سياسيون ورجال دولةعسكريون

أديب الشيشكلي

رئيس الجمهورية السورية (تموز 1953 - شباط 1954)

الرئيس أديب الشيشكلي

أديب بن حسن الشيشكلي (1909 – 27 أيلول 1964)، ضابط سوري من حماة وقائد انقلابين في مطلع عهد الاستقلال: الأول في كانون الأول 1949 والثاني في تشرين الثاني 1951. بعد نجاح انقلابه الثاني، حكم سورية من خلال اللواء فوزي سلو، الذي قام بتنصيبه رئيساً للدولة، قبل أن يطلب إليه الاستقالة ويخلفه بالرئاسة من 11 تموز 1953 حتى وقوع الانقلاب العسكري الذي أطاح به في 25 شباط 1954. يُعد الشيشكلي أحد أبرز الآباء المؤسسين للجيش السوري، وقد خاض حرب فلسطين عام 1948، متطوعاً في جيش الإنقاذ، وشارك في انقلاب حسني الزعيم على الرئيس شكري القوتلي في 29 آذار 1949، ثم في انقلاب سامي الحناوي على حسني الزعيم في 14 آب 1949.

شهد عهده الرئاسي تقارباً مع مصر عقب انقلاب الضباط الأحرار عام 1952، ومع السعودية بعد تولي الملك سعود العرش عند وفاة والده عام 1953. أسس لنهضة اقتصادية في سورية، ووضع قانون تأسيس مصرف سورية المركزي عام 1953، وأسس معرض دمشق الدولي عام 1954، إلا أنه خرج من الحكم قبل أن يرى كلا المشروعين النور. داخلياً، ألغى جميع الأحزاب العاملة في البلاد وحصر النشاط السياسي بحركة التحرير العربي التي أسسها عام 1952. انطلقت معارضة منظمة ضده من حمص، بقيادة الرئيس الأسبق هاشم الأتاسي، ومن جبل الدروز بقيادة سلطان الأطرش، ما أرغم الشيشكلي على قصف السويداء، قبل أن ينقلب ضده مجموعة من الضباط، ما أرغمه على الاستقالة في 25 شباط 1954.

عاش سنوات في المنفى، وحاول العودة إلى الحكم بانقلاب عسكري ممول من العراق عام 1956، لكنه انسحب منه باكراً وحُكم عليه بالإعدام غيابياً في سورية. بعد عشر سنوات من مغادرته الحكم، اغتيل أديب الشيشكلي في البرازيل على يد المواطن الدرزي نواف غزالة عام 1964، انتقاماً لقصفه جبل الدروز عام 1953.

البداية

وُلد أديب الشيشكلي في حماة، وهو سليل عائلة كبيرة من الملاكين والآغوات. درس في المدرسة الزراعية بمدينة السلمية وفي كلية حمص الحربية، وعند تخرجه، التحق بجيش الشرق التابع لسلطة الانتداب الفرنسي في سورية. عُرِف بنزعته القومية وشدّة معارضته للفرنسيين، ما أثّر في ترفيعه وتسبّب في تعيينه في مناطق نائية في ريف الرقة أولاً، ثم في مدينة البوكمال.

الشيشكلي ضابطاً في جيش الشرق.
الشيشكلي ضابطاً في جيش الشرق.

الانشقاق عن جيش الشرق

ساند ثورة رشيد علي الكيلاني ضد البريطانيين في العراق عام 1941، وعند قصف دمشق من قبل الفرنسيين في 29 أيار 1945، انشقّ الشيشكلي عن جيش الشرق واحتلّ قلعة حماة بالتعاون مع شقيقه صلاح وصديقه أكرم الحوراني. كانت نيتهم الزحف نحو دمشق لتحريرها من الفرنسيين، لولا تدخل الجيش البريطاني لمنعهم. حكمت عليه فرنسا بالإعدام، وبقي متوارياً عن الأنظار مدة، قبل صدور عفو عنه وعن بقية الضباط المنشقين عند تأسيس الجيش السوري في 1 آب 1945. والجدير بالذكر أن الشيشكلي في هذه المرحلة من حياته كان شديد التأثر بفكر الحزب السوري القومي الاجتماعي ومؤسسه أنطون سعادة، وقد انضمّ إلى هذا الحزب وظلّ يعمل في صفوفه حتى وصوله إلى رئاسة الجمهورية عام 1953.

