موفق عصاصة (1927 – 14 كانون الثاني 2023)، ضابط سوري خاض حرب فلسطين سنة 1948 وكان ضمن مجموعة الضباط الدمشقيين الذين قادوا انقلاب الانفصال وأطاحوا بجمهورية الوحدة مع مصر في 28 أيلول 1961.
البداية
ولد موقف عصاصة في دمشق وهو سليل عائلة دمشقية معروفة. درس في مدرسة التجهيز الأولى وانتسب إلى كلية حمص الحربية ليكون ضمن أول دفعة خريجين (دورة مأمون البيطار) في مطلع عهد الاستقلال. التحق بالجيش السوري وخاض حرب فلسطين سنة 1948، ورفض المشاركة في كل الانقلابات العسكرية التي عصفت بالبلاد من سنة 1949 ولغاية عام 1954. تدرج في مراتبه العسكرية وصولاً لتعيينه قائداً للواء الجوي في مطار المزة العسكري حيث تحمس للوحدة السورية المصرية عند قيامها في شباط 1958 وكان صهره المقدم بشير صادق ضمن الوفد العسكري الذي ذهب إلى القاهرة للمطالبة بها.
انقلاب الانفصال: 28 أيلول 1961
لم تجري الوحدة كما أراد لها عصاصة ورفاقه، وتصاعدت الانتقادات الموجهة من قبلهم بسبب تجاوزات الضباط المصريين وفي مقدمتهم المشير عبد الحكيم عامر، ممثل الرئيس جمال عبد الناصر في سورية. عُيّن عصاصة نائباً لقائد سلاح الجو اللواء وديع مقعبري، وعند سفر الأخير إلى الاتحاد السوفياتي في 1 تموز 1961، سمّي آمراً بالوكالة لسلاح الطيران. ومن هذا الموقع الحساس انتفض عصاصة مع مجموعة من رفاقه من الضباط الدمشقيين، وكان يتقدمهم المقدم عبد الكريم النحلاوي، ونفذوا انقلاباً عسكرياً صباح يوم 28 أيلول 1961. الهدف منه كان تصويب أخطاء الوحدة وتصحيحها، وليس القضاء عليها بشكل كامل. قبل وفاته بسنوات تحدث عصاصة عن هذا الهدف في حوار أجراه معه الباحث السوري الدكتور فيصل طلس، نُشر لاحقاً في مجلة المجلّة، جاء فيه:
إنني أرفض تسمية ما حصل بالحركة الانفصالية، وأقسم لك أننا لم نكن نريد الانفصال عن مصر، وكان أقصى ما نريده هو إيصال صوتنا إلى عبد الناصر، ويزعجني حتى اليوم أنه يُشار إلينا باعتبارنا “ضباط الانفصال” لأننا وحدويون حتى العظم، ومخلصون لمبادئنا.
طلب إلى عصاصة حمل مطالب “الضباط الشّوام” إلى مكتب المشير عامر بدمشق فدخل عليه وقدّم له التحية العسكرية. سأله المشير: “ما هذا الذي تقومون به؟ هذه خيانة للوحدة والمبادئ ولكل تعهداتكم السابقة” رد عصاصة بكل احترام وقال: “نحن ما زلنا على العهد يا سيدي، ونريد الحفاظ على الوحدة التي ما زلنا نؤمن بها، لكنّ هناك مطالب ما عاد بالإمكان التغاضي عنها بعدما غدت الأمور عصيّة على الحل”
وعندما سمع المشير مطالب عصاصة ورفاقه لم يُبدِ أية اعتراض وقال إنه سينقلها هاتفياً إلى عبد الناصر. رد الرئيس المصري كان واضحاً ويقضي بإشغال النحلاوي وعصاصة لفترة ريثما يتم إعداد القوات المصرية للتصدّي لهم وسحق انقلابهم. فوجئ عصاصة ورفاقه بخديعة عبد الحكيم عامر وقرروا التدخُّل فوراً لإحباط خطته وترحيله عن سورية والانفصال نهائياً عن مصر.
انقلاب البعث: 8 آذار 1963
في 8 آذار 1963، حصل انقلاب مجموعة من الضباط الناصريين والبعثيين على جمهورية الانفصال. اعتقلوا رئيس الجمهورية ناظم القدسي وأصدروا مرسوماً بعزله مدنياً مع عدد من الشخصيات المتهمة بانقلاب الانفصال – أو ما سمّي يومها بجريمة الانفصال – وكان من ضمنهم موفق عصاصة، الذي رُفّع إلى رتبة لواء قبل تسريحه من الجيش واعتقاله. مثل أمام محكمة الأمن القومي وطلب القاضي صلاح الضلّي بإنزال عقوبة الإعدام بحقه. لكن رئيس الدولة أمين الحافظ حال دون تنفيذ الحكم وأطلق سراحه.
السفر إلى الولايات المتحدة والوفاة
بعد خروجه من السجن، مُنع عصّاصة من العمل في ميدان الطيران، ومُنع أيضاً من السفر خارج سورية. حصل على راتب تقاعدي زهيد من الجيش وعاشت أسرته ظروفاً ماديّة صعبة، ما اضطره لقبول وظيفة مراقب عمّال في ورشات البناء. حاول دراسة الهندسة المدنية في جامعة دمشق ولكنه لم يتخرج، وفي منتصف الثمانينات غادر إلى الولايات المتحدة واستقر في ولاية كاليفورنيا للعمل في مجال المقاولات، وفيها توفي عن عمر ناهز 96 عاماً في 14 كانون الثاني 2023.
المناصب
آمراً بالوكالة لسلاح الطيران (1 تموز – 19 تشرين الأول 1961)
الدقاقين، حيّ تاريخي في مدينة دمشق القديمة، يقع عند التقاء سوق البزورية مع سوق مدحت باشا ويصل إلى الباب الصغير، وهو الفاصل بين الشاغور الجواني ومأذنة الشحم. يتفرع من الحيّ – المعروف أيضاً بزقاق الدقاقين – جادتان، الأولى سمّيت بجادة الإصلاح نحو الشرق، والثانية جادة الصمادية غرباً.ويعود سبب تسمية الحيّ إلى تمركز حرفيي النسيج فيه، وعملهم الأساسي كان دقّ قطع القماش الحريرية التقليدية التي اشتهرت بها دمشق مثل الصاية والديمة والألاجة.
