الكائنات، صحيفة أسبوعية أسسها أديب نظمي سنة 1911 واستمرت لغاية الحرب العالمية الأولى عام 1914. كان نظمي معروفاً في عالم الصحافة، من خلال ترير قسم اللغة العربية في جريدة سورية الرسمية وعمله مراسلاً لصحيفة ثمرات الفنون. صدرت الكائنات صباح كل يوم ثلاثاء بأربع صفحات من القطع المتوسط وكانت، بحسب تعبير رئيس تحريرها “قومية عثمانية حرة” تنطق باللغتين العربية والتركية. توقفت الصحيفة بسبب مرض صاحبها سنة 1914 ما منعه من اممارسة العمل الصحفي.
أديب نظمي (1840 – 26 أيلول 1918)، صحفي سوري من دمشق، تعود أصوله إلى مصر وكان يُعرف بأديب نظمي الطناحي المصري. أسس جريدة الكائنات الأسبوعية سنة 1911 وظل يصدرها حتى سنة 1914، وتزوج من الأديبة اللبنانية زينب فواز، التي كانت قد حققت شهرة كبيرة في مصر في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
البداية
ولِد أديب نظمي في دمشق وبدأ حياته المهنية في جريدة سورية الحكومية سنة 1878، مُحرراً في قسمها العربي. وفي عام 1896 انتقل إلى جريدة الشّام الخاصة ثم إلى جريدة دمشق التي كان يُصدرها الوجيه أحمد عزت العابد. رافق الحركة الثقافية في دمشق وكتب الكثير عن مؤسس المسرح أبى خليل القباني. عُيّن بعدها رئيساً لكتّاب محكمة الاستئناف وأطلق جريدة خاصة سنة 1910 اسمها المُنتخبات. ولكنها وأغلقت بسبب عجز مالي بعد أشهر.
الزواج
تزوج أديب نظمي ثلاث مرات في حياته وكانت زوجته الأخيرة الكاتبة اللبنانية زينب فواز. تعرف عليها بالمراسلة بعد أن قرأ شيء من أدبها وجاءت من مصر لتقيم معه في منزل صغير بسهل حوران في تسعينيات القرن التاسع عشر. ولكن زواجهما لم يستمر وافترقا بعد ثلاث سنوات.
جريدة الكائنات
بعد المنتخبات، أطلق أديب نظمي جريدة أسبوعية باسم الكائنات، ظلّت تصدر حتى بداية الحرب العالمية الأولى سنة 1914، قبل أن تتوقف تتوقف بسبب مرض صاحبها عندما أصيب بشلل نصفي منعه من ممارسة العمل الصحفي.
الوفاة
توفي أديب نظمي يوم 26 أيلول 1918، عندما قصفت الطائرات العثمانية مخازن السلاح في دمشق، قبل ساعات قليلة من انسحاب الجيش العثماني عن المدينة. خرج نظمي على كرسيه المتحرك إلى صحن داره وأصيب بشظايا قتلته على الفور. وكانت هذه القنبلة هي الوحيدة التي ألقيت على دمشق طول سنوات الحرب العالمية الأولى.
سورية، الصحيفة الرسميّة لولاية سورية في العهد العثماني، صَدَرت من دمشق باللغتين العربية والتركية صباح كل يوم خميس من سنة 1865 ولغاية انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918. صَدَر عددها الأول في 19 تشرين الثاني 1865 وكان عبارة عن أربع صفحات من القطع المتوسط وفيها كانت تُنشر جميع المراسيم الحكومية والفرامات السلطانية. تعاقب على رئاسة تحريرها عدد من الصحفييّن الكبار، كان أشهرهم محمد كرد علي، وتوقفت مع هزيمة الجيش العثماني في الحرب العالمية الأولى وانسحابه عن دمشق في نهاية شهر أيلول من العام 1918. حلّت مكانها من يومها جريدة العاصمة، الجريدة الرسمية للحكومة سورية المُستقلة في عهد الملك فيصل الأول، التي ترأس تحريرها الصحفي والأديب محب الدين الخطيب.
هاشم بن خليل الأتاسي (11 كانون الثاني 1873 – 6 كانون الأول 1960)، زعيم الحركة الوطنية وأحد الآباء المؤسسين للدولة السورية الحديثة، انتُخب رئيساً للجمهورية مرتين ولُقّب بأبي الدستور لدوره في صياغة دستور سورية الأول سنة 1920 ودستورها الثاني عام 1928. تقلّد أرفع المناصب السياسية في حياته فكان رئيساً للمؤتمر السوري الأول سنة 1919 ثمّ رئيساً للحكومة السورية سنة 1920. أسس الكتلة الوطنية سنة 1927 وقاد مفاوضات الاستقلال الأولى مع فرنسا عام 1936. كانت رئاسته الأولى في السنوات 1936-1939 والثانية من عام 1949 ولغاية عام 1951. استقال من المنصب إثر انقلاب أديب الشيشكلي وعاد إلى الرئاسة سنة 1954 لإكمال ما تبقى من ولايته الدستورية حتى أيلول 1955.
البداية
ولِد هاشم الأتاسي في مدينة حمص وسط البلاد وهو سليل أسرة سياسية كبيرة من العُلماء والقضاة. كان جدّه الشّيخ محمّد الأتاسي مُفتياً على حمص وكذلك والده الشّيخ خالد الأتاسي الذي انتُخب عضواً في مجلس المبعوثان في إسطنبول سنة 1877. دَرَس هاشم الأتاسي في مدارس حمص الحكومية وفي الكليّة الإسلامية ببيروت ثم أكمل تحصيله العلمي في المدرسة الملكية العُليا في إسطنبول، وعند تخرّجه عُيّن معاوناً لوالي بيروت سنة 1894.
الوظائف الإدارية في العهد العثماني
من بيروت انتقل هاشم الأتاسي إلى قضاء المرقب (بانياس) قبل تسلّمه قائمقامية قضاء صهيون (الحفة) حتى نقله إلى صفد سنة 1902 ثمّ إلى صوروجبل عامل. وفي عام 1904 عُيّن قائمقام السلط ووكيل مُتصرّف الكرك حتى سنة 1907، عند تسلّمه قائمقامية قضاء جبلة في الساحل السوري.
لم يُشارك هاشم الأتاسي في الثورة العربية الكبرى التي انطلقت ضد العثمانيين من الصحراء العربية سنة 1916، ولكنه كان مُتعاطفاً معها ومُقرباً من قائدها العام الشريف حسين بن عليّ، أمير مكة المكرمة. وعند انتصار الثورة وسقوط الحكم العثماني في دمشق نهاية شهر أيلول من العام 1918، عاد الأتاسي إلى مسقط رأسه في حمص وبايع الأمير فيصل حاكماً عربيّاً على سورية. قرر الأخير تعيينه مُتصرّفاً على مدينة حمص من تشرين الأول 1918 وحتى آذار 1919، قبل أن يستقيل لكي يتمكن من المشاركة في الانتخابات النيابي التي دعا إليها الأمير فيصل، لإنشاء أول سلطة تشريعية عرفتها البلاد السورية، عُرفت باسم المؤتمر السوري العام.
انتُخب الأتاسي نائباً عن حمص وفي 3 حزيران 1919 رئيساً للمؤتمر السوري العام، حيث أشرف على افتتاح أعمال السلطة التشريعية في جلسة تاريخية عُقدت داخل مبنى النادي العربي وسط مدينة دمشق. أولى مهام الرئيس الجديد كانت استقبال لجنة كينغ كراين الأمريكية التي جاءت إلى سورية بطلب من الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون لمعرفة مدى تقبل الشعب السوري لفكرة الانتداب الفرنسي، الذي كان من المفترض وضعه قيد التنفيذ وفقاً لاتفاقية سايكس بيكو المبرمة سنة 1916 بين الحكومتين الفرنسية والبريطانية. ترأس الأتاسي الجانب السوري في أثناء المفاوضات مع اللجنة الأمريكية وأصدر بياناً باسم الشعب السوري رفض فيه الانتداب الفرنسي وطالب باحترام وحدة الأراضي السورية واستقلالها التام.
اقترح الأتاسي رفض الإنذار، لما فيه من شروط مجحفة بحق الشعب السوري، ولكن الملك فيصل كان له رأي مُختلف، فقد قبل به وأبرق إلى غورو بالموافقة. ولكنّ الأخير رأى أن برقية الملك جاءت متأخرة، أي بعد المهلة المحددة للرد من قبل الجيش الفرنسي، وأمر ببدء الزحف نحو مدينة دمشق واحتلالها بالكامل.
نهاية العهد الفيصلي
حصلت المواجهة العسكرية في معركة ميسلون يوم 24 تموز 1920 وهُزم على أثرها الجيش السوري، واستشهد يوسف العظمة، وزير الحربية في حكومة الأتاسي. خرج هاشم الأتاسي من دمشق إلى قرية الكسوة مع الملك فيصل، دعماً ومؤازرة بعد الهزيمة، ولكنه فضّل عدم مغادرة سورية كما فعل فيصل، وقرر الاعتكاف في منزله بحمص. أما الملك فيصل فقد توجه إلى أوروبا مع عدد من مستشاريه للاحتجاج على الطريقة المهينة التي أُقصي فيها عن عرش سورية، وقد نجحت مساعيه وعاد إلى المنطقة بعد سنة واحدة فقط، ملكاً على العراق بدعم بريطاني. وكان آخر قرار أصدره فيصل قبل مغادرته الأراضي السورية في 1 آب 1920 هو إقالة حكومة الأتاسي وتعيين علاء الدين الدروبي رئيساً للوزراء.
في زمن الثورة السورية الكبرى
اعتزل هاشم الأتاسي العمل السياسي يوم احتلال دمشق ولم يُشارك في الثورة السورية الكبرى عند انطلاقها سنة 1925، ولكنه أيدها ضمناً كما فعل مع الثورة العربية الكبرى ودفع بشقيقه خليل للمشاركة بها، مع عدد من رجالات آل الأتاسي. وقد أمرت سلطة الانتداب الفرنسي باعتقاله ونقله إلى سجن أرواد، وهي المرة الأولى والأخيرة التي دخل فيها هاشم الأتاسي السجن.