جيش الإنقاذ (1947)

شارك الشيشكلي في الاستعراض العسكري الذي أقيم بدمشق يوم عيد الجلاء الأول في 17 نيسان 1946، وفي 1 كانون الأول 1947 تطوع في جيش الإنقاذ للقتال في فلسطين. عُيّن قائداً لفوج اليرموك الثاني وخدم في شرقي الجليل الأعلى، حيث حققت قواته انتصارات ميدانية كبيرة أدت إلى منحه أرفع الأوسمة الحربية من قبل رئيس الجمهورية شكري القوتلي. كانت مرحلة حرب فلسطين حاسمة في مسيرة أديب الشيشكلي العسكرية، فبعد المشاركة الطوعية في جيش الإنقاذ، عُيّن ضابطاً في القوات النظامية التي دخلت فلسطين بعد ساعات من إعلان ديفيد بن غوريون قيام دولة إسرائيل يوم 14 أيار 1948. تعرّف يومها على قائد الجيش حسني الزعيم وتوطدت صداقة متينة بينهما، وجمعهما هدف مشترك بالتخلص من الطبقة السياسية الحاكمة، الممثلة بالرئيس القوتلي، وتحميلها مسؤولية الهزائم المتتالية في فلسطين.

الشيشكلي في حرب فلسطين سنة 1948.
الشيشكلي في حرب فلسطين سنة 1948.

وقّع الشيشكلي على عريضة خاصة بضباط الجيش، نظمها الزعيم لرفعها إلى رئيس الجمهورية، يشكون فيها من التهجم المتكرر عليهم من فيصل العسلي، نائب الزبداني في البرلمان السوري. اتهمهم العسلي بالتخاذل في الميدان وطالب بمحاكمتهم، فرد الشيشكلي ورفاقه مطالبين بإحالة العسلي إلى القضاء بتهمة إثارة الفتن والإساءة إلى المؤسسة العسكرية. وعندما لم يستجب القوتلي إلى مطالبهم، قرر حسني الزعيم ورفاقه القيام بانقلاب عسكري ضد رئيس الجمهورية.

تسليم أنطون سعادة (1949)

شارك المقدم أديب الشيشكلي في انقلاب حسني الزعيم وتولى قيادة فوج مشاة ومدرعات نحو مدينة دمشق، تم سحبه من الجبهة السورية – الإسرائيلية ليلة 29 آذار 1949. بعد نجاح الانقلاب واعتقال القوتلي، فرض الزعيم نفسه حاكماً عسكرياً على سورية ثم رئيساً للجمهورية في 26 تموز 1949، وقد بقي الشيشكلي وفيّاً له حتى تسليم أنطون سعادة إلى السلطات اللبنانية، ليُعدم في 8 تموز 1949. كان سعادة قد جاء إلى دمشق بوساطة من الشيشكلي، وحصل على لجوء سياسي من الزعيم، الذي وعد بألا يسلمه إلى لبنان مهما كانت الظروف ومهما بلغت الضغوط. وعد الشيشكلي بمساعدة سعادة على إطلاق ثورة في لبنان، تُطيح برئيس الجمهورية بشارة الخوري ورئيس وزرائه رياض الصلح، ولكنّ خيانة الزعيم لسعادة أنهت هذه المخططات. غضب الشيشكلي كثيراً من حادثة تسليم سعادة، وعندما كثرت انتقاداته للزعيم، أمر الأخير بتسريحه من الجيش في 1 آب 1949.

الانقلاب الثاني: 14 آب 1949

انضم الشيشكلي إلى صفوف الضباط المعارضين للزعيم، وفي 14 آب 1949 شارك في الانقلاب العسكري الذي أطاح به وأودى بحياته. بعد إعدام الزعيم، أخذ الشيشكلي قميصه الملطخ بالدم وقدمه إلى جوليت المير، أرملة أنطون سعادة الموجودة يومها في دير سيدة صيدنايا، قائلاً لها: “إليك الدليل على انتقامنا من الغادر، لقد غسلنا الدم بالدم.”

تولّى مهندس الانقلاب اللواء سامي الحناوي رئاسة أركان الجيش وأعاد الشيشكلي إلى الخدمة العسكرية، مع تعيينه قائداً للواء الأول في بلدة قطنا القريبة من دمشق. من موقعه الجديد، أخذ الشيشكلي يعارض التقارب بين سورية والعراق الذي أطلقه الحناوي بدعم من حزب الشعب، المسيطر على السلطة التشريعية، وسعيهم لتوحيد البلدين تحت العرش الهاشمي.

أديب الشيشكلي جالساً أمام اللواء سامي الحناوي بعد انقلاب 14 آب 1949.
أديب الشيشكلي جالساً أمام اللواء سامي الحناوي بعد انقلاب 14 آب 1949.

