جامع الحنابلة المظفري، هو جامع تاريخي في حيّ الصالحية داخل زقاق الحنابلة بمنطقة أبو جرش، محاذياً لشارع الشيخ عبد الغني النابلسي والشيخ محيّ الدين بن عربي، وهو أول جامع أيوبي في دمشق وثاني أكبر جوامع دمشق بعد الجامع الأموي. أطلق عليه عدة أسماء عبر التاريخ، ومنها جامع الصالحاني نسبة لأبي صالح الحنبلي، وجامع الحنابلة لأن أبناء الشيخ أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي هم الذين أسسوا بناءه، وكانوا على مذهب الإمام أحمد بن حنبل. وعُرف أيضاً بالجامع المظفري نسبة إلى متمم بنائه الملك المظفر أبو سعيد كوكبوري، زوج خاتون شقيقة السلطان صلاح الدين الأيوبي.
بناء الجامع
دعا لبناء الجامع الشيخ أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي أحد أئمة المقادسة، وقد تولّى أمر البناء والإنفاق عليه الشيخ أبو داود محاسن الفامي، ابتداء من 19 تموز 1202. لكن الأموال التي جمعت لأجله لم تكن كافية لمتابعة البناء، فبلغ الخبر مظفر الدين كوكبوري أن الحنابلة بدمشق شرعوا في عمل جامع بسفح قاسيون، وإنهم عاجزون عن إتمامه، فأرسل الأمير على فوره مع حاجب من حجابه يسمى شجاع الدين الإربلي ثلاث آلاف دينار أتابكية لإتمام عمارة الجامع وأخبرهم أن ما تبقى منها يُشتري به أوقافاً للمسجد توقف عليه. أكمل الشيخ أبو عمر المقدسي بناءه ووضع آخر حجر في مئذنته في 2 من كانون أول 1213. جعلوا منبره العظيم المميز ذا ثلاث درجات كدرج منبر النبي (ص) وبدأت الصلاة فيه عام 1213 وكان الشيخ أبو عمر المقدسي أول من ولّي خطابته.
ثم إن الملك المظفر أبو سعيد كوكبوري عاود فأرسل ألف دينار لسياق الماء إلى الجامع من قرية برزة، فمنعهم الملك المعظم بن سيف الدين أيوب ملك دمشق، واعتذر لهم بأن في طريقه قبوراً كثيرة للمسلمين، فصُنع له بئراً ذو ماء زلال، ووقف عليه أوقافاً تقوم به، وما زال البئر باق إلى الآن ولكن للأسف جف مائه.
وصف الجامع
تم تصميم وتخطيط مساقط الجامع بشكل مشابه لتصميم وتخطيط مساقط الجامع الأموي بدمشق، تبلغ مساحته نحو 925م2.
واجهة الجامع الأمامية الغربية: حجرية فيها نافذتان كبيرتان تطلان على زقاق الحنابلة غنية باللوحات المنحوتة الغنية بالزخارف الجصية الأنيقة على هيئة نباتات زهرية مرسومة بشكل فني وعليها رسومات داخل القوصرة، وهي مثلث في أعلى واجهة المبنى، وقد انمحى معظمها ولم يبق منها الآن إلا ما على الباب الأيمن الثاني، يتوسطها الباب الغربي الكبير عليه لوحة التأسيس. يتصل المدخل الرئيسي للجامع برواق جميل ذو أربعة قناطر كبيرة تحمل قبة صغيرة وهذه القناطر من أساس بنيان الجامع القديم ذوات الأحجار القديمة، كما يتصل رواق المدخل مع الجدار الشمالي لحرم بيت الصلاة وهو مبني من الحجارة المتناوبة الأبلقية الشكل أي الحجارة البيضاء والسوداء البازلتية والمزية أي ذات اللون الرماني.
صحن الجامع: مستطيل الشكل وموجود في الجهة الشمالية للبناء مع المنارة المبنية في الضلع الشمالي من الصحن مفروش بالحجارة العادية، وتشبه تقسيماته تقسيمات وأجزاء صحن الجامع الأموي الكبير من حيث أروقة الصحن المحمولة على قناطر وكذلك النوافذ القوسية فوق القناطر، بالإضافة إلى شكل ميضأة الجامع القديمة، وتوضع مكان المئذنة كما هي مئذنة العروس بالأموي.
أرضية الجامع: تغيرت بعد الترميمات التي طرأت عليها، فصارت مفروشة بالرخام الأبلقي البديع ذو الأشكال الهندسية المتداخلة، وغابت مظلة الميضأة بوسط صحن الجامع، وصار فيها بحرة مربعة الشكل مطوقة بعقد رخامي ومحمولة على أرضية الصحن يصب فيها الآن مياه عين الفيجة.
الأعمدة القديمة المتراكبة بصحن الجامع: فهي من بنيان الجامع القديم وقد شيدت آنذاك آخذة طابع الأعمدة الرومانية أو البيزنطية القديمة، بالإضافة إلى الأقواس المبنية فوق الأعمدة والمتعددة، والتي يعلوها نوافذ قوسيه الشكل. يوجد في شرقي وغربي الصحن إيوانان عظيمان يقوم كل منهما على خمس قناطر وقواعد وأعمدة قديمة، وفي الجهة الشمالية إيوان يقوم على خمس قناطر من ورائها ثلاث قناطر أخرى، والى جانبها المنارة المربعة الجميلة. كما أن للجامع باب شرقي مقابل الباب الغربي.
