الملك فيصل الأول (20 أيار 1883 – 8 أيلول 1933)، أو الشريف فيصل بن الحسين الهاشمي، ثالث أبناء الشريف حسين وأحد قادة الثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية (1916-1918). انتُخب نائباً في مجلس المبعوثان ودخل دمشق معلناً تحريرها من الحكم العثماني في 3 تشرين الأول 1918. أسس حكومة عربية في دمشق باسم الشريف حسين، وفي 8 آذار 1920، نُصِّب ملكاً بموجب قرار من المؤتمر السوري الأول. استمر حكمه حتى 24 تموز 1920، يوم هزيمة الجيش السوري في معركة ميسلون وفرض الانتداب الفرنسي على سورية. نُفي خارج الأراضي السورية في 1 آب 1920، وتنقل بين فلسطين وإيطاليا وبريطانيا، قبل تعيينه ملكاً على العراق من 23 آب 1921 وحتى وفاته في العاصمة السويسرية برن سنة 1933.
مثَّل سورية في مؤتمر الصلح في باريس سنة 1919، وفي عهده وُضعت أساسات الدولة السورية الحديثة كافة، ومنها رئاسة الوزراء، ووزارة المعارف، ووزارة المالية، ووزارة الحربية، كما جرت أول انتخابات ديمقراطية وتشكَّل أول برلمان. ظلَّ الملك فيصل يحلم بالعودة إلى عرشه السوري السليب، وقد ورث هذا الحلم من بعده شقيقه عبد الله الأول ملك الأردن، وابن أخيه الأمير عبد الإله الوصي على عرش العراق،، الذي قُتل مع سائر أفراد لأسرة الهاشمية الحاكمة في بغداد يوم ثورة 14 تموز 1958، وعلى رأسهم الملك فيصل الثاني، حفيد الملك فيصل الأول.
البداية
وُلد الشريف فيصل في مدينة الطائف، وهو سليل أسرة آل عون الهاشمية وحفيد رسول الله (ص). درس مع أخويه على يد المعلّم الدمشقي صفوة العوا، وسافر مع والده إلى إسطنبول بدعوة من السلطان العثماني عبد الحميد الثاني. وفي عاصمة الخلافة تزوج من قريبته الأميرة حزيمة بنت ناصرر، بينما تزوج شقيقه الأمير عبد الله من شقيقتها الأميرة مصباح، لتصبح الأولى ملكة على سورية ومن ثم العراق، والثانية ملكة على المملكة الأردنية الهاشمية.
بين مجلس المبعوثان وجمعية الفتاة (1908-1915)
عُيِّن الشريف حسين أميراً على مكة المكرمة سنة 1908، وتسلَّم فيصل قيادة السرايا المسؤولة عن القبائل العربية في الحجاز. بعد الإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني وعودة الحياة البرلمانية في إسطنبول، انتُخب سنة 1912 نائباً عن مدينة جدة في مجلس المبعوثان، وتوجَّه إلى دمشق بطلب من أبيه في آذار 1915 للقاء جمال باشا، قائد الجيش الرابع في سورية. أوهمه أن الشريف حسين يريد تشكيل قوة عسكرية لمساندة الجيش العثماني في حملة السويس، لكن في الحقيقة، كان فيصل يسعى للتعرف إلى أعيان دمشق ووجهائها والتباحث معهم في إمكانية إطلاق ثورة عربية ضد العثمانيين بمساعدة البريطانيين.
اجتمع في دار الوجيه عطا الله البكري مع عدد من الشخصيات الفاعلة في جمعية العربية الفتاة، مثل شكري القوتلي والأخوين نسيب وفوزي البكري، ومن خلالهم، تم تنسيبه إلى هذه الجمعية السرية التي أُطلقت من باريس في العام 1911. هدفت العربية الفتاة إلى توسيع صلاحيات الولايات العربية ضمن إطار الدولة العثمانية،، وتعزيز مكانة اللغة العربية، قبل أن تتحول إلى جمعية ثورية تطالب بتحرير العرب وإسقاط الحكم العثماني.