تأسيس الكتلة الوطنية
بعد قمع الثورة السورية الكبرى واعتقال معظم قادتها أو نفيهم، قرر هاشم الأتاسي العودة إلى العمل الوطني عبر تنظيم سياسي جديد يهدف إلى لمّ الشمل وتوحيد الكلمة في وجه الفرنسيين. وفي 23 تشرين الأول 1927 عقد اجتماعاً في بيروت مع مجموعة من الوطنيين، أعلنوا فيه عن ولادة الكتلة الوطنية لمحاربة الانتداب، تلاه اجتماع كبير في دار الأتاسي بحمص يومي 3-4 تشرين الثاني 1932، جرى فيه إقرار دستور الكتلة الوطنية وانتخابه رئيساً لها مدى الحياة.
سعت الكتلة إلى مقارعة الفرنسيين سياسياً وليس عسكرياً، في اعتراف ضمني من قادتها بفشل المقاومة المسلّحة التي رافقت ثورة عام 1925. وقد طالب الأتاسي باسم الكتلة الوطنية برفع الأحكام العرفية واحترام حرية الصحافة وإصدار عفو عام عن كافة المعتقلين والمنفيين لأسباب سياسية. وكان له رأي تبناه الجميع بالأكثرية، عن ضرورة محاربة الانتداب عبر المؤسسات الديمقراطية نفسها التي كانت فرنسا قد أدخلتها إلى الحياة السياسية في سورية منذ سنة 1920. قرروا المشاركة في جميع الانتخابات المُقبلة للوصول إلى الحكم بشكل ديمقراطي وقانوني، بما عُرف بسياسة “التعاون المُشرف” مع سلطة الانتداب.
دستور عام 1928
وفي نيسان 1928، خاضت الكتلة الوطنية أولى معاركها السياسية عند الدعوة لانتخاب جمعية تأسيسية وكتابة دستور جديد للبلاد، بدلاً من الدستور الملكي الذي كان الأتاسي قد وضعه قبل سنوات، والذي لم ير النور بسبب فرض الانتداب عام 1920. خاضت الكتلة الوطنية تلك الانتخابات وفازت بغالبية مقاعد الجمعية التأسيسية، وانتُخب هاشم الأتاسي رئيساً للجنة الدستور، يعاونه اثنان من أعضاء الكتلة الحقوقيين، وهما فوزي الغزيوفائز الخوري.
أنجز الأتاسي ورفاقه دستور سورية الجديد في فترة قياسية لم تتجاوز مدتها الأسبوعين، ووضعوا دستوراً عصرياً مُستلهماً من الدساتير الأوروبية. ولكن هذا الدستور لم يُعجب السلطات الفرنسية بسبب خلوّه الكامل من أية إشارة إلى نظام الانتداب. كما أنه أعطى بموجب المادة 74 رئيس الجمهورية السورية “المُنتخب” بدلاً من المندوب السامي الفرنسي حق إعلان الحرب والسلم وتوقيع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية. وجاء في المادة 110 من الدستور حق سورية في إنشاء جيش وطني بدلاً من الجيش الفيصلي الذي سُحِق وحُلَّ بعد معركة ميسلون. وأخيراً اعترضت فرنسا على المادة الثانية من مسودة الدستور التي نصّت على أن سورية الطبيعية المساحة القانونية للدولة السورية الوليدة، في نسف كامل لحدود سايكس بيكو.
وفي 11 آب 1928 جرى التصويت على مسودة الدستور داخل الجمعية التأسيسية، وقرر النواب تبنيه بالإجماع. ولكنّ الفرنسيين أصروا على موقفهم وأضافوا مادة حَمَلت الرقم 116، فيها ذكر صريح لنظام الانتداب. قام الأتاسي برفضها، ما استدعى قراراً فرنسياً بتعطيل أعمال الجمعية التأسيسية وحلّها نهائياً ابتداء في 5 شباط 1929.
انتخابات الرئاسة عام 1932
في سنة 1932 خاضت الكتلة الوطنية ثاني معاركها السياسية عبر الترشح للانتخابات النيابية، ولكنها خسرت كل مقاعدها في الشمال السوري لصالح القائمة المدعومة من قبل الفرنسيين، والتي كان يرأسها صبحي بركات، نائب مدينة أنطاكية. فاز الأتاسي بمقعده المعتاد عن حمص ووصل عدد نواب الكتلة إلى سبعة عشر نائباً، أي أنهم لم يحققوا الأكثرية النيابية المطلوبة للسيطرة على المجلس. وعند عقد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، قاموا بترشيح الأتاسي ضد صبحي بركات والمرشح المستقل محمد علي العابد. خاض الأتاسي الجلسة الأولى من الانتخابات وقرر الانسحاب في الجلسة الثانية، نظراً لضعف تمثيل كتلته في حلب، وأعطى أصوات كتلته للعابد لقطع الطريق على فوز صبحي بركات بالرئاسة. وبناء على هذه المناورة السياسية، فاز محمد علي العابد برئاسة الجمهورية في 11 حزيران 1932.
الإضراب الستيني سنة 1936
في تشرين الثاني 1935 توفي زعيم الكتلة إبراهيم هنانو في حلب وخرج رفاقه في جنازته، يتقدمهم هاشم الأتاسي، رافعين شعارات منددة بفرنسا. حدثت صدامات دامية يومها بينهم وبين عناصر جيش الشرق الفرنسي، أدّت إلى اعتقال عدد كبير من أنصار الأتاسي في كل من حلبوحمصوحماة. تكررت المواجهات في الداخل السوري والشمال، وتحوّلت إلى إضراب عام، أعلنت عنه الكتلة الوطنية بعد اعتقال نائب دمشق فخري البارودي في 21 كانون الثاني 1936. بدأ الإضراب في دمشق وحلب وامتد حتى دير الزوروالبوكمال، وقد دام ستين يوماً تُوّج فيها هاشم الأتاسي زعيماً على الشارع السوري بكل شرائحه وأطيافه، مع رفع شعار “الدين لله والطاعة للكتلة الوطنية.”
أُجبرت فرنسا على الدخول بمفاوضات مباشرة مع الأتاسي، جرت في مقر المفوضية الفرنسية العليا في بيروت بحضور رئيس الحكومة عطا الأيوبي. اتفق الطرفان على وقف الإضراب مقابل الإفراج عن عن المعتقلين السياسيين كافة، وفي مقدمتهم فخري البارودي، مع دعوة وفد من الكتلة الوطنية إلى باريس للتفاوض على مستقبل سورية.
مكث الأتاسي وصحبه في فرنسا مدة ستة أشهر، قاموا فيها بمفاوضة حكومة إدوار دلادييه أولاً ثمّ خليفته الاشتراكي ليون بلوم. حاول الأتاسي إدراج بند على جدول المفاوضات يؤدي إلى استعادة الأقضية الأربعة التي سُلخت عن سورية وضمّت إلى لبنان سنة 1920 ولكنّ بلوم أصرّ على أن تكون المفاوضات حول مستقبل سورية فقط وألا تشمل الكيان اللبناني.
توصل الأتاسي إلى معاهدة مع فرنسا وُقّعت في مقر وزارة الخارجية الفرنسية في باريس يوم 9 أيلول 1936، تعطي سورية استقلالاً تدريجياً مقابل مجموعة من الامتيازات السياسية والعسكرية والثقافية. نصّت معاهدة عام 1936 على إعادة جبال العلويينوالدروز إلى سورية والسماح بإنشاء جيش وطني، شرط أن أن يُسلَّح ويُدرَّب من قبل فرنسا. وفي المقابل وافق الأتاسي على منح فرنسا حق الانتفاع من الجو والبحر والأرض في سورية، في حال نشوب حرب عالمية جديدة في أوروبا.
عاد وفد الكتلة الوطنية إلى دمشق رافعاً شعار النصر في 29 أيلول 1936 واستُقبل أعضاؤه استقبال الفاتحين. وقد أُجريت انتخابات مبكرة في شهر تشرين الثاني، فازت فيها الكتلة الوطنية بغالبية مقاعد المجلس النيابي. استقال محمد علي العابد من منصبه وانتُخب هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية في 21 كانون الأول 1936.
تعرض عهد هاشم الأتاسي من يومه الأول إلى تحديات جسيمة، تمثّلت بداية بعودة زعيم المعارضة عبد الرحمن الشهبندر من منفاه في مصر وشنّه هجوماً عنيفاً على معاهدة عام 1936، مُعتبراً أنها أعطت فرنسا الكثير ولم تأخذ بالمقابل وعداً صريحاً بالاستقلال. كان الشهبندر صديقاً قديماً للأتاسي وقد عُيّن وزيراً للخارجية في حكومته الأولى أيام الملك فيصل، ولذلك فقد تجنب الدخول في مواجهة معه وصوّب سهامه فقط باتجاه جميل مردم بكوسعد الله الجابري. وقد ردّ رئيس الحكومة على انتقادات الشهبندر المتكررة بوضعه قيد الإقامة الجبرية ومنعه من ممارسة أي نشاط سياسي، وأمر باعتقال عدد من أنصاره، ما أضر بسمعة العهد الوطني وأزعج الرئيس الأتاسي كثيراً.
