الكتلة الوطنية، تنظيم سياسي عمل ضد الانتداب الفرنسي في سورية من 25 تشرين الأول 1927 ولغاية جلاء القوات الفرنسية في 17 نيسان 1946. ولدت الكتلة الوطنية في أعقاب الثورة السورية الكبرى وكان هدفها الوحيد تحقيق الاستقلال التام وغير المشروط عبر العمل السياسي لا العسكري. نشطت بين العائلات السياسية الكبرى وداخل المدن السورية، وقد خاضت عدة معارك سياسية، كان أولها معركة دستور عام 1928، تلاها الإضراب الستيني ومفاوضات باريس التي أدّت إلى توقيع معاهدة عام 1936.
وصلت الكتلة الوطنية إلى الحكم عبر انتخابات عامة أجريت سنة 1936، أوصلت رئيس الكتلة هاشم الأتاسي إلى رئاسة الجمهورية وعميدها فارس الخوري إلى رئاسة مجلس النواب، مع تكليف جميل مردم بك برئاسة حكومة الكتلة الوطنية الأولى. وقد استمر العهد الوطني من كانون الأول 1936 ولغاية تموز 1939، عندما أجبر الرئيس الأتاسي على الاستقالة بسبب سلخ منطقة لواء اسكندرون عن سورية ورفض البرلمان الفرنسي التصديق على معاهدة عام 1936. عادت الكتلة الوطنية إلى الحكم مع انتخاب شكري القوتلي رئيساً للجمهورية سنة 1943 وخاضت المرحلة الأخيرة من المفاوضات السياسية التي أسفرت عن جلاء القوات الفرنسية عن سورية سنة 1946.
البداية
كانت البداية في تشرين الأول 1926، مع تعيين هنري بونسو مفوضاً سامياً لجمهورية الفرنسية في سورية ولبنان. جاء ذلك بعد سنة واحدة من قصف الفرنسيين لمدينة دمشق خلال الثورة السورية الكبرى وإحراق العديد من قرى جبل الدروز والغوطة. اجتمع بونسو مع وفد من زعماء الحركة الوطنية، برئاسة رئيس الحكومة الأسبق هاشم الأتاسي، وسمع منهم مطالب عدة، منها وقف العدوان وصدور عفو عام وتعويض عائلات المنكوبين، إضافة لدخول سورية في عصبة الأمم وسن دستور عصري يحترم تطلعات ومطالب الشعب السوري، يكون على غرار الدستور اللبناني الذي وضع في أيار 1926. حمل بونسو هذه المقترحات وسافر بها إلى باريس، ولكن الرد الفرنسي جاء بالرفض القاطع.(1)

رداً على هذا الجواب، دعا هاشم الأتاسي إلى اجتماع في بيروت يوم 25 تشرين الأول 1927، صدرت عنه بيانات مطالبة بضمان وحدة الأراضي السورية وتحقيق استقلال سورية التام. اعتبرت هذه المطالب بمثابة بيان تأسيسي للكتلة الوطنية، وقد صادق عليها عدد من أعيان البلاد، اعتبروا جميعاً هم الآباء المؤسسين للكتلة الوطنية:
هاشم الأتاسي (حمص)، إبراهيم هنانو (حلب)، مظهر باشا رسلان (حمص)، فاخر الجابري (حلب)، الدكتور عبد الرحمن كيالي (حلب)، عبد القادر كيلاني (حماة)، نجيب البرازي (حماة)، إحسان الشريف (دمشق)، الأمير سعيد الجزائري (دمشق)، يوسف العيسى (فلسطين)، عبد الحميد كرامي (طرابلس)، عارف البيسار (طرابلس)، عارف الرفاعي (طرابلس)، عبد الله اليافي (بيروت)، عبد الله بيهم (بيروت).
قررت الكتلة الوطنية اتباع سياسي “التعاون المشرف” مع الفرنسيين، والدخول في عملية سياسية طويلة المدى، تؤدي في نهايتها إلى نيل الاستقلال.(2) وقد صدر عنهم البيان التالي:
نحن نؤمن بضرورة التعاون القائم على مبدئ المصالح المشتركة وإرادة قيام كل طرف بواجباته. نحن لسنا بأي حال من الأحوال أعداء لفرنسا…إن الشعب السوري مستعد بشكل مطلق لمدّ يد الصداقة إلى فرنسا ولنسيان الماضي المؤلم عندما يتم حصوله على سيادته الوطنية وعلى تطلعاته المشروعة.
