الشريف حسين بن عليّ (1853 – 4 حزيران 1931)، شريف مكة وأميرها الهاشمي، من آل البيت، كان قائداً للثورة العربية الكبرى التي انطلقت من الحجاز سنة 1916، ولها يعود الفضل في إنهاء الحكم التركي في بلاد الشّام. أعلن الحسين نفسه خليفة للمسلمين وملكاً على العرب، مؤسساً لمملكة الحجاز الهاشمية التي سقطت على يد سلطان نجد السلطان عبد العزيز آل سعود سنة 1925. باسم الشريف حسين وتحت رايته أُعلن استقلال سورية سنة 1918، وأصبح ولده الأمير فيصل ملكاً على البلاد حتى فرض الانتداب الفرنسي سنة 1920.
البداية
ولِد الشريف حسين بن عليّ في إسطنبول حيث كان والده الشريف عليّ بن محمد وجدّه يقيمان بعد عزلهما عن إمارة مكة. وكانت الأسرة الهاشمية منسوبة إلى رسول الله عبر حفيده الحسن بن علي بن أبي طالب، أما أمّ الشريف حسين فهي من العرق الشركسي. تزوّج حسين من بنت عمّه الشريفة عابدية، التي أنجبت له ثلاثة أولاد: الأمير عليّ والأمير عبد الله والأمير فيصل. وتزوج بعدها من فتاة شركسية أنجبت له ابنة واحدة، وكان الزواج الثالث والأخير من عادلة خانم، حفيدة الصدر الأعظم رشيد باشا، وهي أم أصغر أولاده الأمير زيد بن الحسين.
تلقى علومه الأولية في مدارس إسطنبول، وانتقل بعدها إلى الحجاز مع بقيّة أفراد الأسرة الهاشمية عند تعيين جدّه محمد بن عبد المُعين شريفاً على مكة للمرة الثانية سنة 1856 (وكانت ولايته الأولى عام 1827). توفي الجدّ بعد سنتين، وتناوب الأشراف على المنصب من بعده، وصولاً لعون الرفيق باشا، وهو عمّ الشريف حسين الذي جاء قرار تعيينه أميراً من إسطنبول سنة 1882.
خلافات عائلية
على الرغم من قربه من عمّه، إلا أن الشريف حسين كان شديد الانتقاد لسياسات عون الرفيق، وقد اتهمه بإهمال شؤون الأمن وابتزاز الحجاج في رحلتهم السنوية إلى مكة، إضافة لفرض ضرائب ظالمة على السكان والأهالي. فترت العلاقة بينه وبين عون الرفيق، ورفع الأخير شكوى إلى السلطان عبد الحميد الثاني، مطالباً بنقل ابن أخيه إلى إسطنبول بهدف الإسكات والإبعاد عن مسرح الأحداث في الحجاز. تجاوب السلطان مع مطلب عون الرفيق، وأمر بمجيء الشريف حسين إلى إسطنبول ليكون في ضيافته وتحت مراقبة الأجهزة الأمنية العثمانية. عُيّن عضواً في مجلس شورى الدولة، وبقي مقيماً في إسطنبول طيلة خمس عشرة سنة، لغاية صدور قرار تعيينه أميراً على مكة سنة 1908. وقد علّق نجله الأمير عبد الله في مذكراته على نفي أبيه إلى إسطنبول قائلاً:
لقد كانت إقامتنا في إسطنبول إقامة جبر وإكراه، بالرغم من أنّ السلطان عبد الحميد الثاني، لما مثُل والدي في حضرته يوم وصوله الأستانة قال له إنه إنما استدعاه ليرجو منه أن يخدم الدولة ويخدمه. وعلى الرغم أنه عيّنه عضواً في شورى الدولة وأمر أن تهيأ له دار ساحلية في البوسفور وتفرش، فقد كان في الحقيقة ورغم هذه الاعتبارات أخذ إلى الأستانة نفياً بناء على سياسة الظلم والاعتساف بالحجاز.
ويُضيف الأمير عبد الله: “كانت إسطنبول السجن المحترم أو منفى الإكرام.” توفي عون الرفيق سنة 1905، وبعدها تنافس عدد من الأشراف على إمارة مكة، قبل أن يذهب المنصب إلى الشريف علي باشا، ابن عمّ الشريف حسين. ولكنّ إمارة الأخير لم تدم طويلاً، إذ عُزل بعد الانقلاب الذي وقع في إسطنبول سنة 1908، وكان بقيادة جمعية الاتحاد والترقي. ولّي بعده الشريف عبد الإله باشا أميراً، ولكنه توفي قبل تسلمه المنصب، فذهبت الإمارة إلى الشريف حسين يوم 24 تشرين الثاني 1908.