وقد واجه الأتاسي تحديات أمنية كبيرة في منطقة الجزيرة عند ظهور تيار انفصالي قام أتباعه بخطف محافظ المنطقة توفيق شامية. حادثة الاختطاف هزت الطبقة السياسية في سورية وأدت إلى هروب محافظ اللاذقيةعادل العظمة، خوفاً من مصير مشابه. إضافة لكل هذه التحديات، تزامنت رئاسة الأتاسي مع صعود أدولف هتلر في ألمانيا وشعور الفرنسيين بالقلق الشديد من طموحاته التوسعية. تحسباً لأي مواجهة معه في أوروبا، قرر البرلمان الفرنسي عدم التصديق على معاهدة عام 1936، ما وضع الكتلة الوطنية ورئيسها في موقف حرج أمام الشارع السوري. حاول الأتاسي تدارك الموقف وأرسل رئيس الحكومة إلى فرنسا للتفاوض على الملاحق للمعاهدة، كضمان مكانة اللغة الفرنسية في المدارس السورية وإعطاء فرنسا حق التنقيب عن النفط في المنطقة الشرقية. ولكنّه طلب من جميل مردم بك ألا يوقع على أي ملحق قبل مناقشته أمام البرلمان، ولكنّ رئيس الحكومة قام بالتوقيع، متجاهلاً كلام رئيس الجمهورية.
وعندما أصر الفرنسيون على موقفهم الرافض للمعاهدة، استقال جميل مردم بك من رئاسة الحكومة في شباط 1939. شُكّلت بعدها حكومتان، الأولى برئاسة لطفي الحفار، عضو المكتب الدائم في الكتلة الوطنية، والثانية برئاسة السياسي المستقل نصوحي البُخاري، المحسوب على رئيس الجمهورية. ولكنّهم فشلوا في تمرير المعاهدة وفي منع سلخ منطقة لواء إسكندرون عن سورية، التي أُعطيت إلى تركيا من قبل حكومة باريس لضمان حيادها في الحرب العالمية الثانية. احتجاجاً على رفض التصديق على المعاهدة وعلى سلخ اللواء، استقال هاشم الأتاسي من منصبه مساء يوم 7 تموز 1939. بعدها بيوم واحد حُلَّ المجلس النيابي وتولّى المفوض السامي الفرنسي شؤون السلطتين التنفيذية والتشريعية في سورية.
سأله هاشم الأتاسي: “ما هي السلطة التي ستتمتع بها الجمهورية السورية العتيدة؟”
أجابه ديغول: “هناك ضرورات حرب ويمكن أن تكون بنود معاهدة 1936 مبدئياً هي الأسس التي تحدد بموجبها العلاقات بين الجمهورية السورية والسلطات الفرنسية.”
ردّ الأتاسي قائلاً: “لقد مرت سنوات على تلك المعاهدة وتغيّرت الظروف ونحن نطالب اليوم بما هو أوسع من ذلك.”
ثم أبلغه عن عدم رغبته بالعودة إلى الحكم، مُشيراً إلى أن تجربته السابقة مع الفرنسيين لم تكن مشجعة بسبب تخليهم عن المعاهدة وتراجعهم عن كل الوعود التي كانوا قد قطعوها في السنوات السابقة.
الأتاسي في عهد القوتلي (1943-1946)
غاب هاشم الأتاسي عن المشهد السياسي من بعدها باستثناء مباركته ترشح زميله في الكتلة، شكري القوتلي، إلى رئاسة الجمهورية في صيف العام 1943. وقد دُعي الأتاسي لمشاركة القوتلي احتفالات عيد الجلاء الأول يوم 17 نيسان 1946، ولكنه رفض الدخول في الحزب الوطني الذي ظهر في مطلع عهد الاستقلال، وكان مدعوماً من القوتلي. برر الأتاسي اعتذاره عن دخول الحزب الوطني قائلاً إن الكتلة الوطنية كانت تجمعاً وطنياً في وجه الاستعمار، ليس لها أي هدف إلّا تحرير البلاد وصون وحدة أراضيها. أمّا الحزب الوطني فله غاية سياسية أخرى وهي الوصول إلى الحكم. وكان هاشم الأتاسي يعدّ نفسه زعيماً وطنياً وممثلاً لكل السوريين، تعلو مكانته الرفيعة جميع الاعتبارات السياسية والحزبية.
تكليفه برئاسة الحكومة سنة 1948
في حرب فلسطين سنة 1948، خرج هاشم الأتاسي من عُزلته نزولاً عند رغبة الرئيس القوتلي وقبل تكليفه برئاسة الحكومة في محاولة لإنقاذ البلاد من أزمة وزارية حادة، جاءت في أعقاب استقالة حكومة جميل مردم بك الخامسة والأخيرة. كان ذلك بعد تسع سنوات من خروجه من الحكم، ليكون الوحيد بين رؤساء سورية الذي قبل أن يكون رئيساً للحكومة بعد أن كان رئيساً للجمهورية. جاء الأتاسي إلى دمشق لإجراء مشاورات مع الأحزاب والكتل النيابية ولكنه سرعان ما اعتذر عن التكليف نظراً لشدة التحزب والغليان الناتج عن تراجع الجيش السوري في فلسطين.
دعا الحناوي إلى اجتماع كبير في مبنى الأركان العامة، حضره قادة الأحزاب السياسية، تقرّر فيه الطلب إلى هاشم الأتاسي العودة إلى الحكم بصفته زعيماً تاريخياً أجمع عليه الشعب السوري بكل أطيافه، لقيادة المرحلة الانتقالية وترسيخ الأسس الدستورية والديمقراطية. رفض الأتاسي هذا الطلب بداية، ورأى أنّ شكري القوتلي يبقى هو الرئيس الشرعي للبلاد، بموجب الانتخابات النيابية التي أوصلته إلى الحكم سنة 1943، وجددت له سنة 1948.
رأى أن يعود القوتلي إلى الحكم ويدعو إلى انتخابات نيابية جديدة تليها انتخابات رئاسية، ولكن معظم السياسيين رفضوا هذا المقترح وأصروا على عودة الأتاسي. نزولاً عند رغبة الأكثرية وإنقاذاً للموقف قَبل هاشم الأتاسي التكليف وشكّل حكومة جديدة في 15 آب 1949. فور تسلّمه الحكم أصدر عفواً عن جميع معتقلي حسني الزعيموأمر بعودة الضبّاط المُسرحين إلى الخدمة، وكان على رأسهم أديب الشيشكلي، الذي عُيّن آمراً للواء الأول.
وقد طالب الأتاسي الابن بأن تكون الوحدة تحت عرش الأسرة الهاشمية الحاكمة في بغداد والممثلة بالملك فيصل الثاني، حفيد الملك فيصل الأول. وقد أيَّده في هذا الطرح رئيس الجمهورية ورئيس الأركان سامي الحناوي، المحسوب على العراق الهاشمي. تولى وزير الخارجية ناظم القدسي مهمة التفاوض مع العراق لتحقيق الوحدة، بدعم من صديقه رشدي الكيخيا، الذي انتخب رئيساً للجمعية التأسيسية المكلفة بوضع دستور سورية الجديد. كلاهما كان من حزب الشعب، وكانا مقرَّبين من هاشم الأتاسي الذي انتُخِب رئيساً للدولة بالإجماع يوم 14 كانون الأول 1949.
انقلاب الشيشكلي الأول (19 كانون الأول 1949)
ظنّ كثيرون أن عودة الأتاسي إلى الحكم ستؤدي حكماً إلى تحقيق الوحدة السورية – العراقية، ولكنّ انقلاباً عسكرياً وقع في 19 كانون الأول 1949، أطاح بسامي الحناوي الداعم الأول بين ضباط الجيش لمشروع الوحدة. أُرسل مكبلاً مهاناً إلى السجن بعد عزله عن رئاسة الأركان العامة، وكان مهندس الانقلاب أديب الشيشكلي يرى في مشروع الوحدة تعدّياً على نظام سورية الجمهوري وتحدياً شخصياً له. كان انقلاب الشيشكلي هو الثالث في أقل من عام بعد انقلاب الزعيمفي آذار وانقلاب الحناوي في آب 1949، وقد هدف إلى حرمان تحالف الأتاسي – حزب الشعب من دعم المؤسسة العسكرية الذي كان يوفره سامي الحناوي فيما يتعلق بقضية الوحدة مع العراق.
انقلاب الشيشكلي الثاني (29 تشرين الثاني 1951)
اشترط الشيشكلي على السلطة المدنية تعيين أحد أعوانه، اللواء فوزي سلو، في وزارة الدفاع في كل الحكومات المُقبلة، مع صلاحية نقد أي مشروع وحدوي مع بغداد قد تطرحه وزارة حزب الشعب في المستقبل. تفادياً لصدام جديد مع العسكر، وخوفاً من انقلاب جديد وأوسع قد يقوم به الشيشكلي، قرر الأتاسي قبول مطالب الجيش والتعايش مع أديب الشيشكلي حتى 28 تشرين الثاني 1951، عندما شُكلت حكومة جديدة بقيادة حزب الشعب، رفضت إسناد حقيبة الدفاع إلى فوزي سلو.
وجه الشيشكلي إنذاراً شديداً إلى رئيس الحكومة معروف الدواليبي، طالباً منه تعديل التشكيلة الوزارية فوراً، وعندما لم يستجب قام الشيشكلي بانقلاب جديد صباح يوم 29 تشرين الثاني 1951. اعتُقِل الدواليبي مع أعضاء حكومته، وأجبروا على الاستقالة من داخل سجن المزة. غضب الأتاسي من هذا التطاول الصريح على حكمه وصلاحياته الدستورية، وفي 2 كانون الأول 1951، استقال من الرئاسة احتجاجاً على تجاوزات الشيشكلي. في اليوم نفسه، أصدر الشيشكلي قراراً عسكرياً بتسمية فوزي سلو رئيساً للدولة والحكومة معاً وظلّ يحكم عبره حتى توليه الحكم بشكل مباشر وانتخابه رئيساً للجمهورية في 11 تموز 1953.