توسيع القاعدة الوطنية
وفي آذار 1928 توسعت قاعدة الكتلة الوطنية كثيراً لتضم مجموعة من السياسيين العائدين إمّا من المنفى أو من السجون، مثل سعد الله الجابري (حلب) شقيق العضو المؤسس فاخر الجابري، حسني البرازي (حماة) ابن عم العضو المؤسس نجيب البرازي، إضافة للدكتور توفيق الشيشكلي (حماة)، فوزي الغزي (دمشق)، لطفي الحفار (دمشق)، جميل مردم بك (دمشق)، فخري البارودي (دمشق) والأخوين فارس وفائز الخوري (دمشق).
كل واحد من هؤلاء جاء من خلفية مهنية، قام بتوظيفها لصالح الكتلة الوطنية. الأخوين فارس وفائز الخوري وفوزي الغزي مثلاً كانوا أستاذة في جامعة دمشق، إما لطفي الحفار فكان نائباً لرئيس غرفة تجارة دمشق، أما حسني البرازي وجميل مردم بك فكانا من الملاكين القدامى في حماة وغوطة دمشق.
وفي كتابه الشهير سورية والانتداب الفرنسي، الصادر عن جامعة برينستون سنة 1987، يقول المؤرخ الأمريكي فيليب خوري أن %90 من أعضاء الكتلة الوطنية كانوا من المسلمين السنّة، جميعهم من أبناء المدن الكبرى لا الأرياف، مع استثناء شيعي واحد هو الوجيه مهدي مرتضى، أحد وجهاء حيّ الأمين بدمشق. أما بقية أعضاء الكتلة فكانوا مقسمين على الطوائف المسيحية كافة، ليس فيهم لا يهودياً واحداً أو درزياً، باستثناء الوطني الشاب فريد زين الدين.
كما يُضيف فيليب خوري بأن %50 من أعضاء الكتلة الوطنية كانوا من مدينة دمشق، يليهم %30 من حلب و%20 كانوا موزعين بالتساوي بين مدينتي حمص وحماة. ثلث أعضاء الكتلة كانوا من العائلات الاقطاعية الكبرى، و%90 منهم كانوا متعلمين حاملين شهادات جامعية. ومن تلك المجموعة، يُظهر فيليب خوري بأن %20 كانوا يحملون شهادات عليا من جامعات أوروبية، ثلثهم في القانون الدولي.(3)

أذرع الكتلة الوطنية
وقد تعامل قادة الكتلة مع عدد من التجّار والصناعيين لتمويل مشاريعهم، مثل الحاج توفيق قباني بدمشق والحاج سامي صائم الدهر من حلب. فقد أسست الكتلة الوطنية عدة مشاريع اقتصادية لتأمين مورد دخل ثابت لها، مثل معمل الإسمنت في منطقة دمّر، الذي أنشأه فارس الخوري سنة 1932، ومعمل الكونسروة الذي أسسه شكري القوتلي بعد سنتين.(4)
كما قاموا بتأسيس جريدة الأيام الناطقة باسم الكتلة الوطنية، وقام فخري البارودي بإنشاء ذراع شبابي لكتلة، سمّي بالشباب الوطني، والذي انبثق عنه تنظيم شبه عسكري باسم القمصان الحديدية، هدفه حماية الأحياء من الجنود السنغال التابعين لجيش الشرق الفرنسي، في ظلّ غياب جيش وطني. وقد انضم إلى هذه التنظيمات الشبابية عدداً من الشباب السوريين من أمثال الدكتور أحمد السمّان، الذي أصبح رئيساً لجامعة دمشق في زمن الوحدة السورية المصرية، والصحفي منير الريّس، الذي أسس جريدة بردى، والدكتور منير العجلاني، أستاذ القانون في جامعة دمشق الذي وضع شعار الكتلة: الدين لله والطاعة للكتلة الوطنية.” (5)
انتخابات عام 1928
أول تجربة عملية للكتلة الوطنية كانت خلال الانتخابات التي أجريت في نيسان 1928، لانتخاب مؤتمر تأسيسي مكلّف بوضع دستور جمهوري للبلاد، بدلاً من الدستور الملكي الذي سقط مع سقوط حكم الملك فيصل الأول عشية فرض الانتداب الفرنسي سنة 1920. تحالفت الكتلة الوطنية في هذه الانتخابات مع رئيس الحكومة المحسوب على الفرنسيين، الشيخ تاج الدين الحسني، واتفقت معه على تقديم لوائح انتخابية مشتركة، فيها أربع أسماء من الكتلة الوطنية وست أسماء من قوائم الحكومة.(6)
ولكن هذا التحالف الانتخابي انهار سريعاً بسبب تدخل عناصر الشرطة لصالح الشيخ تاج، فأعلنت الكتلة أنها ستخوض الانتخابات منفردة.(7) وكنت النتيجة فوز الكتلة الوطنية بعشرين مقعداً من مقاعد المؤتمر التأسيسي، الذي ذهبت رئاسته إلى هاشم الأتاسي، يعاونه أستاذة القانون في جامعة دمشق، فوزي الغزي وفائز الخوري.