تنصيبه أميراً على مكة
وصل الشريف حسين بداية إلى جدة وانتقل بعدها إلى مكة في 6 كانون الأول 1908. وفي طريقه إلى الحجاز قادماً من إسطنبول لتولّي مهامه، توقف الشريف حسين في بيروت، حيث أجرت معه جريدة الاتحاد العثماني حواراً صحفياً، أعلن فيه عن رغبته في إحلال الأمن في الحجاز وإجراء إصلاحات كبرى.
تعاون الشريف حسين مع والي الحجاز كاظم باشا، وقاد حملتين عسكريتين لصالح الدولة العثمانية. كانت الأولى سنة 1910 ضد سلطان نجد عبد العزيز آل سعود، الذي كان قد انتزع أرض عتيبة من العثمانيين، والثانية للقضاء على الشيخ محمد الإدريسي، أمير إمارة الأدارسة في منطقة جازان، الذي “شقّ عصا الطاعة” وأعلن انفصال إقليم عسير عن الدولة العثمانية. في كلتا الحملتين، أثبت الشريف حسين ولاءً مطلقاً للدولة العليّا، ولكن علاقته مع قادة جمعية الاتحاد والترقي الحاكمة في إسطنبول بقيت خجولة ومضطربة، بسبب معارضته لسياسة التتريك التي فرضوها على مفاصل الدولة العثمانية كافة، وقمعهم للجمعيات التي كانت تُطالب بتوسيع صلاحيات الولايات العربية، مع تعزيز اللغة العربية فيها.
وعندما حاول قادة الاتحاد والترقي فتح فروع لحزبهم في الحجاز، عارضهم الشريف حسين بشدّة وعدّ ذلك تدخلاً في شؤون إمارته. أرسلت الدولة الفريق فؤاد باشا والياً على الحجاز، بهدف تقليم أظافر الشريف حسين، وفي سنة 1914، عينت الضابط وهيب باشا والياً على الحجاز، وزودته بقوة عسكرية مؤلفة من سبع كتائب مشاة وكتيبة مدفعية، مع تعليمات للحد من صلاحيات الشريف حسين، تمهيداً لعزله.
الصدام مع جمعية الاتحاد والترقي
تعيين وهيب باشا في الحجاز فاقم الخلاف بين الشريف حسين وجمعية الاتحاد والترقي، الذي تطور بسبب معارضته قرار الدولة العثمانية دخول الحرب العالمية الأولى إلى جانب روسيا القيصرية في 5 تشرين الثاني 1914. ثم جاءت محاولة قائد الجيش الرابع في سورية جمال باشا اعتقال نجله الأمير فيصل عند مروره بدمشق في آذار 1916، واحتجازه إلى حين انتهاء الحرب في أوروبا، ضماناً لطاعة الشريف الحسين وصمته.
وكان الأمير فيصل قد سافر إلى دمشق لأجل التوسط مع جمال باشا لإطلاق سراح النواب والمثقفين العرب الذين اعتقلوا بتهمة التخابر مع جهات أجنبية لقلب نظام الحكم العثماني في سورية. غضب الشريف حسين من رفض جمال باشا قبول وساطته، وقيامه بإعدامهم شنقاً في بيروت ودمشق يوم 6 أيار 1916.
بعد إعدامات دمشق، أبرق الشريف حسين إلى ناظر الداخلية أنور باشا قائلاً:
إن خروج الدولة العليا منتصرة من الحرب يتوقف على اشتراك جميع العناصر العثمانية ولا سيما العرب، لأن الجانب الأهم من المعارك سيدور في بلادهم. ويلوح لي أن إرضاء الشعب العربي يتوقف على مداواة قلبه الذي جرحه اتهام عدد كبير من أبنائه بتهم سياسية مختلفة والقبض عليهم ومحاكمتهم أمام المحاكم العسكرية، وسبيل دوائه التالي: إعلان العفو العام عن المتهمين السياسيين – إعطاء سورية ما تطلبه من نظام لا مركزي – جعل إمارة مكة وراثية في أولادي. فإذا قُبلت المطالب أتعهد بحشد القبائل العربية بقيادة أبنائي في ميدان العراق وفلسطين، وإذا لم تقبل، أرجوكم ألّا تنتظروا مني شياً سوى الابتهال للدولة النصر والتوفيق.