محراب الجامع: مبني من الحجر، ولكنه مشوه بالدهان وتم تحديثه في العصر العثماني، مرتفع القامة محفور في حائط القبلة يحيطه إطار مزخرف بشكل هندسي مزين بجملة من الآيات القرآنية.
منبر الجامع: خشبي الصنع أية من آيات الفن الخشبي المحفور، وهو من أقدم و أندر وأجمل المنابر الموجودة في بلاد الشام ومصر قاطبة بعد منبر صلاح الدين الأيوبي. يوجد أعلى هذا المنبر لوحة خشبية حولها كتابة، نصُّها: “اللهم أدم دولة مولانا الإمام ابن الإمام وصاحبها البرده والقضيب والحسام الذي ليس للمسلمين أميراً سواه ولا خليفة أبي العباس أحمد أدام الله أيامه أدم اللهم النعمة والتمكين ببقاء الملك العادل سيف الدنيا والدين خليل أمير المؤمنين أبي بكر بن أيوب أدام الله أيامه ونشر في الخافقين أعلامه.”
سقف الجامع: مصنوع من الخشب ومغطى بطبقة من التبن والكلس.
مئذنة الجامع: بنيت سنة 1213م، ونُقش اسم المظفر عليها. تشير بعض المصادر التاريخية إلى أن جامع الحنابلة كان له مئذنتان: جنوبية وشمالية؛ إلا أن زلزالاً ضرب بلاد الشام سنة 1759م أطاح بالمئذنتين؛ تم بعدها إعمار المئذنة الشمالية، وقد شُيِّدت تلك المئذنة على غرار الطراز الأيوبي؛ فهي مربعة الجذع بسيطة الشكل خالية من المقرنصات والعناصر الزخرفية مطلية بالجص الأبيض. والمئذنة شاهقة الارتفاع يتخلل جذعها المربع نوافذ ضيقة، وشرفتها تساير أضلاع الجذع، ولا تبرز عنه، وهي مسيجة بدرابزين خشبي جُدِّد مع المئذنة في العصر العثماني، ويغطي الشرفة مظلة مربعة الشكل بسيطة، يعلوها بدن دائري مكوّن من أنصاف الأعمدة والعقود، وقمة المئذنة على شكل خوذة يعلوها هلال.
الواجهة الشرقية للجامع: وهو باب آخر كُتبت عليه: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر} هذا ما أمر بعمله تقرباً إلى الله تعالى وطلب ثوابه العبد الضعيف الفقير إلى رحمته المعروف بذنوبه الراجي إمداد عفوه وتوبته كوكبوري بن علي بن بكتكين صاحب أربيل غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر بمحمد وآله بتولي الفقير إلى رحمة الله محاسن بن سليمان القلانسي ولله الحمد والمنة وصلى الله على محمد وآله».
الجامع عبر العصور
تعرض جامع الحنابلة لهجوم تتري بقيادة غازان بن أرغون ملك التتار عام 1299، حيث نال المسجد ما نال بلاد الشّام من خراب. وتعرض للتخريب مجدداً في 25 آب 1343 عندما وقع حريق عظيم بسفح قاسيون احترق به سوق الصالحية وصل إلى الجامع المظفري مع جملة مهولة من الدكاكين، قاربت مائة وعشرين دكاناً. جرت أعمال ترميم كاملة للمسجد سنة 2002، وقد شارك بالمقدار الأكبر منها المحسن إسماعيل يوسف السعدي، وذلك بحسب اللوحة الرخامية المثبتة عند مدخل الجامع.
مكانة الجامع العلمية
مثل جامع الحنابلة نهضة عليمة شاملة، قام بها المهاجرون المقادسة في الصالحية، على أن ظاهرة سماع الحديث، ثم قراءته رواية ودراية كانت من الأمور التي تميز بها المقادسة في الصالحية، حيث كانوا يُسمعون أولادهم منذ الصغر، فكانوا يسعون إلى كبار العلماء من سكان دمشق والواردين إليها، يتلقوا عنهم في الجامع المظفري الذي درِّس فيه طائفة عظيمة من العلماء منهم مشاهير العلماء الذين سكنوا الصالحية أمثال: أحمد بن عبيد الله بن أحمد المقدسي الحنبلي و العماد بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي وعبد الرحمن بن عبد الجبار القدسي الحنبلي و أحمد بن علي بن الحسن الجزري و محمد بن علي بن طولون الدمشقي.
كما قامت بين جنبات الجامع حلقات الدروس ومجالس لعلماء الحديث والحُفَّاظ والمؤرّخين والفقهاء وغيرهم في شتى النواحي العلمية، ومنهم على سبيل المثال أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية صاحب كتاب “الفتاوى،” والمؤرخ إسماعيل بن عمر والمعروف بابن كثير الدمشقي صاحب كتاب البداية والنهاية، وأحمد بن علي بن محمد ابن حَجَر العسقلاني صاحب كتاب فتح الباري؛ حيث أسهم هذا الجامع في نهضة علمية شاملة في دمشق وبلاد الشّام.