فخري بن محمود البارودي (30 آذار 1887 – 2 أيار 1966)، زعيم سوري من دمشق وأحد مؤسسي الكتلة الوطنية، عُرف في سورية والعالم العربي مناضلاً وشاعراً ومجدداً في الموسيقا والفنّ. انتُخب نائباً في البرلمان السوري من سنة 1932 ولغاية جلاء القوات الفرنسية عام 1946، وكان اعتقاله سنة 1936 أحد أبرز الأسباب التي أشعلت الإضراب الستيني. اعتزل العمل السياسي بعد الجلاء وتفرغ لدعم الحركة الفنية في سورية عبر مساهمته في تأسيس إذاعة دمشق ونادي الموسيقا الشرقي. وكان راعياً ومحتضناً لعدد من الفنانين، ومن أبرزهم المطرب صباح فخري. ويُعدّ فخري البارودي من الآباء المؤسسين للجمهورية السورية وكان من ظرفاء دمشق. ومن أشهر مؤلفاته نشيد بلاد العرب أوطاني الذي ذاع صيته في البلاد العربية منذ منتصف القرن العشرين.
البداية
ولِد فخري البارودي في حيّ القنوات بدمشق وكان والده محمود البارودي من الأعيان. أمّا والدته فقد كانت من عائلة العَلمي الفلسطينية، وكان والدها مستشاراً في بلاط السلطان عبد العزيز في إسطنبول. وعن أصول العائلة يقول البارودي في مذكّراته إن نسبها يعود إلى ظاهر العمر، حاكم عكا في القرن الثامن عشر، الذي تمرّد على الدولة العثمانية وقُتل، فجاءت ذريته إلى دمشق واستقرت بها سنة 1775. كان فخري البارودي وحيداً لأبيه، الذي تعامل معه بدلال مُفرط ووظّف مربّين ومساعدين وطهاة للسهر على خدمته وراحته، جاء معظمهم من قصر السلطان مراد الخامس، الذي نحّي عن العرش سنة 1876.
سنوات الدراسة
دَرس البارودي في المدرسة العازارية في منطقة باب توما ثم في مكتب عنبر حلف الجامع الأموي. طلب إلى أبيه السماح له بالسفر إلى فرنسا للتخصص بعِلم الزراعة، ولكن محمود البارودي رفض ذلك بشدة فهرب البارودي من البيت في شباط 1911 والتحق بجامعة مونبلييه الفرنسية. ولكنه أُجبر على العودة إلى دمشق بعد عام واحد بعدما قطع والده المصروف عنه ومنع والدته من تقديم أية مساعدة مادية له. عاد البارودي إلى دمشق مُجبراً وحزيناً وجال في شوارعها غاضباً، ومن شدّة تألمه صار يكتب على الجدران، مثل المجانين: “تعَلم يا فتى، فإن الجهل عار!”
صحفياً وضابطاً
بعد انقطاع دراسته في فرنسا عَمل فخري البارودي محرراً في جريدة المقتبس قبل أن يؤسس جريدة أسبوعية ساخرة تدعى حطّ بالخرج، حرّرها باللهجة الدمشقية العامية، حيث كان يوقع كل افتتاحياته باسم عزرائيل المستعار. عند معرفة أبيه بالأمر، أجبر البارودي على التخلّي عن مشروعه الصحفي، فالتحق بالوظيفة الحكومية كاتباً بعدلية دمشق، ثم تطوع بالجيش العثماني، عِلماً أنه كان مُعفى من خدمة العلم الإلزامية لكونه وحيداً لأمه. فرزته قيادة الجيش إلى مدينة بئر السبع في صحراء النقب، ليقاتل مع الجيش العثماني في الحرب العالمية الأولى، ووقع أسيراً بيد الجيش البريطاني سنة 1917. سيق مكبلاً إلى مصر وبقي فيها سجيناً حتى سقوط الحكم العثماني في سورية سنة 1918.