إعدامات جمال باشا (1916)
عاد الأمير إلى دمشق سنة 1916 وتوسَّط لدى جمال باشا للعفو عن نخبة من الوجهاء العرب الذين اعتُقلوا بتهمة التخابر مع فرنسا لقلب نظام الحكم في سورية. لم تنجح مساعيه، وبعد محاكمة سريعة أمام الديوان الحربي في عاليه، أُعدم المعتقلون العرب شنقاً في ساحة المرجة بدمشق وساحة الشهداء في بيروت يوم 6 أيار 1916. وهنا قال الأمير فيصل كلمته الشهيرة: “طاب الموتُ يا عرب.”
مراسلات حسين – مكماهون
في هذه الأثناء، كان الشريف حسين قد تواصل مع السير هنري مكماهون، المفوض السامي البريطاني في مصر، بهدف القيام بثورة عسكرية من الصحراء العربية ضد العثمانيين، مقابل تنصيبه ملكاً على الحجاز، جعل أولاده ملوكاً في سورية والعراق. أولى المراسلات بين الشريف حسين ومكماهون كانت في تموز 1915 وآخرها كانت في آذار 1916، وقد بقيت سريّة حتى سنة 1923، بوم نشرت مقتطفات منها في صحيفة الديلي ميل البريطانية، لتُنشر كاملة سنة 1939، بعد ثماني سنوات من وفاة الشريف حسين.

الثورة العربية الكبرى
أعلنت الثورة العربية الكبرى في حزيران 1916، وفي تشرين الأول من العام نفسه ألحق بأركانها الكولونيل البريطاني توماس إدوارد لورانس، الذي أصبح صديقاً للأمير فيصل وعرف باسم لورانس العرب. طاردوا الجيش العثماني من مكة والطائف وجدة وينبع والعقبة، ووضع تحت إمرة فيصل قرابة عشر آلاف مقاتل من قبائل المدينة المنورة. زحف مع قواته على ساحل البحر الأحمر واحتل منطقة الوجه قبل سيطرته على العقبة بالتعاون مع رجال قبيلة الحويطات. ومن العقبة توجه فيصل إلى بلاد الشام وانضم إليه عدد من الثوار السوريين، منهم نسيب وفوزي البكري، وتحسين وأحمد قدري. أخذوا معان والطفيلة ووادي موسى، وفي 1 تشرين الأول 1918 دخلت قواته مدينة دمشق بعد تحريرها من آخر جندي عثماني.
فيصل في دمشق
في أعقاب الانسحاب العثماني كان قد تشكل في دمشق نهاية شهر أيلول 1918 حكومة محلية بقيادة الأمير سعيد الجزائري، ولكن لورانس أمر بإقالتها فور دخوله المدينة في 1 تشرين الأول، قائلاً إنها لم تكتسب شرعية لا من الشريف حسين، أو من الحلفاء. وبعدها بثلاثة أيام دخل فيصل دمشق على رأس موكب مهيب من الفرسان، وخرج أهالي المدينة لاستقباله بالهتافات والأرز. وتوجه بداية إلى ساحة المرجة لقراءة سورة الفاتحة على أرواح شهداء السادس من أيار 1916، ثم دخل دار البلدية المجاور حيث كان جمع من الأعيان في انتظاره.
قدموا له البيعة، وكان من ضمنهم بطريرك الأرثوذكس غريغوريوس حداد، وحاخام اليهود يعقوب الدنون، ومفتي دمشق الشيخ أبو الخير عابدين، الذي أمر فيصل بعزله لأنه كان مسانداً للعثمانيين حتى آخر لحظة. بايع فيصل يومها جمع من الوجهاء والعلماء، يتقدمهم الشيخ بدر الدين الحسني، المحدث الأكبر في بلاد الشّام، ومعه الضباط العرب شكري باشا الأيوبي ورضا باشا الركابي. انتقل فيصل إلى فندق فكتوريا للقاء الجنرال إدموند ألنبي، قائد الجيوش البريطانية في الشرق الأوسط، ودخل بعدها الجامع الأموي لإقامة الصلاة وإعلان تحرير دمشق من الحكم العثماني باسم والده الشريف حسين “ملك العرب،” الذي كان قد نصّب نفسه ملكاً على الحجاز منذ سنة 1916.