كان ينظر إلى الأسرة الهاشمية الحاكمة في بغداد على أنها أداة في يد بريطانيا، ويرى أنها تريد نسف نظام سورية الجمهوري والإتيان بنظام حكم ملكي، وقد نُقل عنه قوله: “ستزول الجمهورية على جثتي.” ومع اقتراب التوقيع على ميثاق الوحدة السورية – العراقية، قام الشيشكلي بانقلاب عسكري يوم 19 كانون الأول 1949 – الثالث بعد انقلاب الزعيم في العام نفسه – وأمر باعتقال سامي الحناوي. هدف الانقلاب إلى حرمان رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي وقادة حزب الشعب من الدعم العسكري الذي كان يوفره لهم الحناوي، وذلك لقطع الطريق على إقامة الوحدة مع العراق. سُرّح الحناوي من الجيش بتهمة “التآمر على نظام سورية الجمهوري،”  كما جاء في البلاغ العسكري رقم واحد الذي أُذيع باسم أديب الشيشكلي عبر إذاعة دمشق:

ثبت لدى الجيش أن رئيس الأركان العامة اللواء سامي الحناوي وعديله السيد أسعد طلس، وبعض ممتهني السياسة في البلاد، يتآمرون على سلامة الجيش وسلامة البلاد ونظامها الجمهوري مع بعض الجهات الأجنبية. وكان الجيش يعلم هذا الأمر منذ البداية، وقد حاول ضباطه بشتى الطرق، بالامتناع تارة وبالتهديد تارة أخرى، أن يحولوا دون إتمام المؤامرة وأن يقنعوا المتآمرين بالرجوع عن غايتهم فلم يفلحوا. فاضطر الجيش حرصاً على سلامة البلاد وسلامته، وحفاظاً على النظام الجمهوري، أن يقصي هؤلاء المتآمرين. وليس للجيش أي غاية أخرى، وهو يترك البلاد في يدي رجالها الشرعيين، ولا يتدخل إطلاقاً في القضايا السياسية، اللهم إلا إذا كانت سلامة البلاد وكيانها يستدعيان ذلك.

أعلن الشيشكلي أن انقلابه لا يستهدف السلطة المدنية المنتخبة والممثلة برئيس الجمهورية، بل إنه مجرد “حركة جراحية” داخل الجيش، هدفها القضاء على سامي الحناوي. جاء باللواء أنور بنود إلى رئاسة الأركان، واكتفى بأن يكون نائباً له، مشترطاً على الطبقة السياسية تعيين صديقه الوفي فوزي سلو في وزارة الدفاع، مع حق الاعتراض على أي طرح لاستعادة مفاوضات الوحدة مع العراق قد يتقدم به وزراء حزب الشعب. تفادياً لأي صدام مع المؤسسة العسكرية، قبِل الرئيس هاشم الأتاسي بهذا الشرط وحاول التعايش مع أديب الشيشكلي ابتداءً من شهر حزيران 1950، عند تعيين فوزي سلو وزيراً للدفاع في حكومة الدكتور ناظم القدسي.

اغتيال العقيد محمد ناصر

بعدها بأسابيع، اغتيل العقيد محمد ناصر، قائد القوى الجوية، يوم 31 تموز 1950. كان العقيد ناصر عضواً في مجلس العقداء الذي أجمع على الإطاحة بسامي الحناوي، ومن ألمع ضباط الجيش وأكثرهم جرأة ونفوذاً. وصل إلى المستشفى العسكري حيّاً، وقبل مفارقة الحياة أدخل أصبعه في فمه، حيث كان الدم يسيل منه بغزارة، وكتب اسم شخصين بدمه، كليهما من أعوان الشيشكلي. قال إنهما من أطلق عليه النار، وأثارت هذه القصة عاصفة من الشائعات، ورأى مراقبون أن الشيشكلي أمر بتصفية محمد ناصر للحد من شعبيته داخل الجيش، باعتباره رفض المشاركة في انقلاب الشيشكلي وجاهر في انتقاده له. ولكن المحكمة العسكرية التي شُكلت لأجل جريمة مقتل محمد ناصر قررت تبرئة أعوان الشيشكلي، وهما عبد الغني قنوت وإبراهيم الحسيني، لعدم توفر أدلة كافية ضدهم.