مرحلة الملك فيصل 1918-1920
عاد البارودي بعدها إلى دمشق وبايع الأمير فيصل بن الحسين حاكماً عربياً على سورية. في أثناء زيارتاته المتقطعة إلى دمشق كان الأمير فيصل يحلّ ضيفاً في دار محمود البارودي في منطقة القنوات، وفيها تعرّف على فخري البارودي وأحبه، فعيّنه مرافقاً خاصاً له طوال مدة حكمه بدمشق، الممتدة من 3 تشرين الأول 1918 ولغاية 24 تموز 1920. ولكنّ حكم الملك فيصل لم يستمر طويلاً، وأطيح به من قبل الجيش الفرنسي بعد معركة ميسلون سنة 1920، لتبدأ من يومها مرحلة الانتداب الفرنسي والتي استمرت حتى سنة 1946. نظراً لقربه من الملك فيصل، حكمت محكمة فرنسية على البارودي بالإعدام، فهرب إلى شرق الأردن وبقي مقيماً في عمّان حتى صدور عفو عنه سنة 1923.
البارودي والثورة السورية الكبرى
في 5 حزيران 1925، انتسب البارودي إلى حزب الشعب، الذي كان ينادي بالاستقلال وكان برئاسة الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، وزير خارجية سورية السابق في آخر حكومة شُكّلت في عهد الملك فيصل. وعند قيام الثورة السورية الكبرى سنة 1925، عمل البارودي مع الشهبندر على دعمها عبر تهريب السلاح إلى جبل الدروز وغوطة دمشق، فحُكم عليه بالإعدام مجدداً. هرب مرة ثانية إلى عمّان ومكث فيها قرابة العامين، ضيفاً على الأمير عبد الله، شقيق الملك فيصل.
سنوات المنفى 1925-1928
في منفاه الأردني، قلّت موارد فخري البارودي المالية التي كانت تصله شهرياً من سورية، ففتح مطعماً للمثقفين في عمّان، سماه “الندوة،” كان يُقدم السندويش والمرطبات. مع ذلك بقيت الهموم المادية تحاصر البارودي فلجأ إلى عمل جديد واتفق مع صديقه الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان، مدير قسم اللغة العربية في الإذاعة البريطانية، على تقديم سلسلة حلقات توعية للأطفال لتشجيعهم على المواطنة ومكافحة الاستعمار عبر الثقافة والقلم بدلاً من البندقية.
وبالفعل، سُجلت أولى حلقات البارودي في الأستوديو ولكنّ سلطة الانتداب الفرنسي في سورية قطعت التيار الكهربائي عن مدينة دمشق يوم موعد بث الحلقة الأولى، لمنع صوت البارودي من الوصول إلى أهله عبر الأثير. ثمّ ضغطت على الإذاعة البريطانية لتوقف البرنامج بشكل نهائي. وفي آخر مراحل اليأس، قرر البارودي التطوع في الجيش العراقي، كونه كان مرافقاً لفيصل الأول الذي كان قد تولّى عرش العراق بعد إبعاده عن سورية. ولكن الحكومة العراقية رفضت طلبه بحجة أن البارودي لم يكن يحمل الجنسية العراقية.
مع الكتلة الوطنية
في شباط 1928، صدر عفو جديد عن المبعدين السياسيين، فعاد فخري البارودي إلى سورية وانتسب إلى الكتلة الوطنية التي كانت قد ظهرت في خواتيم الثورة السورية الكبرى، وكانت تُنادي بمحاربة الانتداب بطرق سلمية لا عسكرية. انتُخب سنة 1928 نائباً ومشرعاً في المؤتمر التأسيسي المكلّف بصياغة أول دستور جمهوري، وأُعيد انتخابه في كلّ الدورات التشريعية من سنة 1928 ولغاية عام 1943. في كل دورة كان البارودي يفوز بأغلبية مُطلقة، نظراً لشعبيته الكبيرة في أوساط الشباب والمثقفين. وقد رفض تسلّم أي منصب حكومي طوال مسيرته السياسية، على الرغم من الحقائب المختلفة التي عُرضت عليه في عهد كلٍ من هاشم الأتاسي وشكري القوتلي، ولكنّه فضّل البقاء في موقعه النيابي، ممثلاً عن الشعب ومدافعاً عن حقوقه.