الحكومة العربية (1918-1920)
كلف الفريق رضا الركابي بتشكيل أول وزارة في عهده، وسمّى شكري الأيوبي حاكماً عسكرياً على بيروت، وجميل المدفعي حاكماً في عمّان، وعلي جودت الأيوبي في حلب قبل أن يخلفه جعفر العسكري، وعلاء الدين الدروبي والياً على مدينة دمشق. كما كُلف الداعية محب الدين الخطيب بتأسيس جريدة العاصمة الرسمية الناطقة باسم العهد الجديد، ودعي الشيخ تاج الدين الحسني ليكون مديراً للقصر الملكي في محلّة المهاجرين. وفد اختار الأمير فيصل إحسان الجابري رئيساً لديوانه، وعيّن فخري البارودي وجميل الألشي حجّاباً، وتحسين قدري مرافقاً عسكرياً له.
مؤتمر الصلح في باريس سنة 1919
لم تطل إقامة فيصل في دمشق طويلاً وتوجّه على رأس وفد سوري إلى باريس لحضور مؤتمر الصلح الذي دعت إليه الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى. وصل مدينة مارسيليا على متن سفينة بريطانية يوم 26 تشرين الثاني 1918، ليكتشف أن الحكومة الفرنسية لا تريد استقباله بصفته حاكماً على سورية. اتصل بالسفير البريطاني في باريس، اللورد ديربي، الذي تواصل مع الخارجية الفرنسية واستصدر منها دعوة فورية لفيصل لدخول فرنسا وحضور المؤتمر بصفته ممثلاً عن أبيه، لا ممثلاً عن الدولة السورية.
التقى برئيس الجمهورية ريمون بوانكاريه وبرئيس الحكومة جورج كليمنصو، وجال على معالم باريس التاريخية، ثم سافر إلى لندن للقاء الملك جورج الخامس ووزير خارجيته آرثر جيمس بالفور. صاحب أثناء وجوده في فرنسا، علم فيصل بحقيقة اتفاقية سايكس بيكو المبرمة سنة 1916، والتي أعطت سورية ولبنان إلى الفرنسيين، وفلسطين إلى الإنكليز. كان فيصل قد سمع عن هذه الاتفاقية منذ سنة 1916، قبل نشر نصها الكامل في صحيفة روسية، لكن البريطانيين قالوا للشريف حسين بأنها لن تؤثر على وعودهم له. افتتح المؤتمر في 18 كانون الثاني 1919، وفي 6 شباط دُعي لإلقاء كلمة أمام الرئيس وودرو ويلسون والرئيس كليمنصو ورئيس وزراء بريطانيا لويد جورج. جاء فيها:
جئت ممثلاً لوالدي الذي قاد الثورة العربية ضد الترك تلبية منه لرغبة بريطانيا وفرنسا، لأطالب بأن تكون الشعوب الناطقة بالعربية في آسيا من خط الإسكندرونة – ديار بكر حتى المحيط الهندي جنوباً، معترفاً باستقلالها وسيادتها بضمان من عصبة الأمم. ويستثنى من هذا الطلب الحجاز وهي دولة ذات سيادة، وعدن وهي محمية بريطانية. وبعد التحقق من رغبات السكان في تلك المنطقة يمكننا أن نرتب الأمور فيما بيننا، مثل تثبيت الدول القائمة فعلاً في تلك المنطقة، وتعديل الحدود فيما بينها وبين الحجاز، وفيما بينها وبين البريطانيين في عدن، وإنشاء دول جديدة حسب الحاجة وتعيين حدودها. وستتقدم حكومتي في الوقت المناسب بمقترحات تفصيلية في هذه النقاط الصغيرة وإني لأستند في مطلبي هذا على المبادئ التي صرح بها الرئيس ولسون، وأنا واثق من أن الدول الكبرى ستهتم بأجساد الشعوب الناطقة بالعربية وبأرواحها أكثر من اهتمامها بما لها هي نفسها من مصالح مادية.