مؤتمر حمص
في هذه المرة، لم يعتزل هاشم الأتاسي السياسة كما فعل سنة 1939 بل كرس جهوده لإسقاط الشيشكلي ونزع الشرعية عن حكمه. وقد دعا إلى مؤتمر كبير في داره بحمص يوم 20 حزيران 1953، حضره جميع خصوم الشيشكلي، تقرر فيه عدم الاعتراف بالعهد الجديد والسعي لإسقاطه بكل الطرق المتاحة، سياسياً وعسكرياً. نظراً لتقدمه بالسن ومكانته الرفيعة في المجتمع السوري، لم يتمكن الشيشكلي من اعتقال هاشم الأتاسي يومها ولكنّه أمر باعتقال نجله عدنان مع جميع رفاقه في حزب الشعب.
الرئاسة الأخيرة 1954-1955
لم يُغير اعتقال عدنان الأتاسي من قناعات هاشم الأتاسي وموقفه الصارم من حكم العسكر، فقد أيّد الثورة التي انطلقت ضد أديب الشيشكلي من جبل الدروز وامتدت إلى حمصوحلب والساحل، قبل أن تُطيح به وبحكمه في 25 شباط 1954. عاد الأتاسي فوراً إلى دمشق في 1 آذار 1954 لإكمال ما تبقى من ولايته الدستورية، ورأى أن نظام الشيشكلي لم يمر على سورية. وأمر باستعادة البرلمان القديم والمُنتخب سنة 1949 ومعه دستور عام 1950، وألغى معظم القرارات التي صدرت في العهد البائد وحملت توقيع أديب الشيشكلي.
اغتيال العقيد عدنان المالكي
حضر الرئيس العائد إلى الحكم افتتاح معرض دمشق الدولي في 1 أيلول 1954، مبشراً بمرحلة جديدة يسودها الهدوء والاستقرار والرخاء الاقتصادي، ولكن سورية شهدت جريمة كبيرة بعدها بأشهر قليلة، عكرت صفاء ولاية الأتاسي، يوم اغتيال رئيس الشعبة الثالثة في الجيش العقيد عدنان المالكي في 22 نيسان 1955.
كان لهذا الحدث تأثير كبير على مجرى الحياة السياسية في سورية، وقد أدى إلى حظر الحزب السوري القومي الاجتماعي المتهم بتنفيذ الجريمة، واعتقال جميع قادته وأعضائه. وقد أعطت هذه الجريمة ذريعة لضباط الجيش بالتدخل مجدداً في الشؤون السّياسيّة، بحجة الثأر للشهيد المالكي. ومن أبرز النتائج المباشرة لتلك الجريمة كان تعيين عبد الحميد السراج مديراً للمكتب الثاني (شعبة المخابرات العسكرية) للإشراف على التحقيقات وفرض حكم بوليسي على سورية لم يختلف كثيراً عن حكم حسني الزعيموأديب الشيشكلي.
الخلاف مع جمال عبد الناصر
ترافق عهد الأتاسي الأخير مع صعود نجم جمال عبد الناصر في مصر، الذي لم يكن على علاقة جيدة مع نظيره السوري. كان الأتاسي ينظر إلى عبد الناصر ورفاقه من الضباط الأحرار على أنهم “مراهقون” في السياسة، لا خبرة لهم ولا حكمة، وقد رفض أن تكون لهم اليد العُليا في رسم سياسات الوطن العربي وفرض إرادتهم ومشيئتهم على سورية. وقد ظهر الخلاف بينهم منذ أن أعطى الأتاسي اللجوء السياسي لبعض كوادر الإخوان المسلمين في مصر، المُلاحقين أمنيّاً بعد محاولة اغتيال عبد الناصر في مدينة الإسكندرية في تشرين الأول 1954. رد عبد الناصر بسحب السفير المصري من دمشق وشنّ حملة إعلامية واسعة على حكّام سورية عبر جريدة الأهراموإذاعة صوت العرب.
ومع قرب نهاية ولايته طلب الأتاسي إلى سعيد الغزي تشكيل حكومة وطنية للإشراف على الانتخابات البرلمانية والرئاسية المُقبلة. وتعدّ هذه الانتخابات الأكثر نزاهة وشفافية في تاريخ سورية الحديث نظراً للكفاءة العالية التي كان يتمتع بها سعيد الغزي ووزير الداخلية إسماعيل قولي، الذي أصرّ على عدم تدخل الجيش أو طبقة الملاكين القدامى في العملية الانتخابية. وقد صبّ هذا الحياد في مصلحة حزب البعث، الذي فاز بسبعة عشر مقعداً من مقاعد المجلس النيابي، وهي أعلى نسبة منذ تأسيسه سنة 1947.
اجتمع المجلس النيابي الجديد لاختيار رئيس جديد يوم 18 آب 1955، وكانت المنافسة بين رئيس الجمهورية الأسبق شكري القوتلي ورئيس الحكومة الأسبق خالد العظم. فاز القوتلي في هذه الانتخابات وتولّى الحكم في 5 أيلول 1955، خلفاً لهاشم الأتاسي، كانت هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي يجري فيها تداول السلطة بهذا الشكل السلمي والدستوري، حيث ينتقل الحكم من رئيس مُنتخب إلى رئيس مُنتخب جديد دون وفاة أو استقالته أو إطاحة بموجب انقلاب عسكري.
سنوات التقاعد
سلّم هاشم الأتاسي مقاليد الحكم إلى شكري القوتلي وتوجه إلى حمص لقضاء سنواته الأخيرة، مُعتزلاً السياسة وبعيداً عن الشأن العام. في سنوات التقاعد تعرض لصدمة كبيرة يوم اعتقال نجله عدنان سنة 1956، بتهمة التخطيط لانقلاب عسكري مموّل من العراق لقلب نظام الحكم في سورية. اتُهم عدنان الأتاسي بمحاولة إقصاء جميع الشخصيات السّياسيّة والعسكرية الموالية لعبد الناصر في سورية، ومنها رئيس البرلمان أكرم الحوراني ومدير المكتب الثاني عبد الحميد السراج.
جرت محاكمة علنية لعدنان الأتاسي على مُدرّج جامعة دمشق، ولكن هاشم الأتاسي رفض حضورها أو التوسط لدى شكري القوتلي لإطلاق سراحه. وقد بقي عدنان الأتاسي سجيناً حتى 1960، عندما نُقِل إلى مصر ووُضِع قيد الإقامة الجبرية في مدينة الإسكندرية. كان ذلك في الجمهورية العربية المتحدة وكان آخر ظهور للرئيس الأتاسي يوم إعلان الوحدة سنة 1958، حيث توجه إلى دمشق للمشاركة في استقبال جمال عبد الناصر، على الرغم من الخلاف الشديد بينهما ووجود ابنه في السجن.
الوفاة
توفي الرئيس هاشم الأتاسي في حمص عن عمر ناهز 87 عاماً صباح يوم 6 كانون الأول 1960. رُتبت له جنازة رسميّة حُمل فيها نعشه المجلل بالعلم السوري على عربة مدفع، حضرها عبد الحميد السراج بصفته وزيراً للداخلية، ممثلاً عن الرئيس عبد الناصر، ومعه المهندس نور الدين كحالة، رئيس المجلس التنفيذي في دولة الوحدة. أُعلن الحداد العام في أراضي الجمهورية العربية المتحدة كافة وأُطلق اسم هاشم الأتاسي على شارع رئيسي ومدرسة في كل مدينة سورية، منها مسقط رأسه في حمص ومركز حُكمه في دمشق.
أشهر أبناء هاشم الأتاسي كان الدكتور عدنان الأتاسي وذلك بسبب عمله في السياسة، أما ابنه البكر سرّي فقد كان أميناً عاماً لمجلس النواب في عهد أبيه وتوفي سنة 1937. وقد عمل ابنه الثالث ناظم الأتاسي في الزراعة، وكان الأصغر رياض الأتاسي رئيساً لمكتب تفتيش الدولة في مطلع الستينيات.
وفي نهاية شهر أيلول من العام 1918، سقطت دمشق في يد قوات الشريف حسين ونُصّب نجلهُ الأمير فيصل حاكماً عربياً على سورية بعد تحريرها من الحكم العثماني. تعرف الأمير فيصل على الشهبندر فوثق به وعيّنه مترجماً خاصاً له يوم سفره إلى فرنسا لحضور مؤتمر الصلح في كانون الثاني 1919. ونظراً لطلاقة لسانه باللغة الإنجليزية، كلفه الأمير بالتواصل مع الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون، الذي تمكن الشهبندر من مقابلته في باريس وإقناعه بضرورة إرسال لجنة تقصّي حقائق إلى سورية، لمعرفة مدى تقبل الشعب السوري فكرة وضعه تحت وصاية فرنسية. وعند وصول لجنة كينغ كراين إلى دمشق، كلّف الشهبندر بمرافقة أعضائها في جولاتهم الميدانية ومقابلاتهم الرسمية. وطلب الأمير فيصل من الشهبندر التعاون مع مجموعة مدرسين وأطباء على تعريب مناهج الطب وإعادة افتتاح معهد الطب العثماني في دمشق، المغلق منذ زمن الحرب العالمية الأولى.
وزيراً للخارجية (3 أيار – 25 تموز 1920)
شارك الشهبندر في حفل تتويج الأمير فيصل ملكاً يوم 8 آذار 1920، وبعدها بشهرين عُيّن وزيراً للخارجية في حكومة الرئيس هاشم الأتاسي. وضِعت الحكومة في مواجهة مع الفرنسيين وقد تلقى الشهبندر بصفته وزيراً للخارجية برقية إنذار من الجنرال هنري غورو في يوم 14 تموز 1920، تطالب بحلّ الجيش السوري وجمع السلاح من الأهالي تمهيداً لفرض الانتداب الفرنسي على سورية. وافقت الحكومة السورية على شروط غورو وبدأت بتنفيذها، على الرغم من معارضة كل من رئيس الحكومة ووزير الخارجية ووزير الحربية يوسف العظمة، الذي استقال من منصبه احتجاجاً على قرار حلّ الجيش. ولكن الجنرال الفرنسي رأى أن قبول الشروط قد جاء متأخراً، وأصدر أمراً لقواته المرابطة في سهل البقاع بالزحف نحو مدينة دمشق. حصلت مواجهة عسكرية في معركة ميسلون يوم 24 تموز 1920، هُزم على أثرها الجيش السوري واستشهد الوزير يوسف العظمة. هرب الملك فيصل بداية إلى قرية الكسوة ثمّ إلى سهل حوران قبل مغادرته الأراضي السورية بشكل نهائي يوم 1 آب 1920. أما عبد الرحمن الشهبندر فقد توجه إلى مصر عند صدور قرار إعدام بحقه، بتهمة تشجيع السوريين على مقاومة الانتداب بكل الطرق السياسية والعسكرية.