الإضراب الستيني
شارك فخري البارودي في جنازة زميله في الكتلة إبراهيم هنانو الذي توفي في 21 تشرين الثاني 1935، التي تحوّلت إلى مظاهرة شعبية ضد الاحتلال الفرنسي. رفعت فيها شعارات منددة بالانتداب ومطالبة باستقالة رئيس الحكومة تاج الدين الحسني، وعُدّ البارودي هو المحرض ضد الدولة وفرنسا. صدر أمر اعتقاله في 20 كانون الثاني 1936، ما أشعل الإضراب الستيني الذي قادته الكتلة الوطنية. جرت مفاوضات في مقر المفوضية الفرنسية العليا في بيروت، بين رئيس الكتلة هاشم الأتاسي والمندوب السامي هنري دي مارتيل، كانت نتيجتها إنهاء الإضراب الستيني مقابل عفو عن جميع المعتقلين، وفي مقدمتهم فخري البارودي. توجه بعدها وفد من الكتلة الوطنية إلى فرنسا للتفاوض على مستقبل سورية.
مكتب البارودي للدعاية والنشر
في عام 1934 أسس فخري البارودي أول مركز دراسات وأبحاث عرفه العالم العربي باسم “مكتب البارودي للدعاية والنشر،” وكان مقره في دار البارودي بمحلّة القنوات. كان مكتب البارودي يهدف إلى تأمين قاعدة إعلامية وفكرية للحركة الوطنية السورية. اشترى البارودي مطبعة خاصة لطباعة الدوريات والدراسات الصادرة عن مكتبه ووزّعها مجاناً على الجامعات والجوامع والكنائس ودور العبادة اليهودية، إضافة إلى كبرى الصحف العربية وكل مؤسسات الدولة السورية. تراوحت الموضوعات التي كتب عنها البارودي بين إجرام الصهاينة في فلسطين وتجاوزات الفرنسيين في سورية، وصولاً لقضية لواء إسكندرون، الذي تمّ ضمّه إلى تركيا عام 1939.
تعاقد البارودي مع نخبة من الشباب المثقف للعمل في مكتبه، كان من بينهم ناظم القدسي (الذي أصبح رئيساً للجمهورية سنة 1961) وفريد زين الدين، خريج الجامعة الأميركية في بيروت الذي أصبح بعد سنوات سفيراً في في كلٍّ واشنطن وموسكو. وعمل معهم المحامي إدمون رباط، الذي شارك في مفاوضات باريس عام 1936، والمحامي أحمد السمّان، خريج جامعة السوربون الذي أصبح رئيساً للجامعة السورية في زمن الوحدة السورية – المصرية، والدكتور قسطنطين زريق، الذي أصبح رئيساً للجامعة السورية سنة 1949 ثمّ للجامعة الأميركية في بيروت. ومن الشباب العرب، تعاقد البارودي مع أكرم زعيتر، الذي أصبح لاحقاً سفير فلسطين في جامعة الدول العربية، وكاظم الصلح، مؤسس حزب النداء القومي في لبنان. شكل هؤلاء الشباب الهيئة العامة لمكتب البارودي وانتخبوه رئيساً لهم لمدّة خمس سنوات.
إضافة لإنجاز الأبحاث العلمية، ووظّف مكتب البارودي مصورين شباب داخل فلسطين لالتقاط صور فوتوغرافية عن تجاوزات العصابات اليهودية ومصادرتهم للأراضي والأملاك. كان البارودي يجمع تلك الصور في دمشق ثم يقوم بإرسالها إلى كبرى الصحف الأميركية والبريطانية مُطالباً بنشرها، مرفقة برسالة رسمية تحمل عبارة: “مع تحيات مكتب البارودي.”
أسس غرفة خاصة للحفاظ على الخرائط السورية، قبل ترسيم الحدود عند انهيار الدولة العثمانية وبعد ذلك، وغرفة ثانية لحفظ أوراق ملكية الأراضي الفلسطينية (الطابو)، المدرجة ضمن مطامع الوكالة اليهودية.