ردت فرنسا بأن هذا الأمر مخالف لاتفاقية سايكس بيكو، وبأن فيصل غير مخوّل بالتحدث باسم الشعب السوري. لجأ الأمير إلى الرئيس الأمريكي ويلسون، وناشده باسم شعوب العالم الثالث، مذكراً بما جاء في مبادئ الرئيس الأربعة عشر، التي وعدت شعوب العالم بحق تقرير المصير، بعد تخلصها من حكم الإمبراطوريات النمساوية والروسية والعثمانية.
لجنة كينغ كراين
وافق ويلسون على أن يستفتي شعوب المنطقة وإن كانت بالفعل ترفض فيام الانتداب الفرنسي في سورية. أرسل لجنة مصغرة إلى المنطقة، مؤلفة من أستاذ اللاهوت هنري كينغ والمتمول الأمريكي شارل كراين، اللذين جالوا على كل البلدات والمدن السورية، واجتمعوا مع فيصل في قصره. أكد على حقه الشرعي بعرش سورية، بناءً على مراسلات الحسين – مكماهون، ومطالب الشعب السوري، ومبادئ ويلسون. سمعت لجنة كينغ كراين من فيصل ومن السوريين رفضهم القاطع لإقامة انتداب فرنسي في سورية، إلا أنّها لم ترفع توصياتها إلى البيت الأبيض إلّا بعد مرض ويلسون وعجزه عن اتخاذ أي قرار بشأن سورية.

المؤتمر السوري العام
دعا فيصل إلى انتخابات نيابية وفقاً لقانون الانتخاب العثماني، جرت في مناطق سورية الداخلية، أمّا في المناطق الساحلية والجنوبية ونظراً لوجود قوات أجنبية فيها اكتفت الدولة بتوكيل النواب في مناطقهم وحضورهم إلى دمشق للمشاركة في أولى جلسات المؤتمر السوري العام التي عقدت في مقر النادي العربي، بحضور الأمير فيصل. افتتحت الجلسة الأولى في 3 حزيران 1919، وفيها انتُخب هاشم الأتاسي رئيساً للمؤتمر السوري الذي تداول في أمور عدة، منها حقوق المرأة السورية، ودستور سورية الملكي. وفي 8 آذار 1920، قام الرئيس هاشم الأتاسي بتتويج الأمير فيصل ملكاً على سورية.
فيصل والأقليات
سعى الملك فيصل إلى تطمين الأقليات، وعيّن القاضي المسيحي يوسف الحكيم وزيراً للعدل، والمحامي فارس الخوري وزيراً للمالية، والضابط جبرائيل حداد مديراً للأمن العام، والصحفي الفلسطيني عيسى العيسى كاتباً في قصره. وتعاون أيضاً مع أبناء الطائفة الشيعية، وعيّن رستم حيدر مستشاراً سياسياً له، كما مدّ يده إلى الدروز وسمّي سلطان الأطرش مستشاراً، والأمير عادل أرسلان نائباً للحاكم العسكري.
منجزات العهد الفيصلي
أشرفت الحكومة الفيصلية على تعريب المناهج المدرسية، وشكّلت لجنة لإعادة افتتاح معهد الطب العثماني بعد تغير اسمه إلى معهد الطب العربي. كُلّف محمد كرد علي في تأسيس المجمع العلمي في المدرسة العادلية سنة 1919، ليكون السبّاق في الوطن العربي كله، ووضعت أساسات متحف دمشق الوطني، وتم تعريب جميع القوانين، ومعها الرتب العسكرية تمهيداً لتأسيس الجيش السوري، بإشراف عبد الحميد القلطقجي الذي سمّي أول وزيراً للحربية، قبل أن يخلفه يوسف العظمة في أيار 1920. افتتحت وزارة الخارجية السورية في عهد الملك فيصل وعُيّن الفلسطيني سعيد الحسيني أول وزير فيها، قبل أن يخلفه الدكتور عبد الرحمن الشهبندر.