عاد الشهبندر إلى سورية عند صدور عفو عن معظم السياسيين المبعدين وعمل مع صديقه الحميم حسن الحكيم على ترتيب زيارة الدبلوماسي الأمريكي شارل كراين إلى دمشق في 6 نيسان 1922. كان كراين أحد أعضاء اللجنة الأمريكية التي جاءت إلى سورية سنة 1919، يوم كان الشهبندر مترجماً لها، للوقوف على مشاعر الأهالي تجاه الانتداب الفرنسي، وفي زيارته الثانية أراد كراين معرفة ما قد حلّ بهم وببلادهم بعد مرور سنتين على فرض الانتداب بقوة السلاح.
جال كراين برفقة الشهبندر وحسن الحكيم على الجوامع والكنائس واجتمع بقادة المجتمع الدمشقي وذوي الشهداء والمعتقلين. وقبل سفره، قدّم للشهبندر منحة بقيمة 2000 دولار أمريكي، طلب إليه تسليمها إلى سيدتين سوريتين ترغبان في إكمال دراستهن الجامعية في الولايات المتحدة الأمريكية. قرر الشهبندر أن تكون المنحة الأولى من نصيب نازك العابد، مؤسسة جمعية نور الفيحاء، وأن تذهب الثانية إلى أليس قندلفت، بنت الأديب متري قندلفت. رفضت العابد تلك المنحة، ورشّحت مُدرسة من عائلة الرهونجي بدلاً عنها، أمّا قندلفت فقد قبلتها ودرست في جامعة كولومبيا.
ألقت سلطة الانتداب القبض على عبد الرحمن الشهبندر بتهمة تقاضي أموال من دولة أجنبية وسيق مخفوراً إلى سجن القلعة، بانتظار تحديد موعد جلسته أمام القضاء الفرنسي. أضربت دمشق لأجله ورافع عنهُ صديقهُ المحامي فارس الخوري، زميل الدراسة في الجامعة الأمريكية. ولكنّ النتيجة لم تكن لصالحهم. فقد حُكم عليه بعشرين سنة من السجن، قضى منها تسعة عشر شهراً فقط قبل إطلاق سراحه بموجب عفو فرنسي جديد صدر يوم 12 تشرين الأول 1923.
حزب الشعب
في 5 حزيران 1925 أسس عبد الرحمن الشهبندر أول حزب سياسي في عهد الانتداب الفرنسي، الذي سمّاه حزب الشعب وكان مقره بالقرب من محطة الحجاز. احتشد أكثر من ألف شخص لحضور حفل الإشهار في أوبرا العباسية، حيث انتُخب الشهبندر رئيساً للحزب وفارس الخوري نائباً للرئيس. وقد نادى حزب الشعب باستقلال سورية بحدودها الطبيعية وانضمام سورية إلى عصبة الأمم، مع وضع دستور وانتخاب مجلس نواب يمثل مطالب الشعب السوري وطموحاته.
انتسب جميل مردم بك إلى الكتلة الوطنية، التي كانت تنادي بتحقيق الاستقلال عبر المفاوضات السياسية وتعاون “مُشرّف” مع فرنسا، وليس عبر النضال المسلّح، ما عدّه الشهبندر خيانة بحق شهداء الثورة السورية الكبرى. وفي سنة 1936 تمكنت الكتلة الوطنية من إبرام معاهدة سورية – فرنسية، تعطي الحكومة السورية بعضاً من الصلاحيات مع استقلال تدريجي ومشروط، مقابل منح فرنسا حق الانتفاع من الأراضي السورية والمطارات في حال نشوب حرب جديدة في أوروبا، مع إقامة قواعد عسكرية في الساحل السوري. عُرف الاتفاق بمعاهدة عام 1936، التي وصلت بموجبها الكتلة الوطنية إلى سدّة الحكم، وأصدرت عفواً عاماً عن جميع المعتقلين والمبعدين لأسباب سياسية، وفي مقدمتهم عبد الرحمن الشهبندر وسلطان باشا الأطرش. عاد الشهبندر إلى سورية يوم 14 أيار 1937، ليترأس المعارضة ضد حكومة جميل مردم بكومعاهدة عام 1936.
العودة إلى دمشق سنة 1937
رُفعت صور الشهبندر في شوارع العاصمة وتناقلت الصحف خبر عودته، وقد وصفته جريدة الأيام بزغلول سورية، نسبةً إلى الزعيم المصري سعد زغلول. وحدهم زعماء الكتلة الوطنية غابوا عن حفل استقبال الشهبندر، باستثناء لطفي الحفار الذي حضر بصفته الشخصية. كان الشهبندر ناقماً عليهم لتجاهلهم له طوال مدة غيابه عن مسرح الأحداث في سورية وغاضباً من عدم مشورته في أثناء مفاوضاتهم في باريس. وعندما دعوه لحضور مؤتمر بلودان لمناقشة الأوضاع العامة في فلسطين، رفض الشهبندر المشاركة، قائلاً إنه لا يقبل حضور مجلس يترأسه سعد الله الجابري، وزير الخارجية والداخلية في حكومة جميل مردم بك. سخِر الشهبندر من خصومه، ووصفهم بالمراهقين السياسيين، ورأى أن معاهدة عام 1936 كانت مليئة بهفوات سياسية وقانونية لا تُغتفر، وتنازلات مُذلّة بحق الشعب السوري.
في أحاديثه الصحفية وجّه الشهبندر اللوم إلى جميل مردم بك، وقال إنه هو المسؤول الأول والأخير عن كل هذه الأخطاء. وفي إحدى المناسبات الجماهيرية خطب الشهبندر قائلاً: “إنّ هذه المعاهدة كلها سُموم… يحاول السيد جميل مردم بك تبليعها أبناء سورية وطليها بالعسل، ولكن أبناء البلاد سيطحنون جرعة المعسول بالعقل ليروا السموم المدسوسة فيها.”
ردّ الرئيس مردم بك على كل هذه الانتقادات وأمر بوضع الشهبندر قيد الإقامة الجبرية في منزله في بلودان، مع تعليمات صارمة بفرض رقابة مشدّدة على كلّ زواره ومنعه من عقد اجتماعات سياسية. وعندما تقدم بطلب لإحياء حزب الشعب المُعطّل منذ سنة 1925، جاء رد الحكومة برفض موقع من وزير الداخلية سعد الله الجابري.
الشهبندر والعلمانية
تعرض الشهبندر لحملة مركزة من خطباء المساجد وعلماء الدين المتحالفين مع الكتلة الوطنية بسبب ما قيل يومها عن توجهاته العلمانية ومطالبته بفصل الدين عن السياسة. أُشيع أنه سُمعَ يقول: “نحن العرب لا يمكن أن ننهض حتى نترك هذا الدين الذي أتى به بدوي من الصحراء.” وقيل إنه خاطب بعض النساء المتحجبات بالقول: “إلى متى وأنتن تضعن هذه الجلابيب؟ أما آن لكُنَّ أن تتشبهن بنساء أوروبا؟” وقال الصيدلاني راشد الريشاني، زميل الشهبندر في جامعة بيروت الأمريكية، إنه فكّر في سنواته الدراسية في الخروج على الإسلام واعتناق الدين المسيحي على المذهب البروتستانتي.
هذه العبارات التي نُسبت إلى الشهبندر لم تصدر عنه رسمياً لا في خطاب مُعلن ولا في مقال منشور، وكانت مجرد تهم أُلصقت به وتناقلها العوام في مقاهي دمشق ومجالسهم الخاصة. عندما عاد الشهبندر إلى دمشق بعد دراسته الطب في بيروت، كان مدافعاً شرساً عن الإسلام وقد ترجم كتاب “روح الإسلام” عن اللغة الإنجليزية، وانفرد بفصل كامل عن حقوق المرأة في الإسلام، نُشر في جريدة المقتبس سنة 1908. وقد تحالف مع علماء الشّام عند تأسيس حزب الشعب، وعندما دعاهم لحمل السلاح في وجه فرنسا كانت دعوته باسم “الله والوطن.”
اغتيال الشهبندر
في 6 تموز 1940 اغتيل الدكتور عبد الرحمن الشهبندر داخل عيادته الطبية الكائنة في منطقة الشعلان، مقابل مدرسة الفرنسيسكان. في اليوم نفسه، شُكّلت لجنة عليا للتحقيق بالجريمة، ترأسها المدعي العام عبد الرؤوف سلطان، وبعد تسعة أيام تمكنت المباحث من اعتقال زعيم القتلة، وكان اسمه أحمد عصاصة، متوارياً في بساتين الميدان. أُلقي القبض عليه بواسطة أحد سكان المنطقة، وكوفئ بخمسة آلاف ليرة سورية، قدمها صديق الشهبندر، الصناعي عثمان الشرباتي.
أرادت حكومة الانتداب الفرنسي إلصاق الجريمة بخصوم الشهبندر من قادة الكتلة الوطنية، وأيدهم في ذلك رئيس حكومة المديرين بهيج الخطيب. زار أحد رجالات الاستخبارات منزل نزيه مؤيد العظم، صهر الشهبندر، وقال له: “اقتلوا بالمقابل واحداً من الكتلة الوطنية!” تعرض الجناة لتعذيب شديد وضرب مُبرح داخل السجن، ومن ثمّ عُرض عليهم حكم مخفف لو قالوا في إفادتهم أمام المحكمة إن أمر التصفية جاء من جميل مردم بك شخصياً. وقد اجتمع الخطيب ومؤيد العظم بالقتلة واتفقوا معهم على هذه الخطة.