عُرف الحيّ قديماً بدوره الفسيحة وحركته التجارية الغنية، وفيه كانت تُفرّغ البضائع وتوّزع على مختلف الأسواق التجارية. حافظ حيّ الدقاقين على صفته التجارية ويُعرف اليوم رسمياً بشارح حسن الخرّاط، نسبة لأحد أشهر مجاهدي وشهداء الثورة السورية الكبرى.
مع انتخاب هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية صدر عفو عن الأخوين العظمة نهاية العام 1936. عادا إلى دمشق وسمّي نبيه محافظاً على منطقة لواء إسكندرون، وعُيّن عادل محافظاً على اللاذقية ولكنّه هرب منها بعد أشهر من تعيينه خوفاً من الاعتقال أو الإغتيال بعد حادثة اختطاف زميله توفيق شامية، محافظ الجزيرة. عاد إلى دمشق وسمّي أميناً عاماً لوزارة الداخلية. هرب نبيه إلى إسطنبول عشية سقوط الحكم الوطني سنة 1939 وبقي عادل في منصبه لنهاية العام نفسه، عندما صدر قرار بصرفه عن الخدمة من قبل رئيس حكومة المديرين بهيج الخطيب، الذي وجه إليه تهمة التعاطف مع النازية. هرب العظمة إلى مدينة صوفيا، عاصمة بلغاريا، قبل أن يصدر الخطيب أمراً باعتقاله وانتقل بعدها إلى العراق لمساندة ثورة رشيد عالي الكيلاني ضد الإنجليز في آذار 1941.
دخل المجلس النيابي في الانتخابات الفرعية التي أقيمت بعد شغور مقعد نائب دمشق محمد علي العابد، يوم انتخابه رئيساً للجمهورية في حزيران 1932. حل الصلح في مقعده ممثلاً عن الكتلة الوطنية وأُعيد انتخابه مرتين كانت آخرها سنة 1943 عند ترشحه على قائمة الرئيس شكري القوتلي. شارك في الإضراب الستيني الذي أطلقته الكتلة سنة 1936، وكان حاضراً في مفاوضات بيروت بين هاشم الأتاسي والمندوب السامي الفرنسي هنري دي مارتيل، التي أنهت الإضراب وأدت إلى سفر وفد رفيع من الكتلة برئاسة الأتاسي، إلى فرنسا للتفاوض على مستقبل سورية.
دعا العظمة إلى عقد اجتماع كبير في داره بدمشق يوم 29 آذار 1947، بحضور ما يزيد عن 60 شخصية سياسية، معظمهم أعضاء سابقون في الكتلة الوطنية التي حلّت مع جلاء الفرنسيين سنة 1946. تقرر في هذا الاجتماع إطلاق الحزب الوطني وريثاً للكتلة الوطنية، وحصل العظمة على تأييد من رئيس الجمهورية ومن الرئيس الأسبق هاشم الأتاسيوسلطان باشا الأطرش، قائد الثورة السورية الكبرى ضد الفرنسيين سنة 1925. وضع شعاراً لحزبه “حرية – عدالة – مساواة” وجاء في ميثاق الحزب تمسك سورية بالعروبة والمطالبة بتحرير الوطن العربي من الاحتلال الأجنبي.
نشب خلاف كبير بين العظمة والقوتلي في أثناء حرب فلسطين سنة 1948، حيث اتهمه بسوء الإدارة وحمّله وزر هزيمة الجيش السوري في فلسطين. تفاجأ الجميع بموقف العظمة المؤيد للانقلاب العسكري الذي أطاح بحكم القوتلي في 29 آذار 1949، بقيادة حسني الزعيم. لم يتسلم أي منصب في عهد الزعيم، وأعلن في 5 أيار 1949 اعتزاله العمل السياسي. ولكنه سرعان ما تراجع عن الاستقالة وعن دعمه للزعيم وبارك الانقلاب العسكري الذي أطاح به في 14 آب 1949. عمل لأجل الوحدة السورية – العراقية ونُفي إلى لبنان في كانون الأول 1951، يوم انقلاب أديب الشيشكلي على حكومة حزب الشعب ورئيسها الدكتور معروف الدواليبي. وبقي العظمة مقيماً في بيروت – حيث توفي شقيقه ورفيق دربه عادل – لغاية سقوط حكم الشيشكلي في شباط 1954.
الوفاة
ظلّ العظمة حاضراً في المجتمع السياسي الدمشقي، دون أن يتولّى أي منصب، وكان آخر ظهور له في تموز 1963 لتهنئة الفريق لؤي الأتاسي على تسلّمه قيادة مجلس الثورة في سورية. عاش سنواته الأخيرة بدمشق وفيها توفي عن عمر ناهز 86 عاماً. سمّي شارع باسمه في العاصمة الأردنية وفي سنة 1991 جُمعت أوراقه في كتاب الرعيل العربي الأول: أوراق نبيه وعادل العظمة، قدمت له وحققته الباحثة الفلسطينية الدكتورة خيرية قاسمية بإشراف الباحث والبروفيسور عزيز العظمة.
ميخائيل إليان (1905 – غير معروف)، سياسي سوري من حلب وأحد أركان الكتلة الوطنية في زمن الانتداب الفرنسي. كان وزيراً للخارجية في حكومة الرئيس فارس الخوري سنة 1945، وفي مطلع عهد الاستقلال شارك في تأسيس الحزب الوطني وانتخب أميناً عاماً لفرعه بحلب. وفي سنة 1956 هرب من سورية إلى تركيا إبان اتهامه بمحاولة انقلاب ضد المصالح المصرية والسوفيتية بدمشق، وحُكم عليه بالإعدام غيابياً.
البداية
ولد ميخائيل إليان في حلب وهو سليل عائلة مسيحية عريقة وثرية. الكثير من المصادر تقول إنه تولد سنة 1880 ولكنه في الحقيقة من مواليد عام 1905. درس في مدارس حلب الأرثوذكسية وانتسب إلى الكتلة الوطنية سنة 1932.
كشف أمرهم من قبل أجهزة المخابرات السورية وأمر السراج باعتقالهم بعد رفع الحصانة النيابية عنهم. تمكن إليان من الهرب إلى تركيا قبل صدور مذكرة توقيف بحقه، واعتقل العجلانيوالأتاسي وظلّوا سجناء حتى صدور أمر بنقلهم إلى الإقامة الجبرية في الإسكندرية في زمن الوحدة السورية المصرية سنة 1960.