مراسلات الحسين – مكماهون
في هذه المدة، تواصلت الحكومة البريطانية مع الشريف حسين عبر معتمدها في مصر السير هنري مكماهون، وعرضت عليه الاعتراف باستقلال العرب مقابل قيام ثورة مسلّحة ضد الدولة العثمانية، تكون بقيادته وتحت إشرافه المباشر. وكان الاتصال الأول بينه وبين الإنكليز قد جرى سنة 1915، عندما التقى الأمير عبد الله في مصر، نيابة عن أبيه، باللورد هربرت كتشنر، القائد الأعلى للجيش البريطاني. قبل الإنكليز أن يكون خليفة المسلمين في دولتهم الجديدة “عربياً عريقاً في عروبته،” في إشارة واضحة لإمكانية تولّي الشريف حسين هذا المنصب الرفيع، خلفاً لسلاطين بني عثمان.
جاءت هذه الإغراءات البريطانية للشريف حسين إثر فشل حملتهم في غاليبولي والانكسارات العسكرية التي تعرضوا لها في العراق، ولا سيما هزيمتهم في الكوت في نيسان 1916. هذا مع جعل الإنكليز يبحثون عن حليف جديد لهم في منطقة الشرق الأوسط، قادر على فتح جبهة جديدة ضد العثمانيين. وصل مجموع المراسلات المتبادلة بين الشريف حسين وهنري مكماهون إلى عشر رسائل خطيّة، كانت الأولى في 14 تموز 1915 والأخيرة في 10 آذار 1916. وافق الشريف حسين على العرض البريطاني، مقابل ضمان عرش وراثي له في الحجاز وحكم دائم لأبنائه في سورية والعراق. وقد بقيت هذه المراسلات سريّة حتى سنة 1923، عند نشر مقتطفات منها في صحيفة الديلي ميل البريطانية، لتُنشر كاملة من قبل الإنكليز سنة 1939، بعد ثماني سنوات من وفاة الشريف حسين.
الثورة العربية الكبرى
من على شرفة قصره في مكة، أعلن الشريف حسين قيام ثورته يوم 10 حزيران 1916. وأطلق رصاصتها الأولى بنفسه باتجاه قلعة أجياد التي كانت مقراً عسكرياً للجيش العثماني في الحجاز، معلناً الجهاد المقدس. ردّ الجيش العثماني بقصف عنيف على قصره، استمر خمسة وعشرين يوماً دون انقطاع، في وقت كان الثوار العرب قد ضربوا حصاراً حول الحامية التركية في جدة، انتهى باستسلامها بعد ثلاثة أيام. وفي 27 حزيران 1916، أصدر الشريف حسين بياناً معللاً فيه سبب الانتفاضة، قال فيه إنها جاءت رداً على سياسات الاتحاد والترقي التعسفية. اتهم الباشوات الثلاثة (أنور باشا وطلعت باشا وجمال باشا)، باغتصاب السلطة في إسطنبول وتجاوز السلطان محمد رشاد الخامس في الأمور المصيرية المتعلقة بمستقبل الدولة، واتهمهم بالاستخفاف بأحكام الدين الإسلامي. حرص الشريف حسين على عدم مهاجمة السلطان محمد رشاد في بيانه، وركز خطابه المدروس على جمعية الاتحاد والترقي.
عزله عن إمارة مكة
ردّ قادة الاتحاد والترقي بعزل الشريف حسين عن إمارة مكة يوم 2 تموز 1916، بعد إدانته بالخيانة العظمى. وقد شنّت الصحف العثمانية هجوماً عنيفاً عليه ووصفته بالعميل البريطاني، وقالت إنه أضاع حرمة الإسلام ومجده بتحالفه مع دولة مسيحية. عُيّن الشريف علي حيدر بديلاً له في مكة، وهو المقرب من جمال باشا، فسارع الشريف حسين إلى عقد مؤتمر للقبائل العربية يوم 31 تشرين الأول، بويع فيه ملكاً على العرب. ولكن سلطان نجد عبد العزيز آل سعود رفض الاعتراف بمُلك الشريف حسين، وعقد مؤتمراً آخر في الكويت يوم 26 تشرين الأول، معرباً عن رفضه القاطع قبول الحسين ملكاً على العرب. ثم جاء اعتراف بريطاني – فرنسي مشترك في 3 كانون الثاني 1917، ليس بمُلكه على العرب كلّهم بل على منطقة الحجاز حصراً. وقد أبرق الشريف حسين إلى السلطان محمد رشاد الخامس، رداً على عزله عن إمارة مكة بالقول:
إن هذه البلاد بإعلان الثورة والاستقلال لا تنكر لأعمال العظيمة والعناية التي خصتها بها البلاد الإسلامية والتي قام بها أسلافكم من عظماء السلاطين، ولكن هذه البلاد ترغب في الجهر بعدائها ضد الاتحاديين المتآمرين الذين حاولوا إلغاء الامتيازات والحقوق التي أعلنها أسلافكم العظماء منذ ستمئة سنة. والله يعلم مدى احترامنا وعظيم تقديرنا لشخصكم وللسلطنة العثمانية.