معركة الدستور
في مدة زمنية لم تتجاوز الأسبوعين، استطاع الأتاسي وجماعته وضع دستور كامل للدولة السورية، مستلهم من دساتير أوروبا العصرية، ليس فيه أي ذكر لنظام الانتداب الفرنسي المفروض على سورية منذ عام 1920. وقد أصر رئيس المؤتمر هاشم الأتاسي على عدم الاعتراف بحدود اتفاقية سايكس بيكو، والإشارة إلى سورية بحدودها الطبيعية. كما أعطت مسودة الدستور ، المؤلف من 115 مادة، رئيس الجمهورية السورية المنتخب حق إعلان الحرب وإبرام الاتفاقيات الدولية، مع توسيع صلاحيات مجلس النواب.(8)
اعترضت المفوضية الفرنسية العليا في بيروت على مسودة الدستور وطلبت من هاشم الأتاسي شطب المواد الإشكالية منه وإضافة المادة رقم 116، وفيها اعتراف صريح وواضح بشرعية الانتداب الفرنسي. ولكن هاشم الأتاسي رفض قبول هذه المادة، وعرض مسودة الدستور على المجلس لإقرارها بالإجماع في يوم 11 آب 1928. وقد جاء الرد الفرنسي على هذا التحدي بصدور قرار عن المندوب السامي بحلّ المؤتمر التأسيسي وتعطيل الدستور إلى أجل غير مسمّى. وفي 14 أيار 1930 قامت فرنسا بإقرار الدستور، بعد شطب المواد الإشكالية منه وإضافة المادة 116 (مادة الانتداب الفرنسي)، التي كان قد اعترض عليها بشدة جميع أعضاء الكتلة الوطنية.(9)
مجلس الكتلة الوطنية
في 3-4 تشرين الثاني 1932، دعا هاشم الأتاسي زملائه إلى مؤتمر عام عُقد في مدينة حمص، أنتُخب فيه رئيساً مدى الحياة للكتلة الوطنية، ينوب عنه في غيابه نسيب البكري. كما سمّي فارس الخوري عميداً للكتلة إبراهيم هنانو زعيماً لها، مع تعيين شكري القوتلي وجميل مردم بك أعضاء في المجلس الدائم للكتلة الوطنية. وقد قدم التاجر الدمشقي أمين دياب منزلاً في حيّ القنوات لإقامة مكتب الكتلة الوطنية بدمشق، وبجواره أقام فخري البارودي مركزاً للدراسات تابع الكتلة، سمّي بمكتب البارودي للدعاية والأنباء. وكان الهدف منه تتبع القضية السورية في الصحف الفرنسية والعالمية ووضع دراسات عن القضايا العربية الكبرى، ترفع إلى رئيس الكتلة هاشم الأتاسي.

انتخابات عام 1932
شاركت الكتلة الوطنية في الانتخابات النيابية التي جرت في كانون الأول 1931 – كانون الثاني 1932، ولكنها تعرضت لضربة قاسية عند هزيمة قائمتها في حلب، التي كانت برئاسة إبراهيم هنانو. وقد اتهمت حكومة الشيخ تاج مجدداً بالتزوير والتلاعب بنتائج الانتخابات، على الرغم من فوزها بسبعة عشر مقعداً من مقاعد المجلس النيابي. وفي هذه الانتخابات، حصدت قائمة رئيس الدولة الأسبق صبحي بركات غالبية الأسواط، وحصلت على كتلة نيابية ضخمة ممثلة عن شمال سورية، قوامها 28 نائباً، غالبيتهم محسوبين على الانتداب الفرنسي.(10)
التنافس على رئاسة البرلمان
وعند عقد أولى جلسات المجلس النيابي في 7 حزيران 1932، تجمهر شباب الكتلة حول مبنى البرلمان، مطالبين باستقالة صبحي بركات ونواب حلب المحسوبين على فرنسا. وفي حلب، أعلنت الكتلة الوطنية عن إضراب عام احتجاجاً على سقوط إبراهيم هنانو في هذه انتخابات، وقامت بإغلاق جميع متاجر المدينة وأسواقها. وفي الجلسة الأولى، تقدم هاشم الأتاسي بالترشح لرئاسة المجلس النيابي، ضد صبحي بركات وحاكم دولة دمشق الأسبق حقي العظم. وكانت نتيجة المرحلة الأولى من الاقتراع 17 صوت لصالح هاشم الأتاسي، 28 صوت لصبحي بركات، و23 صوت لحقي العظم. وبما أن أيّ منهم لم يحصل على ثلثي أصوات المجلس، عُقدت جلسة ثانية انسحب منها هاشم الأتاسي وفاز صبحي بركات برئاسة البرلمان.