الوفاة
حُكم ميخائيل إليان غيابياً أمام محكمة مخصصة لدمشق، برئاسة الضابط الشيوعي عفيف البزري الذي حكم عليه بالإعدام. لم يعد إلى سورية من يومها وظلّ مقيمياً في تركيا لغاية وفاته.
أنور المرابط (1909 – 1 كانون الثاني 1984) ممثل وكاتب ومخرج سوري من دمشق، كان أحد روّاد الحركة المسرحية في سورية وله يعود الفضل في اكتشاف عدد من الفنانين الكبار، منهم أنور البابا ورفيق سبيعي. لم يشارك في الأعمال التلفزيونية عند تأسيس التلفزيون السوري سنة 1960 وظلّ يعمل في المسرح، ما أثّر على نجوميته وحدّ كثيراً من انتشاره، إلى أن عاد وظهر في أفلام سينمائية مع نجوم كبار، مثل دريد لحام وفريد شوقي، محمد رضا، ومطربين عرب مثل سميرة توفيقووليد توفيق.
البداية
ولد أنور المرابط في دمشق وتعود أصول عائلته إلى الجزائر، هاجر أجداده إلى دمشق مع الأمير عبد القادر الجزائري في خمسينيات القرن التاسع عشر. درس في مكتب عنبر وفيه برّع في العروض المسرحية مع زملائه الطلاب في نهاية العام الدراسي. قرر امتهان التمثيل وعمل مع فرق مسرحية مصرية أثناء زيارتها دمشق، مثل فرقة جورج أبيضوفرقة يوسف وهبي. وعن هذه المرحلة المبكرة من مسيرته يقول المرابط:
كانت الفرق المصرية الزائرة سيدة الموقف وكنا نتأثر بهذه الفرق ونشترك معها بالأدوار الصغيرة وكان أصحاب الفرق يعرفون اننافي دمشق لذلك لا يصطحبون معهم ممثلين للأدوار الصغيرة.. ومن دمشق ننطلق معهم الى المحافظات السورية ولبنان.
حياته الفنية
في سنة 1927 أسس أول فرقة مسرحية خاصة به باسم “فرقة الكشافة التمثيلية” قدّموا عدة أعمال في مقاهي دمشق وصالاتها، كان أشهرها مسرحية “أتاتورك” سنة 1937 التي أخرجها المرابط بنفسه وفيها ظهر الفنان أنور البابا لأول مرة. تعاون مع الفنان عبد اللطيف فتحي، وفي مسرحية أخرى من مسرحياته كان الظهور الأول لممثلها الفنان رفيق سبيعي بشخصية “أبو صياح” الشعبية. انتقل المرابط إلى فرقة إيزيس مع مؤسسها جودت الركابي وكان مديراً لفرقة الأنصار التي تأسست عام 1938 وقدمت مسرحيات “شهامة العرب” – “السموأل” – “حمدان الأندلسي” – وتمثيلية “البخيل” الضاحكة من تأليف الفنان وصفي المالح.
بيت نظام، بيت دمشقي عريق وأحد المعالم الأثرية والتاريخية في دمشق القديمة يقع في حارة “مئذنة الشحم” في حي الشاغور قريباً من نهاية شارع “مدحت باشا“، يحده من الغرب جادة “ناصيف باشا”، ومن جهة الشرق جادة “تلة السماكة” فيما يحده من الشمال والجنوب بيوت سكنية. وهو واحد من أبهى قصور دمشق القديمة التي اشتهرت بها خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين ويعود لعصر الروكوكو.
تاريخ بناء البيت ليس معروفاً بدقة إلا أن أقدم تاريخ موجود على جدرانه يعود إلى عام 1760م، كذلك لا يعرف من بنى البيت تحديداً، ويعود اسمه إلى آخر عائلة سكنت هذا البيت ورممته في النصف الأول من القرن العشرين، قبل أن تستملكه “محافظة دمشق” عام 1974م، وتحوله إلى بناء أثري وبدأت في ترميمه العام 1987، ومنذ العام 1994 أصبح البيت مفتوحاً أمام الزوار، والباحثين والمهتمين بالعمارة وفنونها.
يشكل هذا البيت متحفا للفنون المعمارية الدمشقية، وخاصة زخارفه البديعة النافرة والغائرة المنفذة بالمونة الملونة “الابلق” والتعشيق على الخشب المحفور والمنزل بالصدف إضافة إلى زخارف العجمي وأرضيات الباحات المنفذة بالحجر المتناوب وبحراتها من أحجار دمشق وقاسيون.
عرفه جمهور المشاهدين العرب ببيت “أبو عصام” الذي جسد دوره الممثل عباس النوري في مسلسل البيئة الشامية الأشهر “باب الحارة”، وكان داراً “للزعيم سلطان أبو الحسن” في مسلسل “أهل الراية”، إضافة إلى ظهوره في عدد كبير من المسلسلات.
لمحة تاريخية
حسب المصادر التاريخية فقد عاصر هذا البيت عدد من الشخصيات منهم “إبراهيم باشا”، واستخدمته القنصلية الإنكليزية مقراً لها حتى عام 1883، وسكنه عدد من العائلات منهم “آل القويضي” حتى عام 1926، ثم عائلة “القباني”، ثم “آل عباس”، ثم عائلة “نظام الدين”.
أهم ما يميز بيت نظام عن غيره من البيوت الدمشقية هو وجود غرفة قاعة العنب التي عاصرت جميع السلطات والأنظمة التي حكمت دمشق من أيام العثمانيين والوالي التركي، مرورا بقيادة الجيش الفرنسي أيام الانتداب الفرنسي على سوريا، وقد زار الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك القاعة أثناء زيارته سوريا، كما شهدت القاعة حكم أول قنصلية بريطانية في المنطقة.
في عام 2008 استلمت مؤسسة الاغا خان بيت نظام وبيت السباعي وبيت القوتلي المتجاورين وبدأ العمل بهم لترميمهم وتأهيلهم ليكونوا فندق ذو طراز خاص ولكن الأعمال توقفت تقريبًا خلال الحرب في سوريا.