جيش الشريف حسين
تألف جيش الشريف حسين من ثلاث فرق، كانت الأولى بقيادة ابنه البكر الأمير عليّ، قوامها 13 ألف مقاتل، منهم سوريون وعراقيون منشقون عن الجيش العثماني، وكان مقرهم في مدينة رابغ القريبة من مكة. وجاءت الفرقة الثانية بعشرة آلاف مقاتل، يقودهم الأمير فيصل، معظمهم من قبائل المدينة المنورة، وكان مقرها قرية الخيف في وادي الصفراء، بين المدينة وينبع. أما الفرقة الثالثة فقد كانت بقيادة الأمير عبد الله، مؤلفة من أربعة آلاف مقاتل، مهمتها الرئيسية محاصرة مدينة الطائف واحتلالها. لاحقاً تشكلت فرقة رابعة احتياط بقيادة الأمير زيد، أصغر أبناء الشريف حسين، لمساندة الفرق الثلاث في معاركهم.
بدأت المعارك الحاسمة بهجوم الأمير عليّ على المدينة المنورة، بحذرٍ شديد لكيلا يُصاب المسجد النبوي بأذى. وعمل الأمير عليّ على قطع خطوط سكة الحديد التي كانت القوات العثمانية تستعملها لتموين جيش المدينة، في الوقت نفسه كان الأمير عبد الله يُحكم سيطرته على الطائف بعد استسلام جندها و واليها العثماني. ومن ناحيته، أمر الأمير فيصل بتقدم جيشه على ساحل البحر الأحمر، بمساعدة لوجستية وعسكرية من الكولونيل البريطاني توماس إدوارد لورنس، المعروف بلقب “لورنس العرب.” تمكن لورنس من احتلال منطقة الوجه وتحرير العقبة بمعاونة رجال قبيلة الحويطات. وكان تحرير العقبة نقطة تحوّل في الثورة العربية الكبرى، توجه بعدها الشريف حسين عسكريّاً إلى معان، مركز تجمع القوات العثمانية على خطّ سكة الحديد، وتمكن من احتلال الطفيلة ووادي موسى.
علاقة الشريف حسين بأهالي سورية
ألهبت الثورة العربية الكبرى الشعور القومي لدى السوريين، والتحق بها عدد كبير من المدنيين، مثل فائز الغصين وفخري البارودي والأخوين نسيب وفوزي البكري، والعسكريين أمثال تحسين باشا الفقير وصبحي العمري وسلطان باشا الأطرش. وانضم إليهم الكثير من الأطباء، مثل الدكتور عبد الرحمن الشهبندر والدكتور مرشد خاطر والدكتور أحمد قدري، وساندهم بعض السياسيين الشباب، مثل شكري القوتلي، رئيس فرع الجمعية العربية الفتاة بدمشق. وقد اعتقلت السلطات العثمانية أي شخص سوري له أدنى صلة بالشريف حسين، مثل شكري باشا الأيوبي، مدير الكلية الحربية في دمشق، والنائب السابق فارس الخوري، مع شقيقه الأصغر فائز الخوري.