محاولة اغتيال الشيشكلي

وفي 12 تشرين الأول 1950، تعرّض الشيشكلي لمحاولة اغتيال، وقف خلفها تنظيم سري حمل اسم “كتائب الفداء العربي.” ضمت الكتائب مواطناً مصرياً مداناً باغتيال أمين عثمان، أحد وزراء الملك فاروق، وقد اشترك معه في محاولة اغتيال الشيشكلي كل من جهاد ضاحي وهاني الهندي، إضافة إلى الدكتور جورج حبش من حركة القوميين العرب. تبين في التحقيق أنهم حاولوا اغتيال مراسل جريدة التايمز في سورية، وزرعوا القنابل في مدارس يهودية وفي مقر المفوضية الأمريكية. أُحيلوا إلى المحاكمة وكان من المفترض إعدامهم لولا تدخل مفاجئ من الشيشكلي، الذي زار المواطن المصري حسين توفيق في سجنه وتحدث معه مطولاً قبل أن يأمر بإطلاق سراحه والعفو عنه وعن رفاقه.

انقلاب الشيشكلي الثاني: 29 تشرين الثاني 1951

لم تؤثر حادثة اغتيال محمد ناصر على مسيرة أديب الشيشكلي، وظلّ يحكم من خلف ستار فوزي سلو حتى 28 تشرين الثاني 1951، يوم شكّل معروف الدواليبي حكومته ورفض إسناد حقيبة الدفاع للواء سلو. طلب الشيشكلي من الدواليبي العدول عن موقفه، وعندما لم يستجب، أمر باعتقاله في 29 تشرين الثاني 1951، واعتقل معه معظم وزراء حزب الشعب. احتجاجاً على الانقلاب، استقال الرئيس هاشم الأتاسي من منصبه في 3 كانون الأول 1951، فأصدر الشيشكلي قراراً بحل مجلس النواب وتسمية فوزي سلو رئيساً للدولة والحكومة. عطّل الدستور وفرضت الأحكام العرفية، وفي 6 نيسان 1952، صدر أمر بحل جميع الأحزاب السياسية. وحده الحزب السوري القومي الاجتماعي استُثني من هذا القرار، بسبب علاقة الشيشكلي به، وعُيّن أمينه العام عصام المحايري مستشاراً له في بعض الأمور السياسية.

العقيد أديب الشيشكلي مع اللواء فوزي سلو.
العقيد أديب الشيشكلي مع اللواء فوزي سلو.

السياسة الداخلية

كانت مرحلة الشيشكلي هي الأكثر صرامة وانضباطاً منذ استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، وكان دائم القول إن الدول “مثل الجيوش الحديثة… لا تُحكم إلا بالانضباط والقوانين الصارمة.” شهد عهده منع المشايخ والأئمة من الإفتاء وإلقاء خطب الجمعة في المساجد إلا بعد حصولهم على إذن مسبق من الدولة، كما وُضعت قوانين صارمة لمن يرغب بزيارة سورية بقصد السياحة أو العمل، منعاً لمجيء أصحاب السوابق الجنائية والمتسولين وبائعات الهوى من أوروبا الشرقية. أُلغيت تأشيرة الدخول المجانية (الفيزا) التي كانت تُعطى للزائرين العرب في السابق، وجاء في قرارات الشيشكلي أن على أي زائر إبراز شهادة مصرفية ودليل ملاءة مادية. كما مُنعت المؤسسات التعليمية الخاصة من تلقي المعونات المادية من الخارج، وطُبّق هذا الأمر على المدارس الأجنبية كافة وعلى الجامعة السورية.

السياسة الإقليمية

الرئيس الشيشكلي مع الرئيس محمد نجيب سنة 1952.
الرئيس الشيشكلي مع الرئيس محمد نجيب سنة 1952.

اعترفت جميع الدول العربية بانقلاب الشيشكلي، وجاء اعتراف الولايات المتحدة وبريطانيا في 17 كانون الأول 1952، بعد قرابة أسبوعين من استقالة هاشم الأتاسي. قاد الشيشكلي انفتاحاً على جميع دول الجوار إلا العراق، وفُتحت أول سفارة أردنية بدمشق في عهده بعد زيارة رسمية قام بها إلى عمّان للقاء الملك طلال في 19 آذار 1952. جاء هذا التقارب بعد اغتيال الملك عبد الله الأول في القدس سنة 1951، الذي كان الشيشكلي يتهمه بالعمالة للغرب ويحمّله وزر هزيمة الجيوش العربية في فلسطين. وفي 8 نيسان 1952 زار الشيشكلي الرياض والتقى بالملك عبد العزيز آل سعود، ثم انتقل إلى القاهرة لتهنئة الضباط الأحرار على انقلابهم على الملك فاروق. اجتمع مطولاً بالرئيس محمد نجيب ووزير الداخلية جمال عبد الناصر، الذي كان قد سمع به منذ مشاركته في معركة الفالوجة عام 1948.