معالمه
يتميز “بيت نظام” بكثرة الزخارف الموجودة في قاعاته وغرفه مما يعكس شغف ساكنيه بالفن والتنوع، تبلغ مساحة بيت نظام حوالي 2200 م2، وهذه المساحة الضخمة كانت مجالاً للكثير من الزخارف التي تعود لفترات زمنية مختلفة، فالزخارف الداخلية الموجودة في المنزل ثرية جداً من حيث “الألوان – المواد – العناصر”، ومعظم الزخارف الموجود هي للأشكال الهندسية والنباتية التي استخدم فيها أسلوب “الأبلق” أي تدرج الألوان بين “الأبيض والأسود والأحمر”، وما يبهر زائر منزل “نظام” ليس ثراء الزخرفة فقط، وإنما هو ثراء متنوع ومختلف وهو بعيد عن النموذج المعتاد والسائد حتى منتصف القرن الثامن عشر، وهو يمثل منزلاً غير نموذجي وغير تقليدي ويعتبر من أجمل التحف المعمارية دمشقية.
يتألف البيت من دارين منفصلتين تماماً مع وجود باب في الجدار الفاصل بينهما، وللبناء واجهتان رئيسيتان تطلان على الأزقة المجاورة وتحيط به المساكن من الجهتين، الواجهة الغربية تطل على زقاق “ناصيف باشا” وفيها الباب الرئيسي، والشرقية تطل على زقاق “نصري” وفيها باب آخر، وتشير الخريطة المساحية التي وضعت عام 1928 إلى أن المنزل يغطي ثلاثة صحون ويضم 35 غرفة وقاعة وثلاثة إيوانات ضخمة فاخرة تشغل صدر الجانب الجنوبي من أقسامه الذي يحتوي السلملك والحرملك والخدملك.
تعرف الدار الغربية قديما باسم بيت ناصيف باشا العظم، ويؤدي باب الدخول إلى دهليز مسقوف فيه درجان، الأول يؤدي إلى القسم العلوي الذي يتألف من غرفتين عاديتين، والثاني يؤدي إلى القبو، وينفتح الدهليز بباب ذي مصراعين خشبيين على الصحن أو الباحة التي تتوسطها بحرة مثمنة الشكل يبلغ قطرها 4 أمتار، فيما يغطي أرضية الباحة بلاط من الحجر المزي الأحمر والأبيض يتخلله بعض القطع والزخارف الرخامية. أما الإيوان الجنوبي فسقفه خشبي مغطى بالعجمي وجدرانه مزينة بالأبلق، وفي صدر الإيوان غرفة ذات باب خشبي مزين بخيط عربي، وسقفها من الخشب المدهون وفيها عتبة وطرز أرضيته من الحجر المزي والرخام الملون، وعلى جانبي الإيوان تقع غرفتان.
وتنفتح الباحة من الجهة الشرقية على مدخل يؤدي إلى الباحة الكبيرة للدار الشرقية التي كانت تعرف ببيت علي آغا خزنة كاتبة، ويتم الوصول إلى صحن الدار من دهليز يقع على الشارع مباشرة، فيما يمكن الوصول أيضا من المدخل الشرقي من خلال واجهة مبنية من الحجر واللبن، حيث ينفتح الباب بمصراعين على دهليز تحده من جهته الشمالية غرفة صغيرة ودرج خشبي يؤدي إلى الطابق العلوي، وفي نهايته باب يطل على الباحة الكبيرة وبجانبه أيضا درج حجري يؤدي إلى الطابق العلوي، ويحيط بالباب شريط زخرفي من الحجر الأبيض والأحمر والأسود ويتخلله بعض الزخارف الهندسية النافرة.
كما تعد الباحة الوسطى من أجمل باحات البيت وتضم قاعتين تعتبران من أجمل قاعات دمشق وهي مزيج رائع للفنون الزخرفية المنفذة على الخشب والرخام والحجر ويتداخل فيها الأسلوب المحلي بالفنون الغربية، حيث تعتبر القاعة الشمالية من أجمل غرف البيت، بل من اجمل قاعات دمشق المشغولة بالرخام المُنزل بالأحجار الملونة والصدف، وتبلغ مساحتها حوالي 200 متر مربع، أما القاعة الثانية فهي قاعة العنب وتضم خزائن وكتيبات خشبية مدهونة بألوان ذهبية ونفذت زخارفها على شكل عناقيد وأوراق العنب.
الإيوان وله سقف خشبي من نوع العجمي، وكامل جدرانه مزينة بالزخارف الملونة من نوع الأبلق، وفي صدر الإيوان غرفة لها باب من الخشب مؤلف من مصراعين مزين بخيط عربي، أما الغرف الشرقية فإن أرضيتها من الرخام والبلاط، وعادة ما يكون في الغرفة ثلاث نوافذ مفتوحة على الإيوان وأربع نوافذ على الباحة.
أما البحرات الموجودة في باحات البيت فهي مشغولة بنظام زخرفي بديع من الحجر البازلتي الأسود مثمنة الشكل وفي منتصفها نوفرة رخامية.
ناظم بن تقي الدين القدسي (26 شباط 1906 – 7 شباط 1998)، سياسي سوري من حلب ورجل دولة، أسس حزب الشعب مع زميله رشدي الكيخيا، الذي وصل قادته إلى سدة الحكم عبر صناديق الاقتراع وكانت لهم أكبر كتلة نيابية في السنوات 1949-1951. شارك في مؤتمر تأسيس الأمم المتحدة في مدينة سان فرانسيسكو الأميركية وكان أول وزير مفوض في واشنطن سنة 1945. ترأس لجنة صياغة الدستور السوري سنة 1950 وشكل بعدها ثلاث حكومات، وكان رئيساً لمجلس النواب في المرحلة التي سبقت قيام الوحدة السورية – المصرية عام 1958. انتقل إلى العمل المصرفي في زمن الوحدة وابتعد كلياً عن السياسة، ليعود إبان انقلاب الانفصال وينُتخب رئيساً للجمهورية في 14 كانون الأول 1961. شهد عهده معركة الكرسي مع إسرائيل، ومحاولات متكررة من الرئيس جمال عبد الناصر للتدخل في شؤون سورية الداخلية، كان آخرها الانقلاب العسكري الذي قام به المقدم عبد الكريم النحلاوي في 28 آذار 1962. اعتُقل القدسي ونُقل إلى سجن المزة، ومنه استقال ثم تراجع عن استقالته عندما تمرّدت مجموعة من الضباط على النحلاوي ونفته خارج البلاد. عاد إلى القصر الجمهوري لغاية الانقلاب عليه مجدداً في 8 آذار 1963.