أما عن تمويل مكتب البارودي فقد كان يأتي عن طريق الاشتراكات بالدوريات وتبرعات الأعيان والمؤسسات السورية، إضافة لتبرعات البارودي الذي دعم المكتب بمبلغ قدره 40 ألف قرش سوري. وقد طبع مكتب البارودي كتاباً عن مؤتمر بلودان، وكتيّباً باسم “دليل الشرطي” للبارودي، يحتوي على إرشادات لرجال الأمن والشرطة وتعليمات مصوّرة متعلقة بكل تفاصيل مهنتهم. أخيراً ترجم المكتب مُذكّرات أدولف هتلر من اللغة الألمانية، التي صدرت بعنوان كفاحي.
مشروع الفرنك
ارتبط اسم فخري البارودي بمشروع الفرنك الذي ظهر في بداية الثلاثينيات، ويطلب إلى كل مواطن التبرع بفرنك سوري واحد شهرياً (ما يعادل خمسة قروش) لجمع مبلغ ثابت بشكل دوري يُخصَّص لمشروع نفع عام كترميم جسر مثلاً أو تزفيت طريق أو شراء كتب لمدرسة نائية. وقد رفض البارودي تقبل تبرعات تزيد عن فرنك سوري واحد في الشهر وكان يقول دوماً: “هذا المشروع من الفقراء يبدأ وإلى الفقراء يعود، أريد ديمومة التبرع الشهري ولا أبحث عن تبرعات كبيرة من الأفراد. الكل يستطيع التبرع بفرنك سوري واحد، غنياً كان أم فقيراً. أريد إشراك الفقراء في نهضة الأمة.” وقد حقق مشروع الفرنك نجاحاً مبهراً في دمشق، فمنعته فرنسا نهاية عام 1939.
البارودي والصناعة
أما مشروعه الثاني، “صنع في سورية،” فقد كان يهدف إلى تتشجيع الصناعة الوطنية ودعمها، وقد بدأه البارودي بوضع “الميثاق الاقتصادي” ووزّعه على تجّار دمشق طالباً من الجميع أن يعدّوه نبراساً في عملهم التجاري. جاء في الميثاق “السنطيم أساس المليون والمال أساس الاستقلال.” ثم أضاف: “من أراد حياة بلاده فليعمل بميثاقها الاقتصادي.” طالب ميثاق البارودي تجار سورية بعدم استيراد ما هو موجود في الأسواق المحلية وتشجيع الأهالي على شراء المزروعات والأجبان والقطنيات والملابس المصنعة في سورية. وفي عام 1938، سافر فخري البارودي إلى الولايات المتحدة الأميركية للترويج للشركات والمصانع السورية في معرض نيويورك العالمي.
البارودي والنادي الموسيقي الشرقي
بالتعاون مع صديقه المحامي أحمد عزّت الأُستاذ أسس فخري البارودي النادي الموسيقا الشرقي الذي تحوّل بعد عام 1946 إلى “المعهد الموسيقي” وكان مقره في سوق ساروجا. وتعاقد مع أساتذة من النمسا لتدريس العزف على البيانو والكمان، وجاء بالمحامي نجاة قصاب حسن لإدارة المشروع، ومعه عدد من الخبراء مثل يحيى السعودي، مُدرس نظريات الموسيقى الشرقية، ويوسف البتروني الذي كلّفه البارودي بتدريس مادة الموسيقا الغربية، وصالح المحبك لمادة الموشحات، وسعيد فرحات لمادة الإيقاع.
في سنة 1948، حصل النادي الموسيقي الشرقي على دعم مادي من حكومة جميل مردم بك، ولكنّ هذا البند شُطب من موازنة العام 1950، عند تسلّم ميشيل عفلق حقيبة المعارف. تذرع عفلق بضيق الموارد، وكتب له البارودي معاتباً:
إن الجلاء من نواب قومي عصوا قولي وما فهموا مرادي
بإنشاء معهد للفن يحيي تراث جدودنا بين العباد
ولكن أي عذر ليت شعري لأهل العلم أرباب السداد
إذ ظلوا كغيرهم حيارى وما عملوا لإصلاح الفساد
فويل للوزارة مع ذويها وويل للمعارف والبلاد.