انتخابات الرئاسة سنة 1932
وقد تكررت المنافسة بين الأتاسي وبركات في انتخابات رئاسة الجمهورية التي أجريت داخل مجلس النواب، وقد ترشح ضدهم كل من حقي العظم وتاج الدين الحسني ورئيس الحكومة الأسبق رضا باشا الركابي ووزير المالية الأسبق محمد علي العابد. وعندما أدركت الكتلة الوطنية أن فرص نجاح هاشم الأتاسي باتت معدومة بسبب فقدانه الكلي لأي صوت من أصوات الشمال، قررت سحب ترشيحه ودعم المرشح المستقل محمد علي العابد، الذي فاز على صبحي بركات وأصبح أول رئيساً للجمهورية في 11 حزيران 1932.(11)
ولكن دعم الكتلة الوطنية للرئيس العابد لم يستمر إلا أياماً معدودة فقط وقد انهار لحظة تكليف حقي العظم بتشكيل أول حكومة في العهد الجديد يوم 15 حزيران 1932. اعترضت قيادة الكتلة على هذا التكليف، معتبرة أن حقي العظم كان مثله مثل صبحي بركات، من حلفاء الانتداب الفرنسي في سورية. ولكن شرخاً قد حصل داخل الكتلة يومها، عند قبول اثنين من أعضائها المشاركة في حكومة العظم، وهما مظهر رسلان، الذي عيّن وزيراً للعدل والمعارف، وجميل مردم بك، الذي أصبح وزيراً للمالية والزراعة. ولكنهم أجبروا على الاستقالة في نيسان 1933، تحت ضغط من إبراهيم هنانو، الذي هددهم بالفصل من الكتلة الوطنية في حال بقاءهم في حكومة محسوبة على الفرنسيين.(12)
الإضراب الستيني
في 21 تشرين الثاني 1935، توفي إبراهيم هنانو في حلب وخرجت له جنازة حاشدة، تقدمها زملاءه في الكتلة الوطنية رافعين شعارات مناهضة للانتداب الفرنسي. وخلال الجنازة حصلت صدامات دامية بين جنود السنغال والمشيعين، قتل على أثرها عدداً من أنصار الكتلة. فخرجت لهم جنازات كبرى مع مزيد من المواجهات، فردت فرنسا باقتحام منزل هنانو في حلب، الذي كانت الكتلة الوطنية قد أعلنته “بيتاً للأمة” على غرار بيت سعد زغلول في القاهرة. صادرت فرنسا كل ما في منزل هنانو من وثائق ومستندات، واستمرت المواجهات الدامية حتى 20 كانون الثاني 1936، عندا أمرت سلطة الانتداب باعتقال نائب دمشق فخري البارودي، المتهم الأول في كل المظاهرات التي حدثت في سورية منذ وفاة هنانو قبل شهرين.
احتجاجاً على اعتقال البارودي وسيقه من منزله مهاناً أمام سكان حيّ القنوات، دعت الكتلة الوطنية إلى إضراب عام يوم 27 كانون الثاني 1936، استمر ستون يوماً وأطلق عليه اسم الإضراب الستيني. جاءت الدعوة إلى الإضراب الستيني على لسان جميل مردم بك، وانتشر الإضراب سريعاً من دمشق إلى حلب ومن ثم إلى كافة المدن السورية، لم تفتح خلاله سوى الأفران لتأمين حاجات الناس. في 4 شباط 1936 وصل الإضراب إلى حماة وبعدها بستة أيام إلى مدينة دير الزور وريفها. وفي الجامع الأموي بدمشق وقف عشرون ألف مصلياً مع زعماء الكتلة الوطنية، مطالبين بإنهاء الانتداب الفرنسي واستقالة رئيس الجمهورية محمد علي العابد.(13) وعندنا توجه الرئيس العابد إلى حلب للوقوف على آخر المستجدات، برفقة رئيس الحكومة تاج الدين الحسني، قام سعد الله الجابري بمنعهم من دخول الجامع الكبير وأوعز إلى أنصاره برشق رئيس الجمهورية بالبيض الفاسد، ما أدى إلى اعتقاله.