انتسب ناظم القدسي في شبابه إلى الكتلة الوطنية، أبرز التنظيمات السياسية في سورية، وكان مقرباً من أحد مؤسسيها إبراهيم هنانو، زعيم حلب وقائد ثورة الشمال ضد الفرنسيين. وكان يحضر جلسات محكمة هنانو وهو لا يزال في الخامسة عشرة من عمره، وعندما برأته المحكمة الفرنسية أعجب القدسي باستقلال القضاة الفرنسيين، وتركت هذه المحاكمة تأثيراً كبيراً في قراره دراسة المحاماة. وعند خروج هنانو من السجن، ذهب القدسي لتهنئته وقبَّل يديه.
فاز بالنيابة عن حلب سنة 1936 ودخل البرلمان على قائمة الكتلة الوطنية وانتُخب أميناً لسر المجلس. كان ذلك بعد التوقيع على معاهدة عام 1936 وانتُخب هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية. آلمه كثيراً نكوث الفرنسيين بوعودهم ورفضهم التصديق على المعاهدة، بحجة عدم قدرتهم الاستغناء عن مستعمراتهم العربية في ظلّ تنامي احتمال نشوب حرب جديدة في أوروبا. ومع حلول صيف العام 1939 وفشل الحكومة الوطنية في تمرير المعاهدة ومنع سلخ لواء إسكندرون عن سورية استقال القدسي من الكتلة الوطنية مع زميله وصديقه رشدي الكيخيا. لم تكن الاستقالة موجهة إلى الرئيس الأتاسي الذي كان يحبه ويحترمه، بل إلى رئيس الحكومة جميل مردم بك المسؤول عن سياسات سورية الخارجية والداخلية في السنوات 1936-1939.
وزيراً مفوضاً في واشنطن (1945-1946)
وفي انتخابات عام 1943 ترشح مع الكيخيا على قائمة مستقلة معارضة للكتلة وفازا من جديد بالنيابة عن حلب. أطلقا كتلة نيابية معارضة لرئيس الجمهورية شكري القوتلي، ومع ذلك عرض عليه الأخير أن يكون أول وزير مفوض لسورية لدى الولايات المتحدة، مع عضوية الوفد السوري المؤسس للأمم المتحدة في مدينة سان فرانسيسكو الأميركية. وقال له القوتلي: “أعرض عليك المنصب مع أنك من المعارضة، ولو وجدت شخصاً مؤهّلاً أكثر منك لهذا المنصب لما عرضته عليك.”
قبل القدسي التكليف واختار لجهاز السفارة كلاً من الدكتور قسطنطين زريق، أستاذ التاريخ في الجامعة الأمريكية في بيروت، وحسني الصوّاف، من كبار موظفي وزارة المالية. واتخذ من فندق مايفلاور Mayflower مركزاً مؤقتاً للسفارة السورية، واشترى بيت الرئيس الأمريكي السابق وليام هوارد تافت ليكون مقراً دائماً لها. لم تكن وزارة الخارجية يومها تملك أي عقار خارج سورية، ولا كانت ميزانيتها تسمح بذلك، فعارضت طلب شراء المنزل في واشنطن. ولكن القدسي دافع عن موقفه وقال إن الولايات المتحدة ستكون أقوى دولة في العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وإن وجود مقر دائم لسورية في عاصمتها أضر وأنفع من شراء عقار في باريس أو لندن.
قدّم القدسي أوراق اعتماده للرئيس الأمريكي فرانكلن روزفلت في 18 آذار 1945، وكان يومها من ضمن خمسة سفراء آخرين، أبلغهم رئيس تشريفات البيت الأبيض أن الوقت المحدّد لكل واحد منهم خمس دقائق فقط لأن صحة الرئيس لا تساعده (وقد توفي روزفلت بعدها بشهر واحد). غير أنه عند دخوله على الرئيس روزفلت، قال له القدسي “جئتك من دولة صغيرة، ولكن بأكبر أوراق اعتماد في العالم”. فانشرح الرئيس الأمريكي لتلك الافتتاحية واستمر اللقاء عشرين دقيقة.
تأسيس حزب الشعب سنة 1948
عاد القدسي إلى دمشق للمشاركة في عيد الجلاء الأول يوم 17 نيسان 1946، وتعاون مع زميله الكيخيا على تأسيس حزب الشعب، ليكون في طليعة المعارضة البرلمانية لحكم القوتلي، بعد سعي أنصاره ومؤيديه لتعديل الدستور والسماح له بولاية رئاسية ثانية. تزامن ذلك مع وفاة رئيس الحكومة سعد الله الجابري، ما يتّم حلب من زعامتها التاريخية، وحاجة المدينة الماسة لمن يمثلها في الحياة السياسية السورية. دعم الحزب الجديد من تجّار حلب وصناعيّيها الكبار، وذهبت رئاسته لناظم القدسي فيما انتخب رشدي الكيخيا عميداً. خاضا معركة تعديل الدستور في المجلس النيابي وعندما لم يفلحا في مساعيهما قرّرا مقاطعة الجلسة المخصصة لأداء قسم الرئيس وافتتاح ولايته الرئاسية الثانية.
انقلاب حسني الزعيم
وعند انقلاب حسني الزعيم على شكري القوتلي يوم 29 آذار 1949 عرض التعاون على قادة حزب الشعب وأن تكون رئاسة الحكومة من نصيب ناظم القدسي، بصفته أحد أبرز المعارضين للحكم البائد. رفض القدسي العرض بشدة وقال للزعيم: “أنت انقلبت على مؤسسات الدولة الدستورية ومن دون اتفاق أو مشاورة مع السياسيين، ولذلك أرفض تشكيل الوزارة حتى لو كان ذلك سيؤدي بي إلى سجن المزة.” غضب الزعيم من هذا التحدي وأصدر مرسوماً بحلّ حزب الشعب من سائر الأحزاب السياسية، واعتقل الكثير من أعضائه ووضع كلاً من رشدي الكيخيا وناظم القدسي قيد الإقامة الجبرية في حلب.
القدسي وزيراً للخارجية (آب – كانون الأول 1949)
وبعد سقوط حسني الزعيم ومقتله في 14 آب 1949 حضر القدسي إلى مبنى الأركان العامة بدمشق للمشاركة في اجتماع كبير دعا إليه مهندس الانقلاب الجديد، اللواء سامي الحناوي. وفي هذا الاجتماع تقرّرت عودة الجيش إلى الثكنات واستعادة الحياة المدنية والنيابية، مع تكليف الرئيس الأسبق هاشم الأتاسي بتشكيل حكومة للإشراف على انتخاب جمعية تأسيسية لصياغة دستور جديد للبلاد بدلاً من دستور عام 1928 الذي عطّله الزعيم قبل بضعة أشهر.