وفي جلسات المحاكمة التي عقدت داخل مجلس النواب السوري، كرر أحمد عصاصة أقواله قبل أن يدخل عليهم الشيخ مكي الكتاني، مفتي المالكيّة، ويقول إنه يتحمّل جزءاً من المسؤولية عما حدث مع الشهبندر، مشيراً إلى أن أحمد عصاصة قد زاره قبل تنفيذ الجريمة وسأله: “ما جزاء الخائن في الإسلام؟” أجابه الكتاني دون تردد: “القتل.” وقد اتخذت هذه الفتوى غطاء شرعياً لتصفية الشهبندر. عندما شاهد القتلة الشيخ الكتاني في قاعة المحكمة، نهضوا من أماكنهم باحترام بالغ وارتباك شديد، فتوجه إليهم بالقول إنه لم يُفتِ قط باغتيال الشهبندر، بل تحدث عن الخيانة بالعموم، دون معرفة المقصود من سؤال عصاصة.
هنا طلبت المحكمة من أحمد عصاصة أن يُعيد شهادته أمام القاضي الفرنسي وأن يقسم على القرآن الكريم بألّا يقول إلّا الصدق. انفجر عصاصة باكياً واعترف بأنه قتل الشهبندر دون أي توجيه من جميل مردم بك ورفاقه، مضيفاً أنه لم يلتقِ بعاصم النائلي في حياته. أصدرت المحكمة قراراً بتبرئة قادة الكتلة الوطنية من كل التهم الموجهة إليهم، وحُكم على الجناة بالإعدام. وقد نفذ إعدام المجرمين في ساحة المرجة بدمشق صباح يوم 3 شباط 1941.
عائلة الشهبندر
تزوج عبد الرحمن الشهبندر من سارة مؤيد العظم، بنت الوجيه تقي الدين مؤيد العظم، التي توفيت سنة 1976. وله منها ستة أولاد كان أكبرهم فيصل الشهبندر المُسمى على اسم الملك فيصل الأول (وهو من تولد 1917)، تليه سحاب (تولد 1919)، ثم ميادة (1921) فغادة الشهبندر (1923)، وصولاً للتوأم رباح وصلاح الشهبندر (1924).
جُسّدت شخصية عبد الرحمن الشهبندر مرتين على شاشة التلفزيون، كانت الأولى في الجزء الثاني من مسلسل أخوة التراب سنة 1998، حيث لعب دوره الممثل الفلسطيني بسّام لطفي. وكانت المرة الثانية في مسلسل طالع الفضة سنة 2011، عندما جسّد شخصيته الفنان الفنان السوري جمال سليمان.
ولِد أحمد قدري في حيّ القنوات بدمشق وكان والده عبد القادر قدري ضابطاً في الجيش العثماني، خدم في مدينة نابلس الفلسطينية. أمّا والدته فقد توفيت بوباء الكوليرا الذي عصف بالبلاد السورية في مطلع القرن العشرين. دَرَس أحمد قدري في معهد الطب العثماني في إسطنبول وأكمل اختصاصه العلمي في باريس، حيث شارك مجموعة من الطلاب العرب في تأسيس الجمعية العربية الفتاة سنة 1911.
أما أحمد قدري، فقد عاش مدة وجيزة في القاهرة، قبل استدعائه إلى بغداد من قبل الملك فيصل وتعيينه قنصلاً عاماً في مصر سنة 1930. توفي فيصل الأول في سويسرا يوم 8 أيلول 1933، وبايع أحمد قدري نجله الوحيد غازي ملكاً على العراق. كلفه الملك الشاب بتأسيس الإدارة الطبية في بغداد، التي تحولت لاحقاً إلى وزارة الصحة العراقية، وفي سنة 1935، طلب إليه السفر إلى فرنسا لتأسيس القنصلية العراقية في باريس، وعيّنه قنصلاً عاماً للملكة العراقية.
العودة إلى سورية
ولكن علاقة الدكتور قدري بالملك غازي لم تكن بمستوى علاقته بأبيه الراحل، فقد تخلّى عنه سريعاً تحت ضغط وإلحاح من الحكومة البريطانية، التي اعترضت على وجوده في العراق ودعمه المستمر للحركة الوطنية في سورية. أبعده الملك غازي عن العراق، فعاد أحمد قدري إلى سورية عند تحريرها من الانتداب الفرنسي سنة 1946، حيث عيّنه صديقه القديم شكري القوتلي رئيس الجمهورية حينها أميناً عاماً لوزارة الصحة. من موقعه الجديد، أسس الدكتور قدري داراً للتوليد في حلب ومشفى للأمراض العقلية بدمشق، وأشرف على توسيع مشفى ابن النفيس الحكومي. وفي آب 1948 ترأس وفد سورية إلى مؤتمر الصليب الأحمر في السويد، لتحذير المجتمع الدولي من التحديات الجسيمة التي ستواجه منطقة الشرق الأوسط بسبب تهجير آلاف اللاجئين الفلسطينيين ونزوحهم عن مُدنهم وقراهم.
الوفاة
أُحيل أحمد قدري على المعاش وتفرّغ لكتابة مذكراته، التي صدرت سنة 1956 بعنوان مُذكّراتي عن الثورة العربية، وذلك قبل سنتين من وفاته عمر ناهز 65 عاماً سنة 1958.
بعد فرض الانتداب الفرنسي على سورية سنة 1920، غاب حسني البرازي عن أي نشاط سياسي لغاية تعيينه وزيراً للداخلية في حكومة الرئيس أحمد نامي سنة 1926. قبِل البرازي المشاركة بالحكم شرط أن يُطالب الرئيس نامي بانضمام سورية إلى عصبة الأمم ويسعى إلى وقف الحملة العسكرية على الغوطة الشرقية. وقد اشترك مع البرازي في هذه الوزارة اثنان من زملائه في الحركة الوطنية وهما فارس الخوري، الذي عُيّن وزيراً للمعارف ولطفي الحفار الذي تولّى حقيبة التجارة. اعتقلوا في 12 حزيران 1926 بتهمة التواصل مع ثوار الغوطة ونفتهم سلطة الانتداب إلى مدينة الحسكة ثم إلى لبنان حتى سنة 1928.
دستور سنة 1928
فور عودته إلى دمشق بعد صدور عفو عنه في شباط 1928 انضم حسني البرازي إلى الكتلة الوطنية، التنظيم السياسي الجديد الذي كان قد أسسه هاشم الأتاسي لمحاربة فرنسا بطرق سياسية لا عسكرية. وفي ربيع العام 1928 ترشح البرازي لعضوية الجمعية التأسيسية لوضع دستور جمهوري للبلاد بدلاً من الدستور الملكي الذي سقط مع سقوط حكم الملك فيصل في سورية. فاز هاشم الأتاسي برئاسة الجمعية التأسيسية وانتُخب حسني البرازي عضواً فيها، نائباً عن مدينة حماة.
عمل أعضاء المؤتمر على وضع دستور عصري مُستلهم من الدساتير الأوروبية الحديثة، دون أن يكون فيه أية إشارة إلى نظام الانتداب. اعترضت فرنسا على هذا التحدي وطلبت تعديل بعض المواد وإضافة مادة خاصة بالانتداب، رقمها 116. صوّت أعضاء الجمعية على النسخة الأولى من الدستور يوم 11 آب 1928، متجاهلين كل المقترحات الفرنسية، ولكن حسني البرازي خالف الجميع بموقفه وأيّد تعديل المواد وإضافة المادة 116، ورأى أنه من الأفضل عدم الدخول في مواجهة مع المندوب الفرنسي. وقد أدى موقف هاشم الأتاسي وأغلبية المشرعين إلى تعطيل الدستور وحل الجمعية التأسيسية، وبسبب هذه المواجهة حصل فراق بين البرازي وقادة الكتلة الوطنية، استمر قرابة عشر سنوات.
البرازي وزيراً للمعارف
وكان لهذا الفراق دور كبير في قبول البرازي المشاركة في حكومة معادية للكتلة الوطنية، شكّلها الشّيخ تاج الدين الحسني في 17 آذار 1934. عُين البرازي فيها وزيراً للمعارف، وقد تعرضت حكومة الشّيخ تاج إلى انتقادات عنيفة من قبل الكتلة الوطنية، وأُجبرت على الاستقالة في آذار 1936 بسبب الإضراب الستيني الذي قادته الكتلة في المدن السورية الكبرى.
في أثناء الحرب العالمية الثانية، سُمّي الشيخ تاج الدين الحسني رئيساً للجمهورية في أيلول 1941، وفي عهده أعلنت فرنسا استقلال سورية مع إبقاء الجيش الفرنسي على أراضيها حتى نهاية المعارك في أوروبا. حكم الشيخ تاج من دون دستور أو مجلس نواب، ولإضفاء الشرعية على عهده تعاون مع شخصيات محسوبة على الحركة الوطنية، منها رئيس وزرائه الأول حسن الحكيم، قبل اختيار البرازي لخلافته في 17 نيسان 1942. وكان البرازي وقبل تعيينه رئيساً للحكومة قد عمل محافظاً لمدينة دمشق لفترة وجيزة من 28 شباط وحتى 1 نيسان 1942.