ولكن موقف السوريين من الثورة لم يكن موحداً، فقد عارضها الكثير من الأعيان، مثل أمير الحج عبد الرحمن باشا اليوسف، وناظر الأوقاف محمد فوزي باشا العظم، وعزت باشا العابد، أمير سرّ السلطان عبد الحميد، المنفي في فرنسا منذ سنة 1908. وعارضها أيضاً لفيف واسع من مشايخ سورية وعدّوها انقلاباً على الشرعية والخلافة الإسلامية، وفي مقدمتهم مفتي دمشق الشيخ أبو الخير عابدين، الذي أفتى بقتل الشريف حسين وأولاده. وقد شملت قائمة المعارضين كلاً من الشيخ عطا الله الكسم والشيخ محمود أبو الشامات من دمشق (شيخ السلطان عبد الحميد الثاني)، والشيخ عبد الرحمن الحوت والشيخ مصطفى الغلاييني من بيروت، والشيخ عبد الرحمن الحجار والشيخ محمد الزرقاء من حلب. وقد جاء في بيان مشايخ بلاد الشّام:
هذا وإنّ ما فعله الشريف حسين أمير مكة السابق من الخروج عن أمير المؤمنين وإمام المسلمين (في إشارة إلى السلطان محمد رشاد الخامس)، مخالف للقرآن العظيم ولسنّة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، كما أن التجاءه للإنكليز ألدّ أعداء الدولة والملّة، ورفعه أعلام ذلك العدو على أرجاء البلد الأمين موجب لسخط الله تعالى ورسوله عليه. هو مخدوع بالمواعيد الكاذبة، والأضاليل الباطلة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وقد أيّد هذا البيان علماء المسلمين في كل من الهند ومصر والمغرب العربي.
تولّي الأمير فيصل الحكم في سورية 1918-1920
استمرت الأعمال القتالية في بلاد الشّام حتى وصول قوات الشريف حسين إلى دمشق في 1 تشرين الأول 1918، فدخلوها محررين بعد هروب آخر جندي عثماني. وفي 3 تشرين الأول، دخل الأمير فيصل المدينة فاتحاً وأعلن عن قيام حكومة عربية فيها تحت راية والده الشريف حسين، سمّيت لاحقاً بالمملكة السورية بعد تتويج فيصل ملكاً على سورية يوم 8 آذار 1920. عدّ الشريف حسين هذا الإعلان بمنزلة تنفيذ لمراسلاته مع هنري مكماهون، ولكن الإنكليز نكثوا بوعدهم ولم يعترفوا بسلطة فيصل الشرعيّة على سورية. ورأوا أن تتويج فيصل كان يتعارض مع اتفاقية سايكس بيكو، المبرمة في زمن الحرب بين الحكومتين البريطانية والفرنسية، والتي أعطت سورية ولبنان إلى فرنسا لإقامة انتداب عليهما. وعندما سافر الأمير فيصل إلى باريس لحضور جلسات مؤتمر الصلح في كانون الثاني 1919، رفضت فرنسا الاعتراف به ممثلاً عن الدولة السورية الوليدة، واستقبلته بصفته ممثلاً عن أبيه.
استمر حكم الملك فيصل في سورية من تشرين الأول 1918 لغاية 24 تموز 1920، يوم انهيار دولته واحتلال دمشق من قبل الجيش الفرنسي، تنفيذاً لاتفاقية سايكس بيكو. غادر الأراضي السورية تحت تهديد السلاح، وأقام في حيفا قبل سفره إلى أوروبا، وكان يريد التوجه إلى سويسرا للاحتجاج أمام عصبة الأمم على الطريقة المهينة التي طُرد بها من سورية. استقبله الملك جورج الخامس في لندن، وتقرر تسليمه عرش العراق بدلاً عن سورية، وقد وصل إلى بغداد سنة 1921 وعاش فيها حتى وفاته عام 1933.
المملكة الهاشمية الحجازية
في 29 تشرين الأول 1916، أي بعد أربعة أشهر من إعلان الثورة العربية الكبرى، قرر الشريف حسين، بمساندة علماء مكة، إنشاء دولة عربية في الحجاز، يكون هو ملكاً عليها حاملاً لقب “ملك العرب.” بعد أربعة أيام، حضر جمع من الأشراف والعلماء والمشايخ إلى مقر الشريف حسين الملاصق للكعبة، وبايعوه ملكاً على مملكة الحجاز، حيث سلّمه مفتي الأحناف الشيخ عبد الله السراج كتاب البيعة، وتبعه الأهالي بالمبايعة. خطب الشريف حسين يومها وقال: “إنني أقسم بالله العظيم أنني لم أرد هذا الأمر الذي تكلفونني به، ولم يخطر على بالي عندما قمت معكم بنهضتنا السعيدة، ولكني رأيت كما رأيتم أننا أمام خطرٍ عظيم وخطب جسيم، ربما قضى علينا القضاء المبرم إذا لم نبادر إلى إزالته.” وهنا تقدم الشاعر اللبناني فؤاد الخطيب وعرّف عن نفسه بأنه ممثل عن سورية، وبايعه الحسين باسم أهلها.