أجريت انتخابات الجمعية التأسيسية في موعدها وفاز حزب الشعب بغالبية المقاعد. انتُخب رشدي الكيخيا رئيساً للمجلس التأسيسي وناظم القدسي رئيساً للجنة صياغة الدستور. اقتبسوا من دساتير الديمقراطيات الغربية ولا سيما الفقرات التي تضمن جميع حقوق الفرد السوري ومنها الحرية السياسية، وحرية الصحافة، وحرية التظاهر، وجميع الحقوق المدنية المعمول بها في الغرب. وعند الانتهاء من كتابة الدستور وإقراره تحوّلت الجمعية التأسيسية تلقائياً إلى مجلس نيابي بصلاحيات تشريعية كاملة. استقال هاشم الأتاسي من رئاسة الوزارة وأصبح رئيسا للدولة، وكلّف ناظم القدسي بتشكيل الحكومة الأولى في 24 كانون الأول 1949. صدرت المراسيم بذلك ولكنه استقال بعد ثلاثة فقط أيام بسبب رفض الضباط العسكريين التعهد أمامه بألا يتدخلوا بقراراته.
حكومة القدسي الثانية (حزيران – أيلول 1950)
بتكليف من الرئيس الأتاسي شكل القدسي حكومته الثانية في حزيران 1950 وكانت مؤلفة من ثماني حقب، ذهب ستّ منها إلى حزب الشعب. تمكن من تحييد الجيش والعقيد أديب الشيشكلي عبر تعيين صديقه اللواء فوزي سلو في وزارة الدفاع. وكان الشيشكلي قد ظهر قبل أشهر كرجل سورية الأقوى بين العسكريين، وقاد انقلاباً داخل المؤسسة العسكرية في نهاية عام 1949 للتخلّص من رئيس أركان الجيش سامي الحناوي، المقرّب من حزب الشعب ومن العراق الهاشمي. وقد اشترط الشيشكلي على كل الحكومات المدنية تعيين فوزي سلو وزيراً، لضمان عدم طرح موضوع الوحدة مع العراق داخل السلطة التنفيذية.
زار الملك فيصل الثاني دمشق وطرح مع ناظم القدسي موضوع الوحدة بين البلدين، ما أثار حفيظة الشيشكلي، الذي أقسم اليمين على إجهاض هذه الوحدة بأي ثمن، متهماً حكّام العراق بالعمالة للإنكليز. وفي مطلع عام 1951 انعقد مجلس الجامعة العربية في القاهرة على مستوى رؤساء الوزراء، برئاسة سورية ومشاركة رئيس الحكومة. وإيماناً من القدسي بأن الطريق الوحيد لمجابهة الأطماع الصهيونية في العالم العربي هو إيجاد نوع من الاتحاد الفيدرالي بين الدول العربية، تكون بدايته بين سورية والعراق، قدّم مشروعه للاتحاد الفيدرالي العربي، لكنّه طلب أن يبقى سرّياً حتى تكمل الحكومات العربية دراسته. إلا أن رياض الصلح، رئيس وزراء لبنان، سربه إلى صحيفة الأهرام المصرية التي نشرته قبل عودة ناظم القدسي إلى دمشق. وافق رئيس الجمهورية على هذا المشروع، ولكنه لم ير النور بسبب معارضة الشيشكلي.
حكومة القدسي الثالثة والأخيرة
وفي 8 أيلول 1950 شكل القدسي حكومته الثالثة والأخيرة، مسنداً كل الحقائق السيادية فيها إلى حزب الشعب، ما عدا وزارة الدفاع التي بقيت من حصة الجيش واللواء فوزي سلو. وفي هذه الوزارة أحدثت إدارة خاصة لتجفيف أراضي سهل الغاب واستعمال قواه المائية لتوليد الكهرباء، وأممت شركة الكهرباء البلجيكية – الفرنسية ومعها شركة الترامواي وشركة مياه حلب. واستمرت الحكومة بالعمل لغاية شهر آذار من العام 1951، وبعد استقالتها، انتُخب ناظم القدسي رئيساً لمجلس النواب يوم 1 تشرين الأول 1951، خلفاً لزميله الدكتور معروف الدواليبي.
معارضة حكم الشيشكلي
دُعي الدواليبي لتشكيل حكومة جديدة، وقرر تحدي الشيشكلي وإقصاء فوزي سلو من وزارة الدفاع، في تراجع عن العرف السائد في تشكيل الحكومات منذ سنة 1949. طالبه الشيشكلي بالتراجع وعندما لم يفعل ردّ بانقلاب عسكري يوم 29 تشرين الثاني 1951 وأمر باعتقال الدواليبي وكل الوزراء، ومعهم رئيس مجلس النواب ناظم القدسي الذي اقتيد من غرفته في فندق أورينت بالاس إلى سجن المزة. استقال هاشم الأتاسي من رئاسة الجمهورية غضباً واحتجاجاً على تجاوزات الشيشكلي في 3 كانون الأول ونصّب فوزي سلو رئيساً للدولة ولمجلس الوزراء. بقي سلو في الحكم لغاية صيف العام 1953، عندما قرر الشيشكلي تسلّم رئاسة الجمهورية بشكل مباشر.
عارض القدسي حكم الشيشكلي بشدة وحضر اجتماعاً كبيراً في دار هاشم الأتاسي في حمص، تقرر فيه إسقاطه بكل الطرق المتاحة – ومنها العسكرية – مع عدم الاعتراف بشرعية ولايته الرئاسية ولا بدستوره. اندلعت ثورة مسلحة في كل أرجاء البلاد، سقط على أثرها الشيشكلي وغادر سورية في 25 شباط 1954. وفي 1 آذار 1954، عاد هاشم الأتاسي إلى دمشق لإكمال ما تبقى من ولايته الدستورية وعاد ناظم القدسي إلى رئاسة مجلس النواب. عاد القدسي إلى دمشق بصفته الدستورية رئيساً للسلطة التشريعية وفصل جميع النواب الذين شاركوا في انتخابات الشيشكلي، مُسقطاً عنهم عضوية المجلس النيابي، وفي مقدمتهم الدكتور مأمون الكزبري، رئيس المجلس في عهد الشيشكلي.