السياسة الاقتصادية

اقتصادياً، اتبع الشيشكلي سياسة ليبرالية وطلب من مؤسسات الدولة السورية عدم التدخل في الحياة الصناعية والتجارية، قائلاً إن دورها يجب أن يقتصر على جباية الضرائب وسن القوانين النافذة. وصل عدد الشركات المساهمة في عهد الشيشكلي إلى سبع وثلاثين شركة، مجموع رأس مالها سبعين مليون ليرة سورية، جميعها مستقلة استقلالاً تاماً عن الدولة. ألغى الشيشكلي امتياز “مصرف سورية ولبنان” القائم منذ زمن الانتداب الفرنسي، والذي كان يُصدر النقد السوري ويُعدّ العميل الحكومي الوحيد بموجب امتياز أُعطي له منذ سنة 1924. في 28 آذار 1953، أصدر المرسوم 87 بتأسيس مصرف سورية المركزي، وفي أثناء تصفية أعمال “مصرف سورية ولبنان” شُكّلت مؤسسة حكومية لإصدار النقد، نُقلت إليها كل ودائع الخزينة السورية. أنشأ الشيشكلي فريقاً اقتصادياً مؤلفاً من وزير الاقتصاد منير دياب وحاكم المصرف المركزي الدكتور عزت طرابلسي ونائبه الدكتور عوض بركات، فرضوا على جميع البنوك العاملة في سورية ضرورة تعريف عملياتها المصرفية وتحديد الحد الأدنى لرأس مالها واحتياطها النقدي، مع شروط الانتساب إلى مجالس إدارتها.

أرسل مستشاريه إلى فرنسا وبلجيكا وسويسرا للاستفادة من التجربة المصرفية في تلك الدول، وتعاقد مع نائب حاكم مصرف فرنسا المركزي ليكون مستشاراً لمصرف سورية المركزي في مرحلة التأسيس. ولكنّ مصرف سورية المركزي لم يرَ النور إلا بعد مغادرة الشيشكلي السلطة، وافتُتح في عهد الرئيس شكري القوتلي في 1 آب 1956، كما حدث مع معرض دمشق الدولي الذي وُضعت أساساته في عهد الشيشكلي.

حركة التحرير العربي

بعد حل الأحزاب، أسس الشيشكلي تنظيماً سياسياً جديداً يُدين له بالولاء المطلق، أطلق عليه اسم حركة التحرير العربي. عُيّن الدكتور مأمون الكزبري أميناً عاماً للحركة، واختار الشيشكلي لنفسه لقب “الرئيس المؤسس.” وُلدت الحركة في مهرجان خطابي كبير وسط دمشق يوم 27 آب 1952، وكان تدشينها في ساحة باتت تُعرف من يومها باسم “ساحة التحرير.” خطب الشيشكلي أمام الجماهير المحتشدة، معلناً برنامجه السياسي المؤلف من 31 نقطة، منها توحيد البلاد العربية وتحريرها من الهيمنة الأجنبية، مع ضمان حقوق الأقليات والمرأة. طالب بإعادة توزيع أراضي الدولة على الفلاحين وإنشاء مدارس زراعية وصناعية، وجعل التجنيد العسكري إجبارياً لكل مواطن بلغ الثامنة عشرة من عمره.

كانت حركة التحرير العربي عبارة عن خليط أيديولوجي بين القومية العربية ومبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي التي رافقت الشيشكلي منذ مرحلة الشباب. ومن أهم سماتها كان فتح الانتساب أمام النساء والسماح لهن بالترشح لعضوية المجلس النيابي، عكس الأحزاب التقليدية مثل حزب الشعب والحزب الوطني التي كانت عضويتها محصورة بالذكور فقط. في 24 تشرين الأول 1952، افتُتح فرع حركة التحرير العربي في حلب، معقل حزب الشعب، ودخل الشيشكلي المدينة في استعراض جماهيري كبير عبر رأس موكب من ألف سيارة ومركبة. وفي خطابه، وصف حركته قائلاً:

كانت حركة التحرير العربي وليدة الانقلاب العسكري والضرورات الوطنية التي دعت إليه، فهي حركة انقلابية إصلاحية لا علاقة لها بأي حركة سابقة أو حزب قديم، ولكنها تفتح صدرها لجميع العناصر الطيبة دون تفريق أو تمييز. وهذا قلبي وهذه يدي، أمدهما للمواطنين الصادقين إذا أحبوا العمل لمصلحة سورية ومصلحة العروبة، وما على الرسول إلا البلاغ.