شُكلت حكومة البرازي في 17 نيسان 1942 ولكنها اصطدمت برئيس الجمهورية بسبب إصرار البرازي على مجابهة الفرنسيين كلامياً، والقول إن استقلال سورية المزعوم “لا طعم له ولا معنى” طالما أن الجيوش الأجنبية بقيت موجودة على الأراضي السورية. ردد الرئيس البرازي هذا الكلام على مسمع صهر رئيس وزراء بريطانيا دانكان سانديس في أثناء زيارته دمشق قائلاً:
بصفتي رئيسًا للوزارة ووزيرًا للدّاخليّة والمسؤول عن هذا البلد، أرى أنه لا يوجد في سورية استقلال. إنّنا نطالب بريطانيا بالالتزام بتعهّداتها ونرجو منك على الأخصّ أن تطلب من المستر تشرشل أن يحافظ على شرف بريطانيا وعلى العهد الّذي قطعته معنا. إنّ هذه البلاد يحكمها جنرال فرنسيّ، في حين أنّ فرنسا نفسها ما زالت حتّى الآن تحت الاحتلال النازّي. إنّ الفرنسيّين يطبّقون أساليب الانتداب الّتي كانوا يتّبعونها في عهدهم الأوّل معنا، فلا يفسحون المجال أمامنا لنشعر بالاستقلال.
نظراً لشدة خلافاته مع الفرنسيين من جهة، ومع الشيخ تاج من جهة أخرى، أُجبر حسني البرازي على الاستقالة من منصبه يوم 8 كانون الثاني 1943، بعد تسعة أشهر فقط من توليه الحكم. وقد غادر الحكم بشكل مهين، حيث أمر رئيس الجمهورية بمصادرة سيارته ووضعه قيد الإقامة الجبرية، مع فتح تحقيق قضائي حول تهم مختلفة وجهت للبرازي، منها التلاعب بقوت الشعب السوري والثراء غير المشروع عبر تجارة القمح والحبوب.
أمّا أنا فقد ألقيت خطابًا تحت قبّة البرلمان وطالبت فيه بقبول التقسيم وقلت إنّنا كعرب لن نستطيع الحصول عبر الحرب على أكثر من ذلك. نصحت الجميع أن يقبلوا ما كان مطروحًا يومئذٍ لأنّه لن يكون مطروحًا بعد سنوات أو أشهر، ولكن لم يقبل رؤيتي أحد من الزملاء واتّهمني البعض بالجبن والتخلي عن فلسطين والعمالة للحركة الصّهيونيّة.فالاتّفاق مع اليهود وإعطاؤهم هذا الشّكل المحدود من الحقوق أفضل من أن يصلوا إلى كيان كامل معترف به دوليّاً.
البرازي وحسني الزعيم
شنّت الصحف اليومية هجوماً عنيفاً على البرازي، وتعرض لانتقاد كبير من رئيس الجمهورية شكري القوتلي. وعند وقوع الانقلاب الأول ضد القوتلي في 29 آذار 1949، كان حسني البرازي في طليعة مؤيديه. فُرضت الأحكام العرفية على البلاد بأمر من مهندس الانقلاب، حسني الزعيم، الذي عيّن البرازي نائباً له في المجلس العرفي يوم 5 نيسان 1949. وبعد استعادة الأمن والتخلص من القوتلي ورجاله، سمّي البرازي محافظاً على مدينة حلب، ولكنّ انتقاداته المتكررة لحسني الزعيم أدّت إلى إقالته سريعاً ثم سجنه بتهمة التعاون مع الأردنوالعراق لقلب نظام الحكم الجمهوري في سورية. وكان البرازي معتقلاً في سجن المزة يوم انقلاب اللواء سامي الحناوي على حسني الزعيم في 14 آب 1949.
دستور 1950
بعد سقوط الزعيم ومقتله تداعى زعماء سورية إلى اجتماع كبير في مبنى الأركان، دعا إليه سامي الحناوي، وقرروا عودة هاشم الأتاسي إلى الحكم للإشراف على انتخاب جمعية تأسيسية مكلفة بصياغة دستور جديد للبلاد بدلاً من الدستور القديم الذي كان حسني الزعيم قد عطله قبل بضعة أشهر. انتُخب حسني البرازي عضواً في الجمعية التأسيسية، حيث وقف في وجه كل الطروحات الإسلامية التي نادى بها الشيخ مصطفى السباعي زعيم الإخوان المسلمين، والاشتراكية التي طالب بها أكرم الحوراني، رئيس الحزب العربي الاشتراكي.
العلاقة مع أديب الشيشكلي
أُسقط عهد هاشم الأتاسي عند قيام العقيد أديب الشيشكلي (ابن عمّة حسني البرازي)، بانقلاب جديد في 29 تشرين الثاني 1951، كان الهدف منه منع تحقيق وحدة فيدرالية بين سورية والعراق. كان البرازي من دعاة هذه الوحدة، وقد عارض طموحات الشيشكلي بشدة، على الرغم من صلات القربى التي كانت تجمع بينهما، فأمر الأخير باعتقاله وبقي البرازي سجيناً حتى سقوط الشيشكليونفيه خارج البلاد في 25 شباط 1954.
جريدة الناس
بعد خمسة أشهر من سقوط نظام الشيشكلي، أسّس حسني البرازي جريدة النّاس اليوميّة مع صديقه الصحفي نذير فنصة. تولّى البرازي كتابة افتتاحيات الجريدة، التي أصبحت منبراً للهجوم على الشيوعيين والعسكر، فصُنّف “عميلاً أمريكياً” من قبل المكتب الثاني (شعبة المخابرات العسكرية). وعند ظهور جمال عبد الناصر وتوليه رئاسة الجمهورية في مصر سنة 1954 كانت جريدة الناس في طليعة منتقديه، ما أحرج الدولة السورية كثيراً. وصفه البرازي بالعميل للشيوعية وقال إنه “لا يختلف عن الملك فاروق، لا من حيث الفساد ولا الاستبداد.” أُغلقت جريدة الناس بأمر من مدير المكتب الثاني عبد الحميد السراج سنة 1955 وصدر حكم إعدام بحق حسني البرازي، الموجود يومها في تركيا، بتهمة الاستنجاد بالجيش التركي لقلب نظام الحكم في سورية.
السنوات الأخيرة والوفاة
انتقل حسني البرازي من تركيا للعيش في بيروت، بعد حصوله على لجوء سياسي من الرئيس اللبناني كميل شمعون، وفي سنة 1969 سجّل مذكرات شفهية في الجامعة الأميركية في بيروت، بطلب من البروفيسور يوسف إبيش. وفي سنة 2016 أخرجت الجامعة الأمريكية هذه التسجيلات الصوتية من الأرشيف وتحويلها إلى كتاب حققه وقدّم له المؤرخ السوري سامي مروان مبيّض.
الوفاة
توفي حسني البرازي في بيروت عن عمر ناهز 78 عاماً سنة 1973.
بعد تخرجه سنة 1905 عُيّن العابد مستشاراً في نظارة العدلية العثمانية ثم لدى الصدر الأعظم إبراهيم حقي باشا. وفي حزيران 1908 عينه السلطان عبد الحميد سفيراً في واشنطن، ولكنّه لم يبق في هذا المنصب إلّا أسابيع معدودة فقط بسبب الانقلاب العسكري الذي نُفّذ في إسطنبول وأدى إلى عزل كل من أحمد عزت ومحمد علي العابد عن مناصبهم في تموز 1908، وخلع عبد الحميد الثاني عن العرش في نيسان 1909. وقد اجتمع الأب والابن في باريس للإقامة مع بقية أفراد الأسرة في المنفى حتى سقوط الحكم العثماني في سورية سنة 1918.
وفي تموز 1920 سقط الحكم الفيصلي بدمشق وفُرض الانتداب الفرنسي على سورية. دُعي محمد علي العابد من قبل شقيق زوجة عبد الرحمن باشا اليوسف رئيس مجلس الشورى في حينها، للعودة إلى وطنه والاستثمار فيه، وقد لبى الدعوة وقرر الاستقرار مجدداً في دمشق. أمّا والده فقد فضّل الإقامة في مصر، ضيفاً مُكرّماً عند الملك فؤاد الأول. وفي سنة 1922 سمّي العابد مديراً للمالية (بمرتبة وزير) في دولة الاتحاد السوري التي كان يرأسها صبحي بركات. وقد تزوج صبحي بركات في مدّة رئاسته من ليلى بنت محمد علي العابد، ولكن زواجهما لم يدم طويلاً وانتهى بطلاق عاصف، ما فجّر خلافاً شديداً بين العابد وصبحي بركات استمر حتى بعد عودتهما إلى الحكم سنة 1932، الأول رئيساً للجمهورية والثاني رئيساً لمجلس النواب.
انتخابات رئاسة الجمهورية
توفي أحمد عزت العابد في مصر سنة 1924، وغاب ابنه عن المشهد السياسي من بعده طيلة سبع سنوات، تفرغ فيها لتأسيس وترأس جمعية الإسعاف الخيري خلال السنوات 1926-1927. عاد إلى السياسة سنة 1932 وشارك في الانتخابات النيابية وبعد فوزه بمعقد عن دمشق ترشح العابد إلى منصب رئيس الجمهورية، ضد كل من خصمه اللدود صبحي بركات (صاحب أكبر كتلة نيابية) وهاشم الأتاسي، رئيس الكتلة الوطنية.
قرر الأتاسي الانسحاب من هذه المعركة بعد خسارة الكتلة الوطنية لجميع مقاعدها في مدينة حلب، وطلب إلى نوابه المتبقّين (وكان عددهم سبعة عشر نائباً) التصويت لصالح محمد علي العابد، وذلك لقطع الطريق على صبحي بركات لكيلا يفوز برئاسة الجمهورية. فاز العابد في هذه الانتخابات بستة وثلاثين صوتاً من أصل ستة وثمانين صوتاً داخل مجلس النواب، وفي 11 حزيران 1932، أقسم اليمين ليصبح أول رئيس للجمهورية السورية.