لم يكترث ميشيل عفلق لكلام البارودي، فتوجه إلى وزير المالية شاكر العاص بأبيات من شعر جاء فيها:
ما لي بعصر النور ناصر إلا وزير المال شاكر
فاسمع شكايا مغرم بالفن قد ملّ الظواهر
والفن كاد يموت من جهل الأصاغر والأكابر
والآن أنت وزيرنا والمال بين يديك وافر
وعلى إشادة معهد للفن أنت الآن قادر.
البارودي والفن
علاقة فخري البارودي بالفن والفنانين كانت تعود إلى زمن أبيه، الذي كان يجمع الموسيقيين في داره، أمثال عازف القانون عمر الجراح وشقيقه عازف العود إبراهيم الجراح. وقد كرر البارودي تجربة والده عندما تبنّي الفنان الشاب عبد اللطيف فتحي، الذي شجعه على ترك اللهجات المصرية السائدة في المسرح العربي يومها إلى اللهجة الدمشقية المحكية. ودعم مجموعة من الفنانين الشباب ومنهم رياض شحرور وسعد الدين بقدونس ونهاد قلعي، الذي تأثر بفخري البارودي لدرجة أنه استعار نبرة صوته السوبرانو في تجسيد شخصية حسني البورظان التي ظهرت على شاشة التلفزيون السوري في مطلع الستينيات.
كما قام البارودي بدعم رائد المنولوج سلامة الأغواني والفنان فهد كعيكاتي ومطرب القدود والموشحات صباح الدين أبو قوس، الذي جاء من حلب إلى دمشق بنية السفر إلى مصر. سمع البارودي صوته الخلّاب وأعجب به كثيراً، فطلب إلى والدته أن يبقى في سورية وتكفَّلَ بكل مصاريف دراسته، وأعطاه راتباً شهرياً وجاء بأهم أساتذة الموسيقا الشرقية لتعليمه فنّ الغناء. عندما أصبح الفتى جاهزاً للاحتراف أدخله البارودي إلى إذاعة دمشق مُطرباً مُحترفاً، ودعاه للغناء أمام رئيس الجمهورية شكري القوتلي، وبعدها أطلق عليه اسمه الفني المستوحى من اسم البارودي: صباح فخري.
القمصان الحديدية
في مطلع الثلاثينيات أسس فخري البارودي ما عُرف باسم الشباب الوطني، وهو الذراع الشبابي للكتلة الوطنية، الذي أراد له أن يكون نواة الجيش السوري في المستقبل. تطورت الفكرة عام 1936 لينبثق عن الشباب الوطني تنظيم القمصان الحديدة، المستوحى من القمصان البنّية في إيطاليا والقمصان السوداء في ألمانيا النازية. في النسخة السورية من تلك التنظيمات، ارتدى الفتيان ربطة عنق سوداء وقميصاً حديدي اللون وقبعة فيصلية، تُشبه تلك التي كان يرتديها الملك فيصل وضبّاطه في زمن الثورة العربية الكبرى. وضع شباب “القمصان” على أذرعهم اليمنى ربطةً حمراء شبيهة بربطة رجال هتلر، ولكن بدلاً من الصليب المعكوف، وضعوا عليها صورة يد تحمل شُعلةً من نور.
بمشيتهم العسكرية المنتظمة وتحيّتهم النازية عبر مدّ اليد اليمنى إلى الأمام، بشكلٍ مشدود ومُنتصب، كانوا يجولون شوارع دمشق لحماية الأهالي من تجاوزات جنود السنغال التابعين لجيش الشرق الفرنسي. وفي أحد معسكرات القمصان الحديدية ظهر البارودي بلباس التنظيم وخاطب الجماهير قائلاً: “هذا التنظيم يجمعنا جميعاً، ونحن نعقد عليه آمالاً كبيرة لأنكم أنتم الشباب القوة الحقيقية لأي شعب، وجميعُكم يعلم أنه لولا الشباب الإيطالي في روما لما كان لموسوليني أنْ يكون، ولما كان لهتلر.” نظراً لكثرة التشابهات بين القمصان الحديدية والحزب النازي، قيل إنّ قمصان البارودي هم امتداد لنفوذ أدولف هتلر في الوطن العربي، وبناء عليه جرى حظرهم من قبل سلطة الانتداب ومُصادرة جميع مكاتبهم وممتلكاتهم.