الانتخابات النيابية

دعا الشيشكلي إلى انتخابات نيابية عام 1953، بعد تقليص عدد مقاعد المجلس من 114  إلى 82 مقعداً. كانت هذه الانتخابات هي الأولى التي تُشارك فيها المرأة السورية، وقد ترشحت ثلاث سيدات، تتقدمهن المربية ثريا الحافظ، لكن ثلاثتهن لم ينجحن بسبب معارضة رجال الدين والمحافظين دخول المرأة في الحياة السياسية. أُجريت الانتخابات في ظلّ مقاطعة شاملة من جميع الأحزاب التقليدية، وفازت حركة التحرير العربي بستين مقعداً، كما حصل الحزب السوري القومي الاجتماعي على مقعد واحد، ذهب لعصام المحايري. انتُخب مأمون الكزبري رئيساً لمجلس النواب، لكونه رئيس أكبر كتلة نيابية في البرلمان.

الرئيس أديب الشيشكلي يلقي القسم الرئاسي في 11 تموز 1953.
الرئيس أديب الشيشكلي يلقي القسم الرئاسي في 11 تموز 1953.

الشيشكلي رئيساً للجمهورية

وُضع دستور جديد لسورية في 16 حزيران 1953، وبموجبه ترشّح الشيشكلي لرئاسة الجمهورية، وخاض المعركة دون أي منافسة. كانت الانتخابات مباشرة من الشعب لا من المجلس النيابي، وقد فاز الشيشكلي بما لا يقل عن 90% من أصوات الناخبين، الذين قُدّر عددهم بمليوني مواطن. أقسم اليمين الدستوري في 11 تموز 1953، وشكل الحكومة بنفسه ليجمع بين صلاحيات رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء.

في الوقت ذاته، كان الرئيس الأسبق هاشم الأتاسي قد دعا إلى اجتماع كبير في داره بحمص في تموز 1953، حضره أعضاء من الحزب الوطني وحزب الشعب وحزب البعث، قرروا فيه عدم الاعتراف بشرعية دستور الشيشكلي والانتخابات التي أوصلته إلى الرئاسة. أعلنوا نيتهم إسقاطه بكل السبل المتاحة أمامهم، فأيدهم سلطان باشا الأطرش من مقره في جبل الدروز، وأصدر بياناً وصف فيه الشيشكلي بالديكتاتور.

نظراً لتقدمهما في السن ومكانتهما الرفيعة في المجتمع السوري، لم يتمكن الشيشكلي من اعتقال هاشم الأتاسي وسلطان الأطرش، لكنّه أمر باعتقال نجليهما عدنان الأتاسي (من أعضاء حزب الشعب) ومنصور الأطرش (من قادة حزب البعث). كان حزب البعث قد أيد انقلاب الشيشكلي في البداية، لكنه ابتعد عنه لاحقاً وانضم إلى المعارضة، فأمر الشيشكلي باعتقال ميشيل عفلق وصلاح البيطار ومعهم أكرم الحوراني، ابن حماة وصديق طفولة الشيشكلي، الذي كان يرأس الحزب الاشتراكي العربي. هرب ثلاثتهم إلى لبنان وشكّلوا تحالفاً ضد الشيشكلي تمثل في دمج حزبيهم في حزب واحد أطلق عليه اسم حزب البعث العربي الاشتراكي.

قصف جبل الدروز

كان الشيشكلي يقول: “إن أعدائي يشبهون الأفعى، رأسها في جبل الدروز (معقل سلطان الأطرش) ومعدتها في حمص (معقل هاشم الأتاسي)، أما ذيلها فهو في حلب (معقل حزب الشعب). إذا سحقت الذيل ماتت الأفعى.” بدأ بضرب خصومه في جبل الدروز عند اكتشاف كمية من السلاح في القريا، جاءت بالسر من الحكم الهاشمي في الأردن. لا يوجد رقم محدد بعدد الضحايا الدروز في حملة الشيشكلي العسكرية على الجبل، لكن الأمير حسن الأطرش قدّر الرقم لاحقاً بما لا يقل عن 600 شهيد درزي. لكيلا يُقال إن رئيساً سنياً يقوم بقصف جبل الدروز، اعتمد الشيشكلي على رئيس أركانه الدرزي، اللواء شوكت شقير، وأوكل إليه مهمة ضرب المعاقل الدرزية واعتقال المطلوبين من نشطاء وسياسيين.