المواجهة مع الفرنسيين
في 14 تموز 1920، أبرق فيصل إلى المفوض السامي الفرنسي في بيروت، الجنرال هنري غورو، مهنئاً بالذكرى السنوية لثورة الباستيل. وصلته رسالة أولى من غورو تشكره على مشاعره النبيلة، ورسالة ثانية كانت عبارة عن إنذار شديد اللهجة، يطالبه بقبول الانتداب الفرنسي في سورية. طالب الجنرال الفرنسي بحلّ الجيش السوري، وتسليم سكك الحديد، ومصادرة الأسلحة من الأهالي، واعتقال كل المتورطين بأعمال شغب ضد فرنسا. أعطي فيصل مهلة محددة لقبول الإنذار، وافق عليها الملك مجبراً، على أمل أن يتمكن من كسب الوقت وإقناع الفرنسيين بتعديل شروط الانتداب. ظنّ بأن خلفائه الإنكليز سيتدخلون لأجله، ولكنهم لم يفعلوا، وأرسل وزير المعارف ساطع الحصري إلى عاليه لمفاوضة الجنرال غورو ولكنه عاد إلى دمشق خالي الوفاض.
بأمر مباشر من الملك بدأ الجيش السوري بحلّ نفسه، وقد اعترض وزير الحربية يوسف العظمة بشدة على هذا القرار واستقال من منصبه. قال بأنه أنه قادر على مواجهة القوات الفرنسية، وبأنه يرفض دخولهم دمشق دون مقاومة من الشعب السوري. ولكن الجنرال غورو اعتبر أن رسالة قبول الإنذار جاءت متأخرة عن الموعد المحدد، وأمر قواته بالزحف باتجاه سورية من سهل البقاع. وهنا قرر فيصل المواجهة وطلب إلى وزير الحربية التراجع عن استقالته واستعادة القطعات العسكرية المسرحة. ثم أسس اللجنة الوطنية العليا لجمع التبرعات ودعوة الأهالي للتطوع، برئاسة الشيخ كامل القصّاب الذي وعد فيصل بما لا يقل عن 300 متطوع. وفي 5 أيار 1920 كُلف هاشم الأتاسي بتأليف حكومة مواجهة، وعيّن الشيخ رشيد رضا خلفاً له في رئاسة المؤتمر السوري. كان الأتاسي قد انتهى مؤخراً من صياغة دستور سورية الجديد، وقد تفاجأ الملك بأنه جعل منه ملكاً دستورياً مقيّد الصلاحيات، ولكنه ضمن له الحكم الوراثي ولذريته من بعده.
حصلت المواجهة العسكرية في معركة ميسلون يوم 24 تموز 1920، وحُسمت لصالح الفرنسيين في ساعاتها الأولى. استشهد وزير الحربية يوسف العظمة الذي نزل إلى الميدان للإشراف على العمليات القتالية، وهزم الجيش بعد انتشار خبر مقتله.
مغادرة سورية
هرب الملك فيصل إلى بلدة الكسوة القريبة من دمشق، ومعه رئيس الحكومة هاشم الأتاسي، ورئيس الديوان الملكي إحسان الجابري، ووزير المعارف ساطع الحصري، ومرافقه العسكري تحسين قدري. من الكسوة انتقلوا إلى مدينة درعا جنوب البلاد، ومنها أصدر الملك آخر مراسيمه في 26 تموز 1920، بتعيين علاء الدين الدروبي رئيساً للحكومة. في اليوم نفسه أسقطت الطائرات الحربية الفرنسية منشورات فوق مدينة درعا، تطالب الأهالي بعدم تقديم أية مساعدة للملك المخلوع، مهددين بشن ضربات عسكرية إن بقي فيصل في ديارهم.