قصف دمشق عام 1945
في 29 أيار 1945 وقع عدوان فرنسي على مدينة دمشق، هو الثاني منذ سنة 1925، أدى إلى تدمير المجلس النيابي وقلعة دمشق مع أجزاء كبيرة من منطقة سوق ساروجا. نزل البارودي إلى الشارع بلباس الدرك السوري وحمل السلاح مع المتطوعين في محاولة منه لإنقاذ سجناء القلعة من الهلاك، وقد أُصيب بشظيّة في رقبته قبل أن يتمكن من نقل الجرحى والمصابين إلى المستشفى الإنكليزي في حي القصّاع. وقد كرمه رئيس الجمهورية شكري القوتلي بوسام الاستحقاق ورتبة فخرية في الجيش السوري بعد جلاء القوات الفرنسية سنة 1946. بعد وقوع الانقلاب الأول في 29 آذار 1949، عُيّن البارودي مديراً لمكتب الدعاية في الجيش السوري، حيث تعاقد مع المخرج إسماعيل أنزور لإنتاج أفلام وثائقية عن تدريبات الجيش وقدراته العسكرية، كانت تُعرض في صالات السينما بدمشق.
البارودي وعبد الناصر
لم يُخفِ فخري البارودي امتعاضه من الطريقة التي جرت بها الوحدة السورية المصرية عام 1958، على الرغم من تقديره الكبير للرئيس جمال عبد الناصر. وقد عبّر عن معارضته لقانون الإصلاح الزراعي الذي صدر في شهر أيلول من العام نفسه عبر رسالة مفتوحة إلى عبد الناصر جاء فيها:
اسمحوا لي وأنا الشيخ الذي جرب الحياة وأفنى مراحل عمره في التجربة والاختبار ومقاومة الاستعمار ونشدان الحياة الحرّة الكريمة، أن أنصح بتأخير تنفيذ هذا القانون. يا سيادة الرئيس، إن الكثير من أصحاب الأراضي الكبيرة أفنوا حياتهم في استصلاحها واستثمارها، ولا يجوز بوجه من الوجوه أن تقضي على تلك الجهود.
لم يُجب عبد الناصر على رسالة البارودي، فأرسل نسخة ثانية منها عبر البريد المسجّل، وصلت إلى مكتب الرئيس في القاهرة، ما عدّه نائب رئيس الجمهورية أكرم الحوراني تطاولاً على مقام الرئاسة. ردّ الحوراني بإنذار موجه إلى فخري البارودي عبر محافظة دمشق يُطالبه بإخلاء داره الكائنة في منطقة كيوان، بحُجة أن الدولة تنوي هدمه وشقّ طريق في مكانه. وكان البارودي قد انتقل للعيش في هذا المنزل المتواضع بعد بيع قصر أبيه في القنوات سنة 1954. ظنّ الحوراني أن البارودي سيموت قهراً لو أُخرج من داره مرة ثانية، ولكن انقلاب الانفصال حال دون تنفيذ قرار الهدم سنة 1961.
منزل البارودي
ابتداء من العشرينيات وحتى مطلع الخمسينيات، كان منزل البارودي في محلّة القنوات محجاً لمعظم الفنانين والمثقفين العرب في أثناء زيارتهم إلى دمشق، وقد استضاف كلاً من أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وأحمد شوقي. أُجبِر البارودي على بيع الدار بسبب تراكم الديون، فتحولت مُلكيته سنة 1954 إلى الصحفي وجيه بيضون وانتقل البارودي إلى منزل متواضع في منطقة كيوان، تعرض للقصف المدفعي خلال مواجهات دامية وقعت في دمشق يوم 18 تموز 1963، عندما حاول الضابط الناصري جاسم علوان تنفيذ انقلاب عسكري على حزب البعث الحاكم منذ 8 آذار 1963. لم يُصَب البارودي بأذى يومها لأنه كان خارج المنزل، ولكن مكتبته النفيسة ضاعت، وفيها معظم أوراقه المكتوبة بخط اليد، فاستأجر شقة صغيرة في منطقة ركن الدين على سفح جبل قاسيون، حيث توفي. أما منزله القديم في القنوات فهو اليوم مقر قسم الترميم التابع لكلية الهندسة المعمارية في جامعة دمشق.