سقوط الشيشكلي

منذ انقلابه على حزب الشعب وعمله على إجهاض أي تقارب مع العراق، وضع الشيشكلي نفسه في مواجهة مع الأسرة الحاكمة في بغداد، وتحديداً الأمير عبد الإله، خال الملك فيصل الثاني. أسس العراق فصيلاً من المنشقين عن الجيش السوري، المعروفين بقوات “سورية الحرة”، وقام بدفع مبالغ من المال لبعض الشخصيات السياسية لمعارضة الشيشكلي، منهم صبري العسلي رئيس الحزب الوطني. انطلقت مظاهرات كبيرة ضد الشيشكلي من حلب، فقام باعتقال عدد من زعماء حزب الشعب المحرضين ضده، مثل رشدي الكيخيا. ثم توسعت الاعتقالات لتشمل قيادات حزبية في بقية المدن: فيضي الأتاسي في حمص، والأمير حسن الأطرش في جبل الدروز، وصبري العسلي في دمشق.

في 25 شباط 1954، احتل النقيب مصطفى حمدون إذاعة حلب وطلب من الشيشكلي الاستقالة ومغادرة البلاد فوراً. اشترك معه في هذا العصيان العقيد فيصل الأتاسي (ضابط أركان اللواء الثاني)، والعقيد أمين أبو عساف (قائد اللواء الثالث في دير الزور)، والمقدم عبد الجواد رسلان (قائد حامية الساحل الغربي في اللاذقية)، والعقيد محمود شوكت (قائد المنطقة الوسطى)، والعقيد عمر قباني (قائد حامية حوران).

دعا الشيشكلي قادة أركانه إلى اجتماع عاجل في قصر الضيافة في شارع أبي رمانة، قرر من بعده التنحي تجنباً لسفك المزيد من الدماء. اتُخذ هذا القرار على الرغم من أن الشيشكلي كان ما يزال قادراً على سحق التمرد عن طريق الدبابات والمدافع الثقيلة التي بقيت تحت إمرته في قطنا والقابون، وقوى الهجانة التي كانت بقيادة شقيقه صلاح الشيشكلي. قبل مغادرته دمشق، أذاع الشيشكلي البيان التالي:

رغبة مني في تجنب سفك دماء الشعب الذي أحب، والجيش الذي ضحيت بكل غال من أجله، والأمة العربية التي حاولت خدمتها بإخلاص صادق، أتقدم باستقالتي من رئاسة الجمهورية إلى الشعب السوري الذي انتخبني والذي أولاني ثقته، آملاً أن تخدم مبادرتي هذه قضية وطني. وأبتهل إلى الله أن يحفظه من كل سوء، وأن يوحده ويزيده منعة، وأن يسير به إلى قمة المجد.

توجه الشيشكلي إلى بيروت، لكن الزعيم الدرزي كمال جنبلاط هدد باغتياله، فانتقل فوراً إلى السعودية وتولّى رئيس مجلس النواب مأمون الكزبري رئاسة الجمهورية بالوكالة من 26 شباط وحتى 1 آذار 1954. عاد هاشم الأتاسي من حمص لإكمال ما تبقى من ولايته الدستورية التي كانت قد قُطعت بسبب انقلاب الشيشكلي الثاني عام 1951، معلناً إبطال انتخابات الشيشكلي ودستوره ومجلس النواب الذي جاء به. عدّ الأتاسي أن مرحلة الشيشكلي لم تكن شرعية، وفور دخوله القصر الجمهوري قام بشطب معظم القرارات التي صدرت في عهده وحملت توقيعه.

المؤامرة العراقية (1956)

بعد سنتين من خروجه من سورية، وقع الاختيار على أديب الشيشكلي للقيام بانقلاب عسكري ضد شكري القوتلي الذي كان قد عاد إلى رئاسة الجمهورية عام 1955، وكان مقرباً من الرئيس جمال عبد الناصر، عدو رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد. قرر العراق الإطاحة بالقوتلي وكل السياسيين المحسوبين على مصر والاتحاد السوفيتي، وعلى الرغم من انعدام الود بين بغداد والشيشكلي، إلا أن المخابرات العراقية رأت بأنه الأقدر على القيام بانقلاب عسكري في سورية. تناسى الأمير عبد الإله كل خلافات الماضي مع الشيشكلي، وتواصل معه عبر شقيقه صلاح لتنفيذ انقلاب يسقط القوتلي وينهي هيمنة عبد الحميد السراج في سورية (مدير المكتب الثاني – شعبة المخابرات العسكرية).