انتخابات الرئاسة سنة 1955
ومع قرب انتهاء ولاية هاشم الأتاسي أشرف القدسي على انتخابات الرئاسة في البرلمان السوري يوم 18 آب 1955، بين رئيس الجمهورية الأسبق شكري القوتلي ورئيس الحكومة الأسبق خالد العظم. اعتمد حزب الشعب ترشيح القوتلي للرئاسة، متناسياً كل خلافات الماضي، بينما رشّح البعثيون والاشتراكيون وزعيم الحزب الشيوعي خالد بكداش، في المقابل، خالد العظم. حصل القوتلي على غالبية أصوات النواب إلا أنه لم يحظ بثلثي الأصوات حسب الدستور السوري، فرفع القدسي الجلسة للاستراحة على أن تعقد بعد ساعة.
عندها طلب أكرم الحورانيوخالد بكداشوصلاح البيطار الاجتماع مع رئيس المجلس في غرفته، وبحضور رشدي الكيخيا، لمحاولة إقناع أحدهما بقبول الترشح لرئاسة الجمهورية كـ”حلٍ وسط.” إلا أن الكيخيا والقدسي رفضا الفكرة وشدّدوا على أن حزبهم اتخذ قراراً لا رجعة فيه بترشيح القوتلي. وفي الدورة الثانية من الاقتراع انخفض عدد النواب الذين صوّتوا لخالد العظم، وحصل القوتلي على ثلثي عدد الأصوات. فذهب القدسي إلى بيته ليبارك له الرئاسة الأولى وأشرف بنفسه على انتقال السلطات بينه وبين الأتاسي في 5 أيلول 1955.
اعترض القدسي على الطريقة التي أقيمت بها الوحدة ولكنّه لم يعارضها وعدّ نفسه أول من دعا إليها، قبل جمال عبد الناصر بسنوات. نزولاً عند رغبة الرئيس المصري بحل الأحزاب السياسية في سورية، اتخذ القدسي والكيخيا قراراً تاريخياً بحلّ حزب الشعب وعادا إلى حلب واعتزلا السياسة معاً في زمن الوحدة. عمل القدسي بداية في الزراعة، التي كانت عشقه منذ الصغر، رافضاً عرضاً من ولّي عهد اليمن الإمام البدر حميد الدين أن يكون مستشاراً له.
رئيس بنك العالم العربي (1959-1961)
وفي سنة 1959 جاءه رجل الأعمال موفق الميدانيوالمهندس عثمان العائدي وقالا إنهما يحضران لتأسيس مصرف سورية تابع لبنك انترا في لبنان، عارضين عليه مشاركتهما العمل. قبل القدسي عرضهما وأصبح أحد مؤسسي بنك العالم العربي ورئيساً لمجلس إدارته. حقق المصرف نجاحاً مالياً سريعاً قبل تأميمه مع بقية المصارف السورية في تموز 1961، بقرار من الرئيس عبد الناصر، وظلّ القدسي رئيساً تنفيذياً له لغاية انتخابه رئيساً للجمهورية سنة 1961.
انقلاب الانفصال وانتخابه رئيساً للجمهورية
وفي 28 أيلول 1961 وقع انقلاب عسكري بدمشق، قاده المقدم عبد الكريم النحلاوي ضد الجمهورية العربية المتحدة ورئيسها. وفي صبيحة اليوم التالي للانقلاب طُلب إلى القدسي والكيخيا حضور اجتماع في نادي الضباط بدمشق للتداول في مستقبل البلاد والتوقيع على وثيقة الانفصال. رفضا الحضور وقالا كلمتهما الشهيرة: “إن اليد التي وقعت على ميثاق الوحدة تُقطع قبل أن توقع على وثيقة انفصال الوحدة.”
أعاد القدسي والكيخيا تفعيل حزب الشعب بعد غياب طوعي استمر منذ سنة 1958 وخاض أعضاؤه الانتخابات النيابية في 1 كانون الأول 1961. تحالفا يومها مع خصوم الأمس في الحزب الوطني أطلقوا معهم قائمة مشتركة باسم”اللائحة القومية المؤتلفة.” لم يترشح القدسي في هذه الانتخابات ولكنه رُشح من قبل حزبه وأنصاره – بعد فوزهم بغالبية مقاعد البرلمان – ليكون رئيساً للجمهورية. اختيارهم الأول للرئاسة كان رشدي الكيخيا الذي رفض العمل مع العسكر ولكنه لم يمانع ترشح القدسي ضد رؤساء الحكومات السابقين خالد العظمومأمون الكزبري وسعيد الغزي. فاز القدسي في هذه الانتخابات بالأكثرية: 153 صوتاً من أصل 172 صوت، وفي 14 كانون الأول 1961 أقسم اليمين الدستوري رئيساً للجمهورية السورية.
انقلاب 28 آذار 1962
وبناء على المشاورات النيابية كلّف الرئيس زميله معروف الدواليبي بتشكيل أول حكومة في عهده، علماً أن القدسي كان يُفضّل أن تكون رئاسة الوزراء بيد شخصية دمشقية لكيلا يقال إن الحلبيين سيطروا على مفاصل الدولة السورية في عهده. سعى الدواليبي فور تسلّمه الحكم إلى إبطال قانون الإصلاح الزراعي وقرارات التأميم الصدارة في عهد الوحدة، وحاول جاهداً إبعاد العسكريين عن الحكم ومنهم عبد الكريم النحلاوي، مهندس انقلاب الانفصال. ردّ النحلاوي على محاولة إقصائه بانقلاب عسكري جديد يوم 28 آذار 1962، وأمر باعتقال كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، ومعهم رشدي الكيخيا وعدد كبير من قادة حزب الشعب. طلب النحلاوي حلّ المجلس النيابي وقال إن الجيش غير راضٍ عن مداولاته وخاصة محاولة إلغاء القوانين الاشتراكية. وطالب أيضاً بإجراء انتخابات نيابية جديدة، ولكن القدسي رفض ذلك بشدة واستقال من منصبه احتجاجاً وقال: “كان الله في عون الوطن الذي هو الآن بعهدتكم.”