الوفاة
توفي فخري البارودي في دمشق عن عمر ناهز 79 عاماً يوم 2 أيار 1966. وقد خرجت له جنازة شعبية تجمهر فيها الناس أمام جامع بدر بدمشق، ورُفع نعشه المجلل بالعلم السوري على أكتاف المشيعين على هتاف: “لا الله إلا الله…فخري بك حبيب الله.”
مكتبة البارودي
وزّع فخري البارودي ما تبقى من كتبه على حياة عينه، فقد ذهب معظمها إلى المدارس الحكومية، وخصص قسم لمكتبة المستشفى الوطني، وبعث الكتب الأجنبية إلى مكتبة جامعة دمشق. وقد جُمع ما تبقى من أوراقه في متحف الوثائق التاريخية بدمشق، الذي أقيم في منزل خالد العظم في منطقة سوق ساروجا.
مؤلفات البارودي
وضع البارودي في حياته عدداً كبيراً من المؤلفات، كان من ضمنها:
- فصل الخطاب بين السفور والحجاب (1934)
- مذكرة شرطي (1938)
- كارثة فلسطين (1950)
- مُذكّرات البارودي: ستون سنة تتكلم (1951)
- الصلح مع إسرائيل (1957)
- تاريخ يتكلّم (1960)
- قلب يتكلّم (1962)
- وكان آخر ما أنجزه البارودي هو إعادة طباعة كتاب الطبيخ لمحمد حسن البغدادي سنة 1964، الذي ذيّله بملحق صغير عن تاريخ المطبخ الشامي. ووضع معجماً عن الموسيقا الشرقية، أُحرق في قصف منزله سنة 1963، وتراجم لعدد من الملحنين الأتراك والعرب، مع دراسة عن تبسيط النوتة الموسيقية وجعلها بمتناول كل الناس.
الأوسمة
في زمن الحرب العالمية الأولى تقلّد البارودي الوسام الحديدي العثماني تلاه وسام النهضة العربية الذي منحه إياه الملك فيصل سنة 1920. جاء بعدها وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة الذي منحهُ الرئيس شكري القوتلي سنة 1945، ثمّ وسام الاستحقاق اللبناني المقدم من الرئيس بشارة الخوري سنة 1949.
تكريم البارودي
أُطِلق اسم فخري البارودي على شارع رئيسي في مدينة دمشق وصدرت عن حياته مؤلفات عدة، كان أبرزها كتاب فخري البارودي لنهال بهجت صدقي الصادر في بيروت 1974. وقد جمعت مديرة دار الوثائق دعد الحكيم أوراق البارودي ورسائله إلى الملوك والرؤساء العرب في كتاب نشرته وزارة الثقافة السورية سنة 1999 وأنتجت فيلماً وثائقياً عن حياته بعنوان البحث عن شيخ الشباب، أخرجه نبيل المالح وغنى فيه صباح فخري نشيد بلاد العرب أوطاني. كما شارك صباح فخري في ندوة عِلمية عن حياة البارودي أقامتها جمعية أصدقاء دمشق في مكتبة الأسد الوطنية في شباط 2008. وفي سنة 2018، أطلقت مؤسسة تاريخ دمشق جائزة فخري البارودي للمؤرخين الشباب “تكريماً لشيخ الشباب.” وكتب رئيس المؤسسة سامي مروان مبيّض واصفاً البارودي بالقول: “كان علامة فارقة في تاريخ سورية المعاصر، تجسدت في شخصيته الفريدة أنبل صفات المواطنة الصالحة والتفاني في خدمة المجتمع والقضية العربية بشكل عام والسورية بشكل خاص.”