جاء الرد الفرنسي بإغلاق مكاتب الكتلة الوطنية ووضع كل من شكري القوتلي ونسيب البكري ولطفي الحفار قيد الإقامة الجبرية في منازلهم. كما تم اعتقال جميل مردم بك ونفيه إلى بلدة أعزاز على الحدود السورية التركية، ونفي رياض الصلح، حليف الكتلة الوطنية في لبنان، إلى مدينة القامشلي. ومن ثم قامت سلطة الانتداب الفرنسي بطرد فارس الخوري من عمادة كلية الحقوق في جامعة دمشق وفصل شقيقه فائز الخوري من هيئتها التدريسية.
في نهاية المطاف، رضخت فرنسا لمطالب الكتلة الوطنية وقامة بداية بتنحية الشيخ تاج عن رئاسة الحكومة السورية واستبدلته بالسياسي المستقل عطا الأيوبي، المقرب من رئيس الكتلة هاشم الأتاسي. وقد توجه الأيوبي إلى بيروت لبدأ مفاوضات مع المفوضية الفرنسية العليا، أسفرت عن اتفاق يؤدي إلى فكّ الإضراب مقابل إطلاق سراح كل الموقوفين، وفي مقدمتهم فخري البارودي، وسفر وفد من الكتلة الوطنية إلى باريس للتفاوض على مستقبل سورية. وقد اعترفت فرنسا يومها بالكتلة الوطنية كممثل شرعي ووحيد للشارع السوري الثائر ضد حكم الانتداب الفرنسي.

معاهدة عام 1936
بعد الإعلان عن هذا الاتفاق، قامت الكتلة الوطنية بوضع شريط أخضر على مدخل سوق الحميدية، أشهر أسواق دمشق، وطلبت من هاشم الأتاسي قطعه، معلنة إنهاء الإضراب الستيني. وقد شكّل الوفد السوري المفاوض برئاسة الأتاسي وعضوية كل من فارس الخوري وسعد الله الجابري وجميل مردم بك، يعاونهم ثلاث أعضاء من الكتلة وهم نعيم أنطاكي (مشاوراً قانونياً) وأحمد اللحام (مستشاراً عسكرياً) ورياض الصلح (مستشاراً سياسياً). وعند سفر الوفد إلى فرنسا تم تعيين شكري القوتلي رئيساً بالوكالة للكتلة الوطنية، نيابة عن هاشم الأتاسي.
مكث الوفد السوري في فرنسا من آذار ولغاية شهر أيلول من العام 1936. وقد تفاوض بداية مع حكومة إدوارد دالادير ومن ثم مع حكومة الرئيس ليون بلوم، وتوصل إلى معاهدة تنص على استقلال سورية التدريجي، مقابل سلسلة من الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية والثقافية. وافق وفد الكتلة على تعيين مستشارين فرنسيين في كل مفاصل الدولة السورية، مع إعطاء فرنسا حق الانتفاع من الأراضي السورية والمطارات العسكري والمدنية في حال نشوب حرب جديدة في أوروبا. كما وافقوا على إعطاء فرنسا حق تدريب وتسليح الجيش السوري عند إنشاءه، وفي المقابل، وافقت حكومة الرئيس بلوم على توسيع صلاحيات الحكومة السورية، واستعادة منصب وزير الخارجية الذي كانت فرنسا قد ألغته منذ سنة 1920، كما سمحت بإنشاء وزارة للدفاع (علماً أن الجيش السوري كان قد حلّ منذ معركة ميسلون). وأخيراً، وافقت فرنسا على ضم جبل العلويين وجبل الدروز إلى سورية، منهية مرحلة من الحكم الذاتي عمرها ستة عشر سنة.(14)

انتخاب هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية سنة 1936
عاد وفد الكتلة الوطنية إلى سورية رافعاً شعار النصر، حيث استقبل استقبالاً جماهيرياً حاشداً، نظمه سعد الله الجابري عبد الرحمن كيالي في حلب، وفي دمشق، أشرف عليه شكري القوتلي وفخري البارودي. وعلى الفور استقال محمد علي العابد من منصبه، فاتحاً المجال أمام إجراء انتخابات نيابية ورئاسية مبكرة. فازت الكتلة الوطنية بهذه الانتخابات، لتكون لها غالبية مقاعد مجلس النواب، وانتُخب فارس الخوري لرئاسة البرلمان وهاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية، دون أي اعتراض أو منافسة، في 21 كانون الأول 1936. وقد كُلّف جميل مردم بك بتشكيل حكومة الكتلة الوطنية الأولى، التي جاءت على الشكل التالي:
جميل مردم بك (رئيساً للوزراء ووزيراً للاقتصاد)
سعد الله الجابري (وزيراً للخارجية والداخلية)
شكري القوتلي (وزيراً للدفاع والمالية)
الدكتور عبد الرحمن كيالي (وزيراً للعدل والمعارف)
حكومة جميل مردك بك (كانون الأول 1936 – شباط 1939)
افتتحت الحكومة المردمية أعمالها بإرسال معاهدة عام 1936 إلى المجلس النيابي، حيث تم إقرارها بالإجماع. ولكن البرلمان الفرنسي رفض المصادقة عليها بالمثل، خوفاً من تراجع نفوذ فرنسا في الشرق الأوسط، ما أجبر الرئيس مردم بك إلى العودة إلى باريس للتوقيع على عدة ملاحق، ضمن فيها حق اللغة الفرنسية في سورية، وحق الأقليات، وحق التنقيب عن النفط. ولكن كل ذلك لم يقنع البرلمان الفرنسي بضرورة الموافقة على العاهدة، وظلّت حبراً على ورق.
