العدوان الفرنسي الأول على مدينة دمشق، هو عمل عسكري وقع في زمن الثورة السورية الكبرى 18-20 تشرين الأول 1925. أدى القصف إلى تدمير أحياء سكنية مثل سيدي عامود ومنطقة الجزماتية في الميدان، وأحراق جزء من سوق الحميدية وتدمير أجزاء كبيرة من سوق البزروية، ومن ضمنها قصر العظم الشهير الذي اعتصم به الثوار.
كان عدوان عام 1925 هو الأول منذ فرض الانتداب الفرنسي على سورية قبل خمس سنوات، وجاء العدوان الثاني في نهاية الحرب العالمية الثانية يوم 29 أيار 1945. خلّف العدوان الأول مئات القتلى والجرحى، وكان له تأثير بالغ الأهمية على مجريات الثورة السورية الكبرى. كتب عنه قصائد وأشعار، كان أشهرها قصيدة نكبة دمشق لأمير الشعراء أحمد شوقي.
البداية
بقيادة سلطان باشا الأطرش، انطلقت الثورة السورية الكبرى من جبل الدروز في صيف العام 1925 وانضم إليها الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، أحد زعماء مدينة دمشق. انتقل القتال سريعاً من قرى الدروز إلى غوطة دمشق، ودعا الشهبندر إلى اجتماع من منزل الحاج عثمان الشرباتي في حارة المقدم بمنطقة الصالحية، حضره حسن الحكيم وجميل مردم بك وفارس الخوري. قرروا يومها نقل الثورة من الغوطة إلى وسط دمشق، واقتحام المدينة في صباح يوم 18 تشرين الأول 1925، بهدف اعتقال أو تصفية المندوب السامي الفرنسي موريس ساراي، الذي كان من المفترض أن يزور دمشق يومها قادماً من بيروت. تألفت مجموعات مسلّحة للقيام بهذه المهمة في كل أحياء دمشق، تولّى تدريبها وتسليحها الشيخ محمد الأشمر، أحد أعيان منطقة الميدان.
قبل حلول موعد المعركة شهدت دمشق يوم 14 تشرين الأول مرور موكب كبير لشهداء الغوطة، بعضهم موثق اليدين مما يدل على أنهم أعدموا، وخلفهم عربة محملّة بالجثث ومن بينها يد صغيرة تدل على أن صاحبها طفل لا يتجاوز العاشرة من عمره. عرضت الجثث في ساحة المرجة لإرهاب الأهالي وفي نفس اليوم، قصفت فرنسا قريتي جسرين والمليحة في الغوطة، ونهب الجنود السنغال ممتلكاتها، ثم قاموا بضرب قرية جرمانا، ما ضاعف من غليان دمشق وغضب أهلها.
معركة دمشق
في الساعة المحددة لهم من عبد الرحمن الشهبندر دخل الثوار مدينة دمشق من جهة الشاغور صباح يوم الأحد 18 تشرين الأول وكان عددهم نحو أربعمائة خيّال، يتقدمهم حسن الخراط، أحد حراس بساتين الشاغور. ودخلت مجموعة ثانية من المجاهدين، بقيادة رمضان باشا شلاش، وتوجهت إلى سوق البزورية لملاقاة الخراط وفرسانه عند مدخل قصر العظم. اشتبكوا مع الحامية الفرنسية على أبوابه، ظنّاً أن الجنرال ساراي موجود في داخل القصر. وبعد معركة دامية تمكنوا من دخول القصر، مع استمرار إطلاق النار عليهم من خارجه ما أدى اشتعال النار في أرجائه، ليكتشفوا سريعاً أنهم وقعوا بكمين وأن ساراي لم يكن موجوداً في قصر العظم.
أغلقت كل مخارج القصر ومداخله، مع كل مداخل سوق البزورية، وفي الساعة الرابعة من عصر يوم 18 تشرين الأول، بدأت المدافع الفرنسية بقصف المدينة، بأمر من الجنرال ساراي.