غادر الملك فيصل الأراضي السورية في 1 آب 1920، متوجهاً إلى حيفا حيث نزل في فندق نصّار مع ما تبقى من حاشيته. طلب إلى ساطع الحصري السفر إلى تركيا على أمل المحصول على دعم سياسي وعسكري من كمال أتاتورك، وأمر نوري السعيد البقاء في دمشق لمفاوضة الفرنسيين. كما كتب رسالة إلى أبيه شارحاً الطريقة المهينة التي تم فيها إقصائه عن عرش، وطلب إليه مخاطبة الحكومة البريطانية والتوسّل إليها لإعادته إلى سورية. رد الجنرال إدموند ألنبي بأنه لن يتدخل لأجله، وطلب إلى فيصل العودة إلى مملكة الحجاز، ولكن الأخير رفض بشدة وعندما سمع أن رئيس وزراء بريطانيا لويد جورج ينوي الذهاب إلى سويسرا لحضور اجتماع في عصبة الأمم، قرر الالتحاق به وشرح موقفه بشكل شخصي. سافر إلى مصر، ومنها إلى مدينة نابولي الإيطالية، مستدخماً جواز سفر ديبلوماسي قدمه إليه والده من مملكة الحجاز.
وفي 25 آب 1920 انتقل إلى روما وبعدها إلى ميلانو، حيث وصلته رسالة من لندن تقول أن لويد جورج لن يتمكن من مقابلته. طُلب إليه البقاء في إيطاليا حتى إشعاراً آخر، وفي 21 تشرين الأول، أبرق إلى اللورد جورج كرزون، وزير خارجية بريطانيا، مطالباً السماح له بالمجيء إلى لندن لمقابلة الملك جورج الخامس. تدخل لأجله صديقه القديم لورانس، وكتب مجموعة مقالات في الصحف البريطانية واصفاً فيصل بصديق بريطانيا الوفي والقديم، ناصحاً الحكومة البريطانية بعدم التخلي عنه. في 1 تشرين الثاني 1920 وبعد طول انتظار، وصلته دعوة رسمية من قصر بكنغهام، وحدد موعد لقائه بملك بريطانيا. وفي 9 كانون الأول 1920، عُرض عليه رسمياً من قبل الإنكليز فكرة توليه عرش العراق.

ملكاً على العراق
بعد التشاور مع أبيه وشقيقه الأمير عبد الله (الموعود بعرش العراق بحسب مراسلات الحسين – مكماهون)، وافق فيصل على العرض البريطاني وتوجه إلى العراق على متن باخرة حربية في 12 حزيران 1921. وصل ميناء البصرة يوم 23 حزيران 1921، حيث استقبل استقبالاً رسمياً حافلاً، وانتقل فوراً إلى الحلة وزار الكوفة والنجف وكربلاء، ثم وصل بغداد في 29 حزيران وكان في استقباله السير بيرسي كوكس، المندوب السامي البريطاني في العراق، معه الجنرال هولدن قائد القوات البريطانية، ورئيس الوزراء العراقي عبد الرحمن النقيب. في 16 تموز 1921، أذاع كوكس قرار مجلس الوزراء العراقي بمناداة الأمير فيصل ملكاً على العراق في ظلّ حكومة دستورية نيابية، للمرة الثانية في حياته، تُوّج فيصل ملكاً يوم 23 آب 1921، في ساحة القشلة. عقد معاهدة مع بريطانيا سنة 1930، نصّت على استقلال العراق وإنهاء الانتداب، وفي تشرين الأول 1932، دخلت بلاده في عصبة الأمم.
