تتويج الملك فيصل الأول يوم 8 آذار 1920

مبايعة فيصل الأول وتتويجه ملكاً على المملكة السورية في 8 آذار 1920، هو يوم مفصلي في تاريخ سورية الحديث، تزامن مع إعلان استقلال البلاد عن الحكم العثماني، بعد سنتين من خروج آخر جندي تركي عن العاصمة السورية. وقد اعتُبر هذا اليوم عيداً وطنياً في سورية، تُعطل فيه الدوائر الرسمية والمدارس، ولكن فرض الانتداب الفرنسي على سورية بعد أشهر قليلة، وسقوط الحكم الفيصلي، منع السوريين من الاحتفال به. ظلّ الثامن من آذار يوماً وطنياً رمزياً بالنسبة لكثير من السوريين، مخصصاً للخطابات الثوريّة والمظاهرات المنددة بالانتداب الفرنسي، وعند انسحاب القوات الفرنسية عن سورية سنة 1946 ثم استبداله بالسابع عشر من نيسان عيداً وطنياً لجلاء المستعمر عن سورية.
البداية
بعد سقوط الحكم العثماني سنة 1918، دخل الأمير فيصل بن الحسين مدينة دمشق فاتحاً ومحرراً، معلناً إقامة حكومة عربية مستقلة تحت راية أبيه الشريف حسين بن عليّ، قائد الثورة العربية الكبرى.
في كانون الثاني 1919 سافر الأمير فيصل إلى فرنسا لحضور جلسات مؤتمر الصلح في باريس، حيث علِم أن الدول الأوروبية لا تنوي الاعتراف باستقلال سورية أو بشرعية حكمه في دمشق، لأن ذلك يتعارض مع اتفاقية سايكس بيكو المبرمة في زمن الحرب العالمية الأولى بين الحكومتين الفرنسية والبريطانية.
عاد فيصل إلى سورية محبطاً، وقرر تحدي البريطانيين والفرنسيين بتنصيب نفسه ملكاً دستورياً وشرعياً على البلاد، يصعب على أي دولة أجنبية أن تخلعه عن العرش. وقد عقد اجتماع في داره الكائن في منطقة العفيف بدمشق يوم 3 آذار 1920، تقرر فيه رفع الأمر إلى المؤتمر السوري العام المُنتخب حديثاً، ممثلاً برئيسه هاشم الأتاسي. وقد دعا الأتاسي إلى اجتمع أعضاء المؤتمر السوري في 6 آذار وحددوا يوم 8 آذار يوماً رسمياً لتتويج الملك فيصل والإعلان رسمياً عن استقلال البلاد عن الحكم العثماني.
التحضيرات
تقرر أن تكون عملية التتويج شكليّة بالاسم فقط، وألا يكون لها تاج يضع على رأس الملك كما هو الحال ملوك أوروبا أو سلالة القاجار الحاكمة في بلاد فارس. وكان ذلك أسوة بالشريف حسين، والد فيصل الأول، الذي نصّب نفسه ملكاً على الحجاز سنة 1916 من دون تاج أو صولجان. القائمين على مراسيم التتويج أرادوا كانوا أن يكون لفيصل عرش في دمشق، ولكنهم لم يجدوا في كل أرجاء المدينة كرسيّاً فخماً يليق بهذه المناسبة الوطنية، فقاموا باستئجار كرسي دمشقيّ مرصّع بالصدف والموزاييك من أحد أعضاء مجلس دمشق البلدي من عائلة الفرّا الدمشقية المعروفة. وقد زيّنت شوارع دمشق ومبانيها الحكومية بالسجّاد العجمي، ورفعت راية الثورة العربية الكبرى في سماء المدينة، بعد إضافة نجمة ترمز إلى بدء الحكم الهاشمي في سورية.

حفل التنصيب
أقيم الحفل الرسمي في دار البلدية بساحة المرجة في الساعة الثالثة من عصر من يوم 8 آذار 1920، وتلته حفلة عائلية صغيرة في القصر الملكي في منطقة المهاجرين. وصل الأمير فيصل إلى ساحة المرجة بلباسه العسكري، في موكب يقوده خيول عربية بيضاء اللون، جالساً في عربة مع ابنه الوحيد الأمير غازي ومرافقه العسكري تحسين قدري. بعد إلقاء التحية على الناس المتجمهرين في ساحة المرجة، دخل فيصل إلى بهو دار البلدية ووقف إلى يمينه أخيه غير الشقيق الأمير زيد بن الحسين، رئيس حكومة المديرين المكلّفة بالإشراف على مراسيم التتويج، محاطاً بمدير الديوان الملكي إحسان الجابري وحجّاب الملك، فخري البارودي وجميل الألشي يرافقهم نسيب البكري، أمين سرّ القصر الملكي.
وإلى يمينهم وقف رجال السلك السياسي، من وزراء ومحافظين، مع رئيس الحكومة السابق الفريق رضا باشا الركابي، وإلى يسارهم مفتي العاصمة الشيخ عطا الله الكسم مع بطريرك الروم الأرثوذكس غريغوريوس الرابع حداد وحاخام الطائفة الموسويّة يعقوب الدانون. وقد وقف إلى الجانب الأيسر من البهو أعضاء المؤتمر السوري العام، يتقدمهم الرئيس هاشم الأتاسي الذي أشرف بنفسه على مراسيم المبايعة بصفته رئيساً للسلطة التشريعية في سورية. ومن على شرفة بهو بلدية دمشق تلا أمين سر المؤتمر عزت دروزة قرار المبايعة أمام الجماهير المحتشدة في ساحة المرجة. ولما انتهى من تلاوته تعالت الهتافات بحياة الملك فيصل وحياة “سورية العربية.”
وبعد هدوء عاصفة الهتافات، تقدم البطريرك حداد مُعلناً باسمه وأسماء بقيّة رؤساء الكنائس من الروم الكاثوليك والسريان والأرمن الأرثوذكس والموارنة والبروتستانت مبايعة فيصل الأول ملكاً على البلاد على أساس “الشورى والعدل والمساواة.” قَبِل الملك المبايعة وأخذ يتقبل تهاني الحاضرين في بهو البلدية، قبل الانتقال إلى القصر الملكي في المهاجرين لحضور حفل عائلي أقيم على شرفه، بحضور زوجته الملكة حزيمة بنت ناصر. لم تحضر سيدات دمشق حفل التنصيب، وخصصت لهن مقصورة في مسرح زهرة دمشق المجاور في ساحة المرجة، جلست بها رئيسة جمعية نور الفيحاء نازك العابد والصحفية ماري عجمي، مؤسسة مجلّة العروس، مع أسماء عيد زوجة وزير المالية فارس الخوري ومنيرة خانم، زوجة وزير الحربية يوسف العظمة، وزهراء اليوسف، شقيقة أمير الحج عبد الرحمن باشا اليوسف.

كما قام مدير البرق والبريد حسن الحكيم بدمغ وثيقة المُلك بطابع مذهّب، عليه تاريخ الثامن من آذار 1920. وعند الانتهاء من البيعة، قام موظفو إدارة البرق والبريد بكسر الأختام، معلنين انتهاء مراسم التتويج، وهي عادة متبعة في لندن عند تتويج الملوك. وقد أصبحت الرسائل القليلة التي تمكن الموظفين من توشيحها من أندر الوثائق في تاريخ سورية الحديث، وزّعت على كبار المسؤولين في الدولة السورية، مع صورة تذكارية للملك فيصل، محاطاً برجال عهده الجديد.