توجهت سيارات عسكرية مصفحة باتجاه سوق مدحت باشا وبدأت بإطلاق النار على أبواب المتاجر والمستودعات، قبل أن يدخلها الجنود السنغال لنهبها. أحرقوا معظم المتاجر المحيط بقصر العظم، وتطاير سقف سوق الحميدية وانهار على أصحابها. وعند الانتهاء من تدمير الأسواق، صُوّبت نيران المدفعية باتجاه حيّ الجزماتية في منطقة الميدان، الذي أحرق ونُهب بأكمله، ومنع السنغال سيارات الإطفاء من الوصول إليه لكي تشتد النيران في داخله.
في كتابة سياسة دمشق: وجهاء المدن والانتداب الفرنسي يصف المؤرخ السوري سامي مروان مبيّض المشهد قائلاً: “كانت سماء دمشق تمطر بالزجاج المكسور فوق البضائع المدمرة وبقايا جثث الموتى. في باب الجابية والشاغور، دمّر أكثر من 150 منزلاً، من بينهم الدار الذي ولِد فيه الرئيس شكري القوتلي.” ويضيف مبيّض في كتابه أن عدد ضحايا القصف بلغ 1416 مواطناً سورياً، جميعهم من المدنيين العزّل، إضافة إلى 336 شخص هجّروا من منازلهم. وخلّف القصف أضراراً جسيمة في عدد من المصالح الأجنبية وطال العديد من الشركات الأميركية، منها وكالة سنغر.
احتجت الحكومة الأمريكية عبر قنصلها العام في سورية بول نابنشو الذي رفع كتاباً إلى وزارة الخارجية الأمريكية جاء فيه: “لقد أحدثت فرنسا، من خلال سوء إدارتها، ثورة في البلاد تسببت في تدمير معالم المدينة القديمة، وعرّض للخطر حياة وممتلكات ومصالح الأجانب.” وكتبت جريدة نيويورك تايمز: “يتحمل الجنرال ساراي مسؤولية ما حدث في دمشق” طالب القنصل الأمريكي من حكومته إرسال مدمرتين حربيتين إلى شواطئ بيروت للضغط على الحكومة الفرنسية لوقف العدوان، أملاً أن ينجح ذلك في ردع الجنرال ساراي.
جمع التبرعات
شكّلت لجنة عليا من الأعيان لإغاثة المدينة وأهلها، ترأسها الشيخ بدر الدين الحسني، وتوجه وفد من تجار دمشق برئاسة لطفي الحفار إلى بيروت لمقابلة الجنرال ساراي وطلب إليه وقف فوري لإطلاق النار. أمّا خارج البلاد فقد تولّى شكري القوتلي المنفي يومها في مصر مهمة جمع التبرعات لعائلات مدينته المنكوبة، بمساعدة الصحفي الفلسطيني محمد علي الطاهر والداعية السوري محبّ الدين الخطيب والزعيم التونسي عبد العزيز الثعالبي. تواصلوا مع مفتي القدس الحاج أمين الحسيني، الذي جمع 13 ألف جنيه إسترليني لأجل سورية، ثم توجه القوتلي إلى الزعيم المصري سعد باشا زغلول، الذي قدم 100 جنيه إسترليني من ماله دعماً للثورة السورية الكبرى وطلب من الزعماء العرب المبادرة بالمثل. وكتب الشاعر المصري الكبير أحمد شوقي قصيدته الشهيرة ردّاً على القصف الفرنسي:
سلامٌ من صَبا بردى أرَقُ ودَمعٌ لا يُكفكفُ يا دِمشقُ
دَمُ الثُوّارِ تعرِفُةُ فرنسا وَتَعلَم أنّهُ نورٌ وحَقُ
وللحُرّيّة الحَمراءِ بابٌ بكُلّ يدٍ مُضرّجةٍ يدقُ
جزاكُم ذو الجلالِ بني دمشقٍ وعزُّ الشرقِ أوّلهُ دِمشقُ
ردود أفعال دولية
أثارت أحداث دمشق موجة من الاستنكار الدولي، كتب الصحافة الأوروبية عن موريس ساراي ووصفته بالمجرم الذي “قتل سورية” خرجت مظاهرات كبيرة أمام داره في باريس، رفع فيها الفرنسيون لافتات كُتب عليها باللون الأحمر “قاتل” ما عجّل من قرار إعفائه من منصبة ونقله في كانون الأول 1925. وتزامنت إقالته مع استقالة رئيس الدولة السورية صبحي بركات في 21 كانون الأول 1925، احتجاجاً على الوحشيّة الفرنسيّة.