لحق به عدد كبير من السوريين، من بينهم ساطع الحصري الذي كلّف مراجعة المناهج العراقية، وصبحي العمري الذي أصبح أحد مؤسسي الجيش العراقي، فيما بقي تحسين قدري مرافقاً عسكرياً للملك وسمّي شقيقه أحمد قنصلاً عاماً في باريس. ظلّ حلم العودة إلى سورية يراوده وفي أيلول 1931، سافر فيصل إلى باريس واقترح على الحكومة الفرنسية استعادة عرش الأسرة الهاشمية في سورية، ضمن وحدة عراقية – سورية تتنقل بموجبها العاصمة كل ستة أشهر بين بغداد ودمشق، مقترحاً أن تكون رئاسة الوزارة لشخصية سورية، ورئاسة البرلمان للعراقيين. لم توافق فرنسا على العرض وفي سنة 1932 أسس النظام الجمهوري في سورية وانتُخب محمد علي العابد أول رئيساً للجمهورية.

الوفاة
توفي الملك فيصل الأول في العاصمة السويسرية برن يوم 8 أيلول 1933، وأعلن الحداد الرسمي في العراق وسورية والأردن. نعاه الرئيس محمد علي العابد وأطلقت الدولة السورية اسمه على شارع رئيسي وسط دمشق، كما اعتبر تاريخ تتويجه في 8 آذار عيداً وطنياً في سورية. نُصّب نجله الوحيد غازي ملكاً دستورياً على العراق حتى وفاته بحادث سير سنة 1939، وخلفه حفيده الملك فيصل الثاني الذي حكم العراق حتى ثورة 14 تموز 1958. أطاحت ثورة عبد الكريم قاسم الدموية بالحكم الملكي في العراق، وقُتل فيصل الثاني مع خاله الأمير عبد الإله ورئيس الوزراء نوري السعيد.
التكريم والذكرى
صدرت عن فيصل وعهده دراسات عدة في الدول العربية، ومن أبرزها:
- الملك فيصل الأول، تأليف إبراهيم سليم نجا (بيروت 1940)
- سورية والعهد الفيصلي، تأليف يوسف الحكيم (بيروت 1966)
- الحكومة العربية في دمشق بين 1918-1920، تأليف الدكتورة خيرية قاسمية (بيروت 1982)
- الملك فيصل الأول: دراسات في حياته السياسية، تأليف محمد مظفر الأدهمي (بغداد 1988)
- الملك فيصل الأول والانكليز والاستقلال، تأليف كاظم نعمة (بيروت 1988)
- الملك فيصل الأول: حياته ودوره السياسي في سورية والعراق، تأليف علاء جاسم محمد (بغداد 1990)
- الحكم الحزبي في سورية أيام العهد الفيصلي، تأليف سهيلة الريماوي (عمّان 1997)
- المعارضة البرلمانية في العراق في عهد الملك فيصل الأول، تأليف حسين الرهيمي (بغداد 2007)
- الفندق الكبير: المذكرات السرية لفيصل بن الحسين، تأليف مهند مبيضين (عمّان 2016)
- من الحكومة إلى الدولة: تجربة الحكومة العربية في دمشق، تأليف محمد الأرناؤوط (عمّان 2020)
- الحكومة العربية في دمشق: التجربة المبكرة للدولة العربية الحديثة (الدوحة 2020)
- أوراق الملك فيصل الأول، تأليف الدكتور محمد العبادي (بغداد، 2020)
- الملك فيصل الأول: أدواره التاريخية مشروعاته النهضوية، تأليف الدكتور سيّار الجميل (الدوحة 2021)
جمع الصحفي السوري سامي الشمعة مذكرات فيصل إلى مؤتمر الصلح ومراسلاته مع البريطانيين، وقام المؤرخ العراقي علي علاوي بوضع كتاب مرجعي عن حياة فيصل باللغة الإنجليزية، صدر عن جامعة ييل الأمريكية سنة 2014. وفي سنة 1996 جسّد الممثل عبد الحكيم قطيفان شخصية الملك فيصل في الجزء الأول من المسلسل السوري أخوة التراب.
المناصب
ملك سورية (8 آذار – 24 تموز 1920)
- سبقه في المنصب: لا يوجد
- خلفه في المنصب: ألغي المنصب
ملك العراق (23 آب 1921 – 8 أيلول 1933)
- سبقه في المنصب: لا يوجد
- خلفه في المنصب: الملك غازي