وقد تعرض العهد الجديد إلى عدة تحديات داخلية، منها ثورة انفصالية في منطقة الجزيرة، أدّت إلى اختطاف المحافظ توفيق شامية، وهو من قادة الصف الأول في الكتلة الوطنية.(15) وعند وقوع هذه الحادثة، هرب محافظ اللاذقية إحسان الجابري من مكتبه، خوفاً من الاغتيال. وفي داخل السلطة التنفيذية، استقال شكري القوتلي من الحكومة احتجاجاً على توقيع الرئيس مردم بك على تجديد اتفاقية النقد مع فرنسا، مستغلاً سفره إلى الحجاز ودون الأخذ برأيه بصفته وزيراً للمالية.
ولكن التحدي الأكبر كان في عودة زعيم المعارضة الدكتور عبد الرحمن الشهبندر من منفاه في مصر يوم 14 أيار 1937. وقد هاجم الشهبندر معاهدة عام 1936 بشدّة، معتبراً أنها أعطت فرنسا الكثير ولم تأخذ بالمقابل وعد صريح بالاستقلال. رد رئيس الحكومة جميل مردم بك بوضع الشهبندر قيد الإقامة الجبرية في منزله الصيفي في بلدة بلودان ومنعه من تأسيس حزب سياسي، كما قام باعتقال عدداً من أنصاره، مثل الصحفي نصوح بابيل والدكتور منير العجلاني، المنشق عن تنظيم الكتلة الوطنية.(16)
وكانت الطامة الكبرى في سلخ منطقة لواء إسكندرون التدريجي عن سورية وضمها إلى أراضي الجمهورية التركية. اتُهم جميل مردم بك بالتقصير في حماية اللواء من مطامع تركيا، وقد وصلت الاتهامات لدرجة القول بأنه تنازل عنه لصالح الرئيس التركي كمال أتاتورك.(17) وقد اتخذ الشهبندر من قضية لواء إسكندرون ذريعة لفتح النار على الحكومة المردمية، مطالباً باستقالة جميل مردم بك ومحاسبته.
حكومة لطفي الحفار (23 شباط – 5 نيسان 1939)
تحت كل هذه الضغوطات، استقال جميل مردم بك من منصبه وخلفه الزعيم الكتلوي لطفي الحفار في رئاسة الحكومة يوم 23 شباط 1939. كان الحفار مقرباً من الرئيس هاشم الأتاسي وقد شكّل حكومة مصغرة، ذهبت كل حقائبها لقادة الكتلة الوطنية:
لطفي الحفار (رئيساً للوزراء ووزيراً للمعارف)
مظهر رسلان (وزيراً للداخلية والدفاع)
فائز الخوري (وزيراً للخارجية والمالية)
نسيب البكري (وزيراً للعدلية)
وكان المستقل الوحيد في حكومة الحفار هو سليم جنبرت، الذي عُيّن وزيراً للاقتصاد الوطني. ولكن الحكومة فشلت في تحقيق أي اختراق في المفاوضات الجارية حول معاهدة عام 1936، ما أجبر لطفي الحفار على الاستقالة في 5 نيسان 1939.
