرخ السوري سامي مروان مبيّض المشهد قائلاً: “كانت سماء دمشق تمطر بالزجاج المكسور فوق البضائع المدمرة وبقايا جثث الموتى. في باب الجابية والشاغور، دمّر أكثر من 150 منزلاً، من بينهم الدار الذي ولِد فيه الرئيس شكري القوتلي.” ويضيف مبيّض في كتابه الصادر سنة 1998 أن عدد ضحايا القصف بلغ 1416 مواطناً سورياً، إضافة إلى 336 شخص هجّروا من منازلهم.
كما خلّف القصف أضراراً جسيمة في الكثير من المصالح الأجنبية وطال عدد من الشركات الأميركية، منها وكالة سنغر. احتجت الحكومة الأمريكية عبر قنصلها العام في سورية بول نابنشو الذي رفع كتاباً إلى وزارة الخارجية الأمريكية جاء فيه: “لقد أحدثت فرنسا، من خلال سوء إدارتها، ثورة في البلاد تسببت في خراب ما لا يقل عن مائة ألف نسمة وتدمير المعالم القديمة والمقدسة، وعرّض للخطر حياة وممتلكات ومصالح الأجانب.” وكتبت جريدة نيويورك تايمز: “يتحمل الجنرال ساراي مسؤولية ما حدث في دمشق.” طالب القنصل الأمريكي من حكومته إرسال مدمرتين حربيتين إلى شواطئ بيروت للضغط على الحكومة الفرنسية لوقف العدوان، معتبراً أن ظهورهم في عرض البحر قد يدخل شيء الطمأنينة على قلوب السوريين، ويكون رادعاً للجنرال ساراي.

جمع التبرعات
شكّلت في دمشق لجنة عليا لإغاثة المدينة وأهلها، برئاسة الشيخ بدر الدين الحسني، وتوجه وفد من تجار دمشق إلى بيروت لمقابلة الجنرال ساراي وطلب منه وقف إطلاق النار، كان برئاسة لطفي الحفار، نائب رئيس غرفة تجارة دمشق، يرافقهم وفد من الأعيان برئاسة الأمير سعيد الجزائري. أمّا خارج البلاد فقد تولّى شكري القوتلي المنفي في مصر يومها مهمة جمع التبرعات لعائلات مدينته المنكوبة، بمساعدة الصحفي الفلسطيني محمد علي الطاهر والسوري محبّ الدين الخطيب والزعيم التونسي عبد العزيز الثعالبي. تواصلوا مع مفتي القدس الحاج أمين الحسيني، الذي جمع من أهالي فلسطين 13 ألف جنيه إسترليني لأجل أهلهم في سورية، ثم توجه القوتلي إلى الزعيم المصري سعد باشا زغلول، لأجل الحصول دعم مماثل من أهالي مصر. وقد قدم سعد باشا من جيبه 100 جنيهاً مصرياً لمدينة دمشق، وطلب من الزعماء العرب المبادرة بالمثل. وقد كتب الشاعر المصري أحمد شوقي قصيدته الشهيرة ردّاً على القصف الفرنسي:
سلامٌ من صَبا بردى أرَقُ ودَمعٌ لا يُكفكفُ يا دِمشقُ
دَمُ الثُوّارِ تعرِفُةُ فرنسا وَتَعلَم أنّهُ نورٌ وحَقُ
وللحُرّيّة الحَمراءِ بابٌ بكُلّ يدٍ مُضرّجةٍ يدقُ
جزاكُم ذو الجلالِ بني دمشقٍ وعزُّ الشرقِ أوّلهُ دِمشقُ

ردود أفعال دولية
أثارت أحداث دمشق موجة من الاستنكار الدولي، وصلت إلى العاصمة الفرنسية باريس، حيث كتب الصحافة عن موريس ساراي ووصفته بالمجرم الذي “قتل سورية.” وخرجت مظاهرات أمام داره في باريس، رفع فيها الفرنسيون لافتات كُتب عليها باللون الأحمر “قاتل،” ما عجّل من قرار نقله عن سورية في كانون الأول 1925. وقد تزامنت إقالته من استقالة رئيس الدولة السورية صبحي بركات في 21 كانون الأول، احتجاجاً على الوحشيّة الفرنسيّة.