في مراسلات الحسين – مكماهون والاتفاقات الشفهية الناجمة عنها، كان من المفترض أن يكون الأمير عبد الله ملكاً على العراق، ولكن هذا الأمر تعثر بسبب اندلاع ثورة العشرين ضد الإنكليز، فقرر الشريف حسين تأجيل سفره إلى بغداد وعيّنه وزيراً للخارجية في مملكة الحجاز، كما جاء بشقيقه الأمير عليّ رئيساً للوكلاء، ما يعادل رئيس حكومة. أمّا أصغر الأبناء الأمير زيد فقد أُرسل إلى سورية لمساندة أخيه الملك فيصل في السنوات 1919-1920. وقد استمر الأمير عبد الله في منصبه لغاية عام، عند تسلمه الحكم في إمارة شرق الأردن، أميراً ثم ملكاً بعد سنة 1946.
المكون السوري في مملكة الحجاز
نجحت مملكة الشريف حسين في تثبيت قواعد الأمن والأمان في الحجاز بمساعدة الكثير من السوريين الهاربين من بلادهم بعد احتلالها من قبل الفرنسيين. وصلوا إلى الحجاز ووضعوا أنفسهم تحت تصرّف الشريف حسين، وكان هو على معرفة شخصية بمعظمهم منذ أن شاركوه في حمل السلاح في الثورة العربية الكبرى. طلب الحسين إلى الضابط الدمشقي صبحي العمري المساعدة على تدريب جيش مملكته وتأهيله. وجاء الفريق تحسين باشا الفقير من دمشق وزيراً للحربية، وبعارف باشا الإدلبي، وزيراً للبحرية، وعيّن صديق أولاده فوزي باشا البكري في وزارة الداخلية (وهو من قادة الجمعية العربية الفتاة).
خلافة الشريف حسين
ولكن مملكة الحجاز لم تستمر طويلاً، وقد سارع الشريف حسين بسقوطها عندما نصب نفسه خليفة للمسلمين، إضافة للقب “ملك العرب،” بعد أسابيع من إلغاء الخلافة الإسلامية في تركيا في آذار 1924. جاء قراره الجريء إبان تجريد آخر خليفة عثماني، عبد المجيد الثاني من لقبه من قبل الرئيس التركي كمال أتاتورك. كان قرار الشريف حسين بمنزلة الصاعقة على رؤوس الجميع، بمن فيهم الإنكليز الذين عدّوه تطاولاً من قبله وخروجاً عن مشورتهم. كما عارضه كل من ملك مصر فؤاد الأول، الطامع أيضاً بالخلافة، وسلطان نجد عبد العزيز آل سعود. رأى ابن سعود أن في خلافة الحسين تحدياً للمسلمين عموماً وله شخصياً، وأصدر بياناً في 1 حزيران 1924 باسم نجله الأمير فيصل بن عبد العزيز، يدعو العرب للوقوف في وجه مطامع الشريف حسين والنهوض من أجل منع وصايته عليهم. تفاجأ الحسين عندها بتخلي الكثير من السوريين عنه، مثل الشيخ رشيد رضا، آخر رئيس للمؤتمر السوري العام بدمشق نهاية عهد الملك فيصل، الذي كتب في مجلّة المنار وقال إنه لا يصلح أن يكون خليفة على المسلمين وأميراً للمؤمنين نظراً لضعف معرفته بشؤون الفقه الإسلامي.
وعقد عبد الرحمن آل سعود (والد السلطان عبد العزيز) اجتماعاً موسعاً في مدينة الرياض، حضره العلماء والأعيان ورؤساء القبائل، اعترضوا فيه على منع الشريف حسين لهم من المشاركة في مناسك الحج، بسبب تعاونهم مع آل سعود. انتهى الاجتماع ببيان موجه إلى الشريف حسين، جاء فيه: “إن البلاد المقدسة مُلك لكل المسلمين، وما دمنا لم نضع خطة بالاشتراك مع المسلمين، فلا يجوز لكم الاستيلاء على إحدى المدن المقدسة.” حمل البيان توقيع عبد العزيز آل سعود ونُشر في صحيفة الأخبار المصرية يوم 8 آب 1924. وفي 1 أيلول انطلقت الحملة النجدية العسكرية على الحجاز، للإطاحة بالشريف حسين.
تقدمت القوات السعودية بسرعة باتجاه الطائف، وخرج الأمير عليّ من مكة على رأس قوى عسكرية لمواجهتها. تأخر وصوله حتى يوم 4 أيلول، لأن الرشاشات والمدافع كانت محملة على الإبل، ما صعّب سيرها بسرعة، ما أعطى قوات ابن سعود وقتاً كافياً لتشديد الحصار على الطائف، فسقطت المدينة في يدهم يوم 7 أيلول 1924.