حكومة نصوحي البخاري (5 نيسان – 8 تموز 1939)
ذهبت رئاسة الحكومة من بعدها إلى الضابط المتقاعد والمستقل نصوحي البخاري، الذي لم يسمّي أي من أعضاء الكتلة وزراء في حكومته. وقد فضّل التعامل مع شخصيات مستقلة مثله، فجاء بخالد العظم إلى وزارة الخارجية وبحسن الحكيم، المحسوب على المعارضة، وزيراً للمالية. وعندما فشلت هذه الحكومة في تعطيل المراحل الأخيرة من سلخ اللواء عن سورية ولم تحقق أي منجز في قضية المعاهدة، قدم الرئيس البخاري استقالته من رئاسة الحكومة، ولحقه هاشم الأتاسي من رئاسة الجمهورية بتاريخ 8 تموز 1939، منهياً عهد الكتلة الوطنية الأول.
الكتلة الوطنية في صفوف المعارضة (1939-1943)
غابت الكتلة الوطنية عن أي منصب حكومة في حكومة المديرين التي شكّلها الرئيس بهيج الخطيب في 9 تموز 1939. وقد أمرت فرنسا بتعطيل الدستور وحلّ مجلس النواب، نظراً لقرب اندلاع الحرب العالمية الثانية في أوروبا. وقامت حكومة المديرين بملاحقة جميل مردم بك، الذي هرب إلى بيروت تجنباً للاعتقال، كما أغلقت مكتب فخري البارودي وألقت القبض على عدد من أعضاء الكتلة بتهمة التعامل مع أدولف هتلر، منهم عادل العظمة والحاج أديب خير. وفي 6 تموز 1940، اغتيل الدكتور عبد الرحمن الشهبندر في عيادته الطبية بدمشق، ووجهت أصابع الاتهام إلى كل من جميل مردم بك وسعد الله الجابري ولطفي الحفار، ما أدى إلى هروبهم إلى العراق. شكلت الكتلة الوطنية فريقاً من المحاميين اللبنانيين للدفاع عنهم، مؤلف من إميل لحود وحبيب أبو شهلا، وبعد محاكمة غيابية، سقطت عنهم كل الاتهامات وعادوا إلى سورية، مع إثبات براءتهم الكاملة من دمّ الشهبندر.(18)
كما غابت الكتلة الوطنية عن حكومة الرئيس خالد العظم سنة 1941، التي شهدت دخول الجيش البريطاني إلى سورية، برفقة قوات فرنسا الحرة، لمحاربة وطرد القوات الفيشية الموالية لأدولف هتلر. وقد جاء الجنرال شارل ديغول إلى دمشق ووعد السوريين بتحقيق مطلب الاستقلال، شرط بقاء الجيش الفرنسي في سورية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. اجتمع الجنرال ديغول مع هاشم الأتاسي، وعرض عليه العودة إلى الحكم ولكنه رفض، نظراً لإصرار الفرنسيين على عدم تطبيق معاهدة عام 1936.(19) فذهب رئاسة الجمهورية يومها إلى الشيخ تاج الدين الحسني، الخصم اللدود للكتلة الوطنية، وعاد الأتاسي وجماعة الكتلة الوطنية إلى صفوف المعارضة.
ومن هذا الموقع، قبلت الكتلة المشاركة في حكومة الرئيس حسن الحكيم، يوم 20 أيلول 1941، ممثلة بفائز الخوري وزيراً للخارجية وفيضي الأتاسي وزيراً للمعارف. كما تعاونت مع حكومة حسني البرازي، المنشق عن الكتلة الوطنية، الذي سمّى فائز الخوري مجدداً في حقيبة الخارجية يوم 8 نيسان 1942. كما جدد تكاليف الخوري بذات الحقيبة في حكومة الرئيس جميل الألشي، من كانون الثاني ولغاية آذار 1943.
العودة إلى الحكم سنة 1943
توفي الشيخ تاج وهو في سدة الرئاسة يوم 17 كانون الثاني 1943 وتقرر إجراء انتخابات رئاسية ونيابية مبكرة. خاصت الكتلة الوطنية تلك الانتخابات بكامل ثقلها السياسي، ورشحت شكري القوتلي لرئاسة الجمهورية بعد حصوله على مباركة من الرئيس هاشم الأتاسي. وعند فوزه بالرئاسة الأولى وتسلمه مهامه الدستورية في 17 آب 1943، عاد جميع قادة الكتلة الوطنية إلى صدارة الحياة السياسية في سورية.