مؤتمر حمص
وفي 1 نيسان 1962 عُقد اجتماع لكبار ضباط الجيش في حمص، سُمي “مؤتمر حمص” وكان برئاسة آمر سلاح الطيران اللواء وديع مقعبري. اتفق الضباط المناهضون للنحلاوي، بالتشاور مع قائد الجيش اللواء عبد الكريم زهر الدين، على رفض انقلاب النحلاوي وتسريح كل من شارك به ونفيهم خارج البلاد. قرّروا إعادة الجيش إلى ثكناته وطلبوا إلى القدسي سحب استقالته واستكمال ولايته الدستورية. بدأت مفاوضات بينه وبين الجيش عبر وزير الدفاع رشاد برمدا – وهو من أعضاء حزب الشعب – كانت نتيجتها الاتفاق على أن يقدم جميع النواب استقالاتهم وأن تجرى انتخابات جديدة في مدّة ثلاثة أشهر. أجاب الرئيس بأن هذا الشأن عائد للنواب وليس له. أتى برمدا باستقالات النواب، وقبلها الرئيس عند عودته إلى القصر الجمهوري.
معركة الكرسي
وفي مطلع عهد ناظم القدسي اقتحم الجيش الإسرائيلي منطقة الحدود السورية في 16 آذار 1962. دُمرت الدبابات الإسرائيلي نتيجة سلسلة من الألغام كان الجيش السوري قد وضعها على الشريط الحدودي، وأمر القدسي بقصف المستعمرات الإسرائيلية في الجليل، رداً على العدوان. عُرِفت هذه المعركة بموقعة الكرسي نسبة إلى اسم القرية المجاورة، وكانت نقطة تحول في تاريخ الحرب بين سورية وإسرائيل، إلّا أن الإذاعة المصرية لم تتوقّف عن مهاجمة عهد القدسي ووصف رموزه كافة بأنهم “رجعيون” و”أعوان الاستعمار.” اشتكت سورية رسمياً إلى جامعة الدول العربية وقالت إن قيادتها تتعرّض لحملة تشهير منتظمة، مع تدخلات سافرة في شؤونها الداخلية، سواء من سفير مصر في لبنان عبد الحميد غالب أو من الرئيس عبد الناصر شخصياً. عقدت الجامعة اجتماعاً في بلدة شتورا اللبنانية، أرسل القدسي إليه وفداً مؤلفاً من وزراء اشتراكيين سابقين وأرسل عبد الناصر وزراء سوريين ناصريين بقوا في مصر بعد انهيار الوحدة.
انقلاب 8 آذار 1963
شكّل خالد العظم الوزارة الأخيرة في عهد الرئيس ناظم القدسي في شهر أيلول 1962 وضمّت مختلف التيارات السياسية، اليمينية والبعثيين والاشتراكيين والإخوان المسلمين. وفي نهاية العام 1962 جال العظم على عدد من المحافظات السورية وقامت مظاهرات من التيار الناصري والاشتراكي والبعثي ضده، وفي محافظة درعا رشقت سيارته بالبيض والبندورة. وفي صبيحة 8 آذار 1963، وقع انقلاب جديد في سورية، قاده اللواء زياد الحريري مع مجموعة من الضباط الناصريين والبعثيين. قُطعت الاتصالات الهاتفية عن القصر الجمهوري وهرب خالد العظم تجنباً للاعتقال ولجأ إلى السفارة التركية في الدور الأرضي من بيته. عُزل القدسي عن منصبه، دون اعتقال، بمرسوم صادر عن مجلس قيادة الثورة وفي الأسبوع الأول من شهر نيسان انتقل إلى داره في حلب ومنه ألقي القبض عليه ونُقل إلى سجن المزة لغاية إطلاق سراحه، بأمر من رئيس الدولة أمين الحافظ، يوم 30 تشرين الثاني 1963.
بدأت وفود المهنئين تتوافد على بيته وكان يعلم أن ذلك سيزعج العسكريين كثيراً فطلب إلى أمين الحافظ السماح له بالمغادرة إلى بيروت لزيارة ابنه فريد، الذي كان آنذاك يدرس في الجامعة الأميركية. استقبله في مطار بيروت موفد عن الرئيس اللبناني فؤاد شهاب وعرض عليه اللجوء السياسي مع منزل يليق به وحرّاس ولكنه رفض.
السنوات الأخيرة والوفاة
بقي القدسي مقيماً في بيروت لغاية اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975 ثم غادرها إلى عمّان، ضيفاً على الملك حسين، ثم إلى تونس ضيفاً على رئيس الجمهورية الحبيب بورقيبة الذي كان صديقه أيام الجامعة في جنيف. وبعد الزيارة الأولى إلى تونس غادرها إلى لندن مجدداً في صيف العام 1976 وأقام في منزل ابنه فيصل الذي كان يعمل في البنك العربي هناك. أقام القدسي في تونس مدة سنة، ومنها انتقل إلى مدينة نيس الفرنسية عام 1978. وفي أوروبا كان يستعمل وسائل النقل العمومية من حافلات وقطارات، مثله مثل أي مواطن عادي. وعند بلوغه الثمانين، انتقل إلى أبو ظبي حيث أقام في بيت ابنه فواز، رئيس التشريفات في وزارة الخارجية الإماراتية. ولكن شدة الرطوبة والحرارة لم تناسبه فانتقل مجدداً إلى عمّان وفيها توفي عن عمر ناهز 92 عاماً يوم 7 شباط 1998. عرض الملك حسين على العائلة أن يُدفن في المقابر الملكية، وكذلك عرض السفير السوري أن يدفن في سورية، ولكن رغبته كانت أن يُدفن إلى جانب زوجته في مقبرة العائلة بعمّان.
العائلة
تزوّج ناظم القدسي سنة 1934 من شهيرة بنت الحاج عبد الله صلاحية، وله منها ثمانية أولاد.
المذكرات
بدأ القدسي بتسجيل مذكرات صوتية في الجامعة الأميركية في بيروت سنة 1974، بطلب من صديقه الدكتور قسطنطين زريق، رئيس الجامعة الأسبق ومدرّس التاريخ فيها الذي كان عمل معه في السفارة السورية في واشنطن قبل سنوات طويلة. سجّل ثلاث تسجيلات ثم توقف عند اندلاع الحرب الأهلية في نيسان 1975. بعدها في عمّان، وبناء على إلحاح شديد من أولاده وزوجته، تابع تسجيل ذكرياته صوتياً سنة 1990 وطلب إلى النائب والوزير الأسبق أحمد قنبر، صديقه وزميله في حزب الشعب المقيم في حلب، زيارته في عمّان ليتذاكرا ببعض الأمور التي جرت معهما في عقدي الأربعينيات والخمسينيات. فرغ من هذه التسجيلات سنة 1994 وفي عام 2023 جمعت ونشرت في موقع إلكتروني أنشأته أسرته باسم المكتبة الرئاسية للدكتور ناظم القدسي.