احتج الشريف حسين لدى عصبة الأمم، التي كانت دولته قد انضمّت رسمياً إليها، وطلب من قادة العالم الإسلامي مساندته في حربه مع ابن سعود، باسم “الدين والإنسانية والمدنية والعدل.” كما رفع برقيات احتجاج إلى قناصل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، مطالباً بتدخل دولي في الحجاز.
التخلي البريطاني عن الشريف حسين
كان الأمير عليّ قد انسحب من الطائف إلى الهدا، حيث هزمت قواته مجدداً على يدّ قوات ابن سعود. وكانت المعركة الفاصلة في 25-26 أيلول، عندما استولى جيش السلطان عبد العزيز على معسكر الأمير عليّ، فانسحب الأخير إلى جدة. لحقت به كل نساء العائلة وأطفالها، وبقي الشريف حسين مرابطاً في مكة، لاستنهاض حماس أنصاره وأتباعه. حاول ملوك العالم الإسلامي التوسط بين الشريف حسين وابن سعود، ولكن بريطانيا اتخذت قراراً بالوقوف على الحياد في المعارك الحجازية، ورفضت تقديم أي دعم عسكري للشريف حسين، واكتفت بإرسال باخرة حربية إلى ميناء جدة لحماية رعاياها ومصالحها. وكانت الحكومة البريطانية قد فقدت ثقتها بالحسين ولم تُمانع خلعه عن العرش، بسبب تفرده بالرأي وإعلان خلافته على المسلمين، وكان لهذا دور رئيسي في تشجيع عبد العزيز على التقدم باتجاه مكة للانقضاض على الشريف حسين بشكل كامل ونهائي.
تنحي الشريف حسين
اجتمع أعيان الحجاز وقالوا إن الوسيلة الوحيدة لجعل عبد العزيز يوقف حملته العسكرية هو تنازل الشريف حسين عن العرش. طلبوا إليه إرسال الأمير عليّ للتباحث معهم، فوصل الأخير إلى جدة في 3 تشرين الأول 1924 وتسلّم قرارهم بعزل والده ومبايعته ملكاً “حقناً للدماء” ومنعناً للفوضى والدمار في الديار الحجازية. وافق الشريف حسين على هذا القرار مرغماً، ولكنه رفض تعيين ابنه قائلاً “أنا وابني واحد،” واقترح أن يذهب العرش للشريف عليّ بن عبد الله بن عبد المُعين، أمير مكة السابق، أو إلى شقيقه الشريف ناصر بن عليّ. ولكن كل هذه الأسماء رُفضت من قبل أعيان الحجاز، فما كان أمام الشريف حسين إلا الخضوع لمشيئتهم والتنحي يوم 3 تشرين الأول 1924. وقد جاء تنازله عن العرش وعن الخلافة الإسلامية معاً.
نُصّب الأمير عليّ ملكاً يوم 4 تشرين الأول 1924، وتقرر أن يكون عاهلاً دستورياً على الحجاز فقط، وليس على العرب أجمعين، خاضعاً للمساءلة والمحاسبة أمام مجلس نواب مُنتخب. وفي يوم الخميس، 9 تشرين الأول 1924، غادر الشريف حسين مكة متجهاً إلى جدة، وهنا بدأ النقاش حول مستقبله السياسي. عبد العزيز آل سعود رفض بقاءه في الحجاز، وطالب باعتزاله العمل السياسي ونفيه خارج البلاد، إمّا إلى إمارة شرق الأردن أو إلى العراق، ليكون ضيفاً عند أحد أبنائه. وقد اقترح نفيه إمّا إلى سويسرا أو إلى مصر، ولكن الملك فؤاد رفض تقديم اللجوء السياسي للشريف حسين، خوفاً من اعتراض الحكومة البريطانية.
في 15 تشرين الأول غادر الشريف حسين جدّة متجهاً إلى العقبة، وكان في وداعه أحمد السقاف، رئيس ديوانه السابق، وناظر الجمارك الشيخ محمد الطويل. أبدت الدول العظمى ارتياحها لتسلم الملك عليّ مقاليد الحكم في الحجاز، ولكن عبد العزيز بقي صامتاً ولم يدلِ بأي موقف تجاه حاكم مكة الجديد. ثم فاجأ الجميع وأمر قواته بالزحف نحو مكة، لخلع الملك عليّ عن العرش وإلحاقه بأبيه. لم تكن القوة الحجازية المنهكة قادرة على الدفاع عن مكة وانهارت بسرعة أمام تقدم قوات ابن سعود. انسحب الملك عليّ إلى جدة، ودخلت القوات السعودية مكة دون قتال صباح يوم يوم 13 تشرين الأول 1924.