حكومة سعد الله الجابري (19 آب 1943 – 14 تشرين الثاني 1944)
تم انتخاب فارس الخوري رئيساً لمجلس النواب وكلُّف سعد الله الجابري بتشكيل الحكومة، التي ذهبت جميع حقائبها، باستثناء حقيبتي الخارجية والمعارف، إلى قادة الكتلة الوطنية. وقد نالت الكتلة الحقائب التالية في حكومة الجابري الأول: وزارة الخارجية (جميل مردم بك)، وزارة الداخلية (لطفي الحفار)، وزارة العدلية (الدكتور عبد الرحمن كيالي)، وزارة الأشغال العامة والتموين (مظهر رسلان)، وزارة التجارة والزراعة (توفيق شامية).
وفي 7 تشرين الأول 194، اجتمع في الإسكندرية بدعوة من الملك فاروق ممثلين عن الحكومات العربية، وقرروا تأليف جامعة الدول العربية. وقد شارك في اجتماعات التأسيس كل من رئيس الحكومة سعد الله الجابري ووزير الخارجية جميل مردم بك.
حكومة فارس الخوري (14 تشرين الثاني 1944 – 7 نيسان 1945)
بعد استقالة حكومة الجابري ونقل رئيسها إلى رئاسة مجلس النواب، كلّف الرئيس القوتلي عميد الكتلة الوطنية فارس الخوري بتشكيل الحكومة الجديدة. وقد ذهبت معظم الحقائب مجدداً لقادة الكتلة الوطنية: وزارتي الداخلية والمعارف (فارس الخوري)، وزارتي الخارجية والدفاع (جميل مردم بك)، وزارتي العدل والأشغال العامة (الدكتور عبد الرحمن كيالي).
وفي 7 نيسان 1945، أجرى فارس الخوري تعديلاً وزارياً وعيّن محامي الكتلة الوطنية وأحد رموزها الحلبيين نعيم أنطاكي في وزارة المالية وجاء بصبري العسلي، وهو من قادة الكتلة بدمشق، إلى وزارة الداخلية. وفي عهد هذه الوزارة شاركت سورية في تأسيس منظمة الأمم المتحدة في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية، وكان وفدها الدائم برئاسة فارس الخوري.
العدوان الفرنسي: 29 أيار 1945
نظراً للاتفاقات الثنائية التي وصل إليها الرئيس شكري القوتلي مع رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل في شباط 1945، حصل تدهور كبير في العلاقات السورية الفرنسية خلال المراحل الأخيرة من الحرب العالمية الثانية. وفي 29 أيار 1945، وقع عدوان فرنسي على مدينة دمشق، كان الهدف منه اعتقال كل من رئيس الجمهورية شكري القوتلي ورئيس مجلس النواب سعد الله الجابري ووزير الخارجية جميل مردم بك. وقد أدى هذا العدوان إلى تدمير مبنى البرلمان وقلعة دمشق، كما أحرق حيّ سوق ساروجا، قبل أن يصدر إنذار بريطاني شديد اللهجة في 1 حزيران 1945، وقف خله الرئيس الرئيس تشرشل، مطالباً الجنرال ديغول بسحب قواته عن سورية.
عيد الجلاء
احتفلت الكتلة الوطنية بعيد الجلاء الأول يوم 17 نيسان 1946، وشارك قادتها زميلهم الرئيس القوتلي في رفع علم الاستقلال فوق مبنى السراي الحكومي في ساحة المرجة.

نهاية الكتلة الوطنية وظهور الحزب الوطني
ومن يومها، توقف عمل الكتلة الوطنية في سورية، باعتبار أن الهدف الرئيسي الذي أنشأت من أجله، وهو إنهاء الانتداب الفرنسي، قد تحقق بشكل كامل. بعد الجلاء ببضعة أشهر، وتحديداً في 29 آذار 1947، قام بعض قادة الكتلة بتأسيس الحزب الوطني واعتبروه الوريث الشرعي للكتلة الوطنية، كان الحزب برئاسة سعد الله الجابري وعضوية شخصيات كتلوية بارزة مثل جميل مردم بك ولطفي الحفار وعبد الرحمن كيالي وصبري العسلي. ولكن الرئيس القوتلي رفض الانضمام إلى هذا الحزب، بصفته رئيساً لكل السوريين، كما شاطره الرأي هاشم الأتاسي، الذي اعتبر نفسه زعيماً للحركة الوطنية، أعلى مقاماً من أي تحزب سياسي ضيّق. وقد ظل الحزب الوطني يعمل في السياسة حتى انقلاب 8 آذار 1963، عندما صدر قرار بحلّه، مع جميع الأحزاب السياسية السورية، باستثناء حزب البعث العربي الإشتراكي.