في نيسان 1956، توجه وفد من ضباط الجيش العراقي لمقابلة الشيشكلي في باريس، ثم سافر إلى لبنان للقاء شخصيات عسكرية سورية كانت من حلقته الضيقة في الماضي القريب، يمكنه الاعتماد عليها في تنفيذ الانقلاب. وصل الشيشكلي متخفياً إلى بيروت في تموز 1956 واجتمع مع ضباطه السابقين، وهنا قرر الانسحاب من الانقلاب لأن نجاحه لم يكن مضموناً، ما سيعرّض أفراد أسرة الشيشكلي في حماة إلى مضايقات وعواقب جسيمة. بعد انسحاب الشيشكلي من “المؤامرة العراقية،” قرر الأمير عبد الإله التعاون مع مجموعة من السياسيين للقيام بالانقلاب المطلوب، ولكنّ المخطط كُشف من قبل المخابرات السورية، وأمر عبد الحميد السراج باعتقال كل المشتركين به من وزراء ونواب. مثلوا أمام القضاء العسكري في دمشق، وحُكم على أديب الشيشكلي غيابياً بالإعدام بتهمة “الخيانة العظمى.”

الاغتيال

عاش أديب الشيشكلي سنواته الأخيرة في البرازيل، في منزل قريب من جسر نهر داس، واغتيل على يد المواطن السوري الدرزي نواف غزالة في الساعة الثالثة من عصر يوم 27 أيلول 1964. اعترف غزالة أنه قتل الشيشكلي انتقاماً لأهله الذين قُتلوا في حملته على جبل الدروز سنة 1953.

 

آخر صورة للشيشكلي في منفاه في البرازيل.
آخر صور للشيشكلي في منفاه في البرازيل.

ذكرى الشيشكلي

صدرت في سنوات لاحقة مجموعة دراسات عن حياة أديب الشيشكلي، منها:

أهم ما جاء في الكتاب الأخير كان اتهام حمد عبيد، وزير الدفاع (الدرزي) عام 1964، بتصفية الشيشكلي انتقاماً لما حدث بينه وبين الدروز. وكان هذا الاتهام يشير إلى ضلوع نظام البعث الحاكم منذ عام 1963 بمقتل الشيشكلي.

وضع الشيشكلي مقدمة كتاب من مذكرات حكومة حسني الزعيم للوزير والمحامي فتح الله صقال عام 1951، واجتمع بالصحفي البريطاني باتريك سيل وأعطاه شهادة تاريخية أثناء التحضير لكتابه الأول، الصراع على سورية، الذي صدر في لندن عام 1965، بعد أشهر من وفاة الشيشكلي. وفي عام 1997، ظهرت شخصية أديب الشيشكلي في الجزء الثاني من مسلسل حمام القيشاني، ولعب دوره الفنان أسامة الروماني.

المناصب الرسمية

المنصب الفترة سبقه خلفه
رئيس أركان الجيش السوري 3 كانون الأول 1951 – 11 تموز 1953 أنور بنود شوكت شقير
رئيس الحكومة 11 تموز 1953 – 25 شباط 1954 فوزي سلو صبري العسلي
رئيس الجمهورية 11 تموز 1953 – 25 شباط 1954 فوزي سلو مأمون الكزبري

 

المصدر
1. هاني الخيّر. أديب الشيشكلي: البداية والنهاية (دمشق 1994)، 202. نفس المصدر، 223. نفس المصدر4. نذير فنصة. أيام حسني الزعيم: 137 يوم هزت سورية (دار الآفاق الجديدة، دمشق 1983)، 215. نفس المصدر، 57.6. هاني الخيّر. أديب الشيشكلي: البداية والنهاية (دمشق 1994)، 777. نفس المصدر، 898. باتريك سيل. الصراع على سورية (باللغة الإنكليزية – مطبعة جامعة أوكسفورد 1965)، 180-181 9. نفس المصدر، 12210. سامي مروان مبيّض. عبد الناصر والتأميم (دار رياض نجيب الريّس، بيروت 2019)، 4511. نفس المصدر، 107-10812. نفس المصدر13. نفس المصدر14. مطيع السمان. وطن وعسكر (مكتبة بيسان، بيروت 1995)، 40415. هاني الخيّر. أديب الشيشكلي: البداية والنهاية (دمشق 1994)، 10616. نفس المصدر، 114.17. نفس االمصدر، 10918. باتريك سيل. الصراع على سورية (باللغة الإنكليزية – مطبعة جامعة أوكسفورد 1965)، 132

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: المحتوى محمي !