عرض الملك عليّ التفاوض مع ابن سعود وقبول كل شروطه، ولكن الأخير رفض قائلاً: “لا يمكن أن يعم السلام ما دام الحسين وأولاده حكّام الحجاز.” بالتشاور مع أبيه المقيم الآن في العقبة، أصدر الملك عليّ بياناً إلى أهالي مكة في نهاية العام 1924، معتذراً عن سقوط عاصمته، وطلب إليهم الصبر والثبات. ولكن ابن سعود نفسه وصل إلى مكة في 4 كانون الأول، وبعدها بأيام قليلة، فرض على الملك عليّ التنازل عن العرش بشكل نهائي. غادر الملك المخلوع بلاده كما فعل والده من قبله، وتوجه إلى بغداد للعيش مع أخيه الملك فيصل، ونودي بعبد العزيز ملكاً في 8 كانون الثاني 1926، ما أنهى وجود مملكة الحجاز بعد عشر سنوات من إعلانها، لتحلّ مكانها مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها، التي باتت تعرف بعد حين باسم المملكة العربية السعودية.
المنفى الأخير
عرض الأمير عبد الله اللجوء السياسي على أبيه، وقال إنه سيكون ضيفاً عزيزاً على إمارة شرق الأردن، ولكن رئيس الحكومة رضا باشا الركابي رفض ذلك، قائلاً إن ذلك يهدد أمن الإمارة وقد يؤثر سلباً في علاقتها بالحكومة البريطانية. تفاجأ الشريف حسين من موقف الركابي، وهو الذي كان قد حارب معه في الثورة العربية وتولى رئاسة الحكومة في سورية أيام حكم الملك فيصل. ولكن نصيحة الرئيس الركابي كانت في مكانها، فقد احتجت حكومة بريطانيا على عرض الأمير عبد الله استضافة الشريف حسين في عمّان، وبناء عليه أخرج الحسين من العقبة بموجب إنذار من الحكومة البريطانية يوم 28 أيار 1925. قالوا إن الملك عبد العزيز ينوي مهاجمة شرق الأردن في حال بقاء الحسين على أراضيها، وطلبوا إليه الرحيل خلال ثلاثة أسابيع. فتوجه الشريف حسين إلى جزيرة قبرص، بعد فشل محاولاته الإقامة في يافا أو حيفا. غادر العقبة يوم 18 حزيران 1925 مع زوجته الثالثة عادلة وبناته فاطمة وسرّة، ومعهم الضابط العراقي اللواء جميل الراوي. وصل الحسين قبرص يوم 22 حزيران، والتحق به نجله الأمير زيد وحفيده الأمير طلال، الذي أرسله الأمير عبد الله ليقوم على خدمة جدّه.
وفاة الشريف حسين
أقام الحسين بداية في فندق بمدينة نيقوسيا، قبل الانتقال إلى ليماسول. كان الأمير عبد الله والملك فيصل يزورونه بشكل مستمر ويلبون له كل حاجاته، وبقي الحسين في قبرص حتى سنة 1931، عندما اشتد عليه المرض فنُقل إلى عمّان، ليقضي أيامه الأخيرة برفقة أولاده وأحفاده. توفي الشريف حسين في الأردن يوم 4 حزيران 1931، ودُفن في القدس خارج ساحة المسجد الأقصى، حيث كُتب على قبره: “هذا قبر أمير المؤمنين الحسين بن عليّ.”
سار موكب الجنازة من عمّان إلى القدس، يتقدمه الملوك عليّ وعبد الله وفيصل، بمشاركة حوالي 30 ألف شخص، كان من ضمنهم ثلاثة مندوبين عن الحركة الوطنية في سورية، وهم نواب دمشق فخري البارودي وعفيف الصلح ولطفي الحفار. وفي دمشق نُكست الأعلام وأعلن الحداد العام بأمر من رئيس الحكومة الشيخ تاج الدين الحسني.
الشريف حسين على شاشة التلفزيون
في الذكرى المئوية للثورة العربية الكبرى سنة 2016، أُنتج فيلم وثائقي عن تاريخها، لعب فيه الممثل الأردني حابس حسين دور الشريف حسين بن عليّ.