وقد وصف المؤرخ السوري سامي مروان مبيّض مراسيم تنصيب العابد رئيساً بالقول:
نهض الرئيس المُنتخب ببطء تحت قبة المجلس النيابي السوري إلى المنصة المرتفعة أمام النواب، بطربوشه الأحمر ووقاره المعروف لدى الدمشقيين، مرتدياً بزة أنيقة غامقة اللون، متكئاً على عصا، لتجاوزه الستين من العمر. وضع يده اليمنى على المصحف الشريف مقسماً باسم الله والوطن، أن يحافظ على الدستور وأن يحترم القانون وأن يعمل على خدمة المصالح الوطنية. كان العابد عجوزاً يومها، لكنه وقف وقفة كبرياء وشموخ في ذلك اليوم التاريخي من حياة بلاده، مدركاً حجم المسؤولية الثقيلة الملقاة على عاتقه. انفجرت القاعة بتصفيق حاد من النواب، بينما أطلقت المدفعية إحدى وعشرين طلقة في سماء دمشق احتفالاً بالحدث الكبير .
خطب العابد أمام النواب واعداً أن يكون “صديقاً للجميع… وأباً لكلّ السوريين،” وأعلن أنه لم يتقاضَ راتباً شهرياً من الدولة وسوف يُنفِق على ميزانية القصر الجمهوري من ماله الخاص.
انتخب صبحي بركات رئيساً للمجلس النيابي في عهد محمد علي العابد وفرضت فرنسا على رئيس الجمهورية تعيين حقي العظم، المحسوب على دولة الانتداب، في رئاسة الحكومة. شاركت الكتلة الوطنية في حكومة الرئيس العظم الأولى، ممثلة بالوزراء جميل مردم بكومظهر رسلان، ولكن تحالف العابد مع هاشم الأتاسي انهار سريعاً بسبب عدم قدرة الرئيس على تحقيق أي من مطالب الحركة الوطنية، ومنها انضمام سورية إلى عصبة الأمم والتوصل إلى جدول زمني لإنهاء الانتداب الفرنسي. وقد أجبر كل من مردم بكورسلان على الاستقالة من حكومة العظم والانضمام إلى صفوف المعارضة النيابية التي بدأت منذ سنة 1933 المطالبة باستقالة العابد والذهاب إلى انتخابات رئاسية مبكرة.
معاهدة الصداقة مع فرنسا
وفي تشرين الثاني 1933، قدمت فرنسا مشروع معاهدة صداقة مع سورية، لم تأتِ على ذكر الاستقلال. كانت مسودة المعاهدة مكتوبة باللغة الفرنسية دون ترجمة عربية ولم تكن فرنسا قد استشارت الرئيس السوري بمضمونها، وقد أعطت لنفسها حق إدارة شؤون سورية الخارجية وتنظيم أمور جيشها في المستقبل، وتدريب قوى الأمن والشرطة وصياغة مناهجها التربوية.
اعترض العابد على بنود المعاهدة، ولم يرغب أن تحمل توقيعه ولا أن تمر في عهده. وقد أوكل إلى رئيس الحكومة حقي العظم التفاوض على بنودها المطروحة، والقبول بها شرط انضمام سورية إلى عصبة الأمم أولاً، وأن تكون لها مدة زمنية لا تتجاوز خمس سنوات، تنتهي مع انتهاء الانتداب. ولكن الكتلة الوطنية رفضت هذه المعاهدة بمجملها وكذلك فعل صبحي بركات بصفته رئيساً للمجلس النيابي. وعند طرح المعاهدة على المجلس في 21 تشرين الثاني 1933، أُسقطت بغالبيّة الأصوات، ما أغضب الفرنسيين كثيراً وجعلهم يصدرون قراراً بحل البرلمان السوري إلى أجل غير مسمى.
الصِدام الأخير مع الكتلة الوطنية
قررت فرنسا الاستغناء عن حقي العظم بسبب فشله في تمرير معاهدة الصداقة، وفي آذار 1934 عيّنت الشيخ تاج الدين الحسني بدلاً عنه في رئاسة الحكومة. شنّت الكتلة الوطنية حملة كبيرة ضد الشيخ تاج وطالبته بالاستقالة، وعدّت أنّ العهد بكامله قد فقد شرعيته ولم يعد دستورياً بعد حلّ مجلس النواب. وعندما زار حلب برفقة رئيس الجمهورية، أجبرته الكتلة على الخروج من الجامع الكبير تحت هتاف “يسقط…يسقط…يسقط.”
أدّت مفاوضات باريس إلى توقيع معاهدة بين الأتاسي ورئيس وزراء فرنسا ليون بلوم في 9 أيلول 1936، أعطت سورية استقلالاً تدريجياً، مقابل تعيين مستشارين فرنسيين في كل مفاصل الدولة السورية وإعطاء فرنسا حق الانتفاع من الأراضي السورية والمطارات العسكرية والمدنية في حال نشوب حرب عالمية جديدة في أوروبا. وعند عودة وفد الكتلة الوطنية إلى دمشق في نهاية شهر أيلول، تقدم الرئيس العابد باستقالته، مُدركاً أن مشاعر الناس باتت كلياً مع زعماء الكتلة الوطنية. دعا إلى انتخابات برلمانية مبكرة، فازت فيها الكتلة الوطنية بغالبية مقاعد المجلس النيابي، وفي 21 كانون الأول 1936، انتُخب هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية، خلفاً لمحمد علي العابد.
التقاعد والوفاة
أعلن الرئيس العابد اعتزاله العمل السياسي من يومها وتوجه إلى مدينة نيس الفرنسية للتقاعد. عاش سنواته الأخيرة في منفى اختياري، وكان الناس يرونه في فنادق نيس الفخمة مع صديقه عبد المجيد الثاني، آخر خلفاء الدولة العثمانية. وكان العابد قد حافظ حتى يومه الأخير على علاقته المتينة مع عائلة السلطان عبد الحميد الثاني وكان يُنفق 50 ليرة ذهبية في الشهر على محمد سليم أفندي، أكبر أبناء السلطان.
وفي نيس توفي محمد علي العابد عن عمر ناهز 72 عاماً في 17 تشرين الثاني 1939. وقد نُقل جثمانه إلى دمشق على متن طائرة خاصة وأجريت له جنازة رسميّة، بحضور رئيس حكومة المديرين بهيج الخطيب، الذي أطلق اسمه على شارع المجلس النيابي، وصار يعرف من يومها بشارع العابد. جُلّل نعش العابد بالعلم السوري الذي كان قد أقره عندما كان رئيساً قبل سبع سنوات، ووضع على مدخل مبنى البرلمان السوري ليتمكن رجال الدولة والمواطنونمن وداعه قبل نقله إلى مثواه الأخير في مدافن الأسرة في الميدان.
الحزب الوطني، حزب سياسي سوري غير عقائدي، أُشهر بدمشق في 29 آذار 1947 وكان امتداداً للكتلة الوطنية التي حاربت الانتداب الفرنسي في السنوات 1927-1946. عدّ ممثلاً لمصالح النخب الاقتصادية الدمشقية وارتبط اسمه برئيس الجمهورية شكري القوتلي وكان محسوباً على السعوديةومصر ومعادياً للمحور الهاشمي في الوطن العربي. تسلّم قادته أرفع المناصب في الدولة السورية، ومنها رئاسة الحكومة والمجلس النيابي، قبل حظره مع بقية الأحزاب السورية إبان الانقلاب العسكري في 8 آذار 1963.
طلب نبيه العظمة إلى هاشم الأتاسي المشاركة في الحزب الوطني وعرض عليه الرئاسة الفخرية بصفته زعيماً وطنياً أجمعت عليه الأمة ولأنه كان الرئيس المؤسس للكتلة الوطنية في زمن الانتداب. ولكن الأتاسي رفض واكتفى بالمباركة الشفهية، وقال للعظمة كانت تهدف لإنهاء الانتداب وقد حققت ذلك مع جلاء القوات الفرنسية عن سورية سنة 1946. وبما أن هذا الهدف قد تحقق بالكامل، فلا يرى مبرر له في الدخول في مشروع حزبي ضيّق، سيؤدي حكماً – وبحسب تعبيره – إلى تصارع على السلطة وتفريق كلمة الوطنيين بدلاً من جمعها في وجه التحديات التي كانت تواجه سورية في عهد الاستقلال.
ميثاق الحزب
اتخذ من منزل العظمة في شارع خالد بن الوليد مقراً للحزب الوطني وكان شعاره: “حريّة – عدالة – مساواة.” جاء في ميثاق الحزب أن العرب هم “أمة واحدة والسوريون جزء منها” وطالب بتحرير سائر أجزاء الوطن العربي من الهيمنة الأجنبية. وجاء في المادة الثالثة من الميثاق الحزب أن جامعة الدول العربية هي مؤسسة قوميّة يُعلّق عليها الحزب آمالاً كبيرة،” وذلك لكون ثلاثة الآباء الحزب المؤسسين كانوا قد شاركوا في إنشاء الجامعة العربية وهم سعد الله الجابريوجميل مردم بكوصبري العسلي.
خاض الحزب الوطني أولى معاركه السياسية في انتخابات العام 1947 وفاز بثلاثة عشر مقعداً من مقاعد المجلس النيابي (من أصل 114 مقعداً). كان جميل مردم بك يومها رئيساً لمجلس الوزراء، وهو أحد الآباء المؤسسين للحزب الوطني، وفي 22 آب 1948 كلفه الرئيس القوتلي بتأليف حكومة جديدة، ذهبت معظم حقائبها إلى قادة الحزب الجديد. حصل الحزب الوطني على ثمانية حقائب في الحكومة المردمية وهي: وزارتي الصحة والشؤون الاجتماعية (الأمير عادل أرسلان)، وزارة المالية (الحاج وهبي الحريري)، وزارة الزراعة (محمد العايش)، وزارة الاقتصاد (ميخائيل إليان)، وزارة الأشغال العامة (أحمد الرفاعي)، إضافة لمنصب نائب رئيس الحكومة الذي استحدث خصيصاً لأجل رئيس الوزراء الأسبق لطفي الحفار.
تولّت هذه الحكومة مهمة تعديل الدستور السوري للسماح للرئيس شكري القوتلي بولاية رئاسية ثانية، مما أضر كثيراً بسمعة العهد وبشعبية الحزب الوطني. وقد أدى هذا التعديل إلى ولادة معارضة منظمة في حلب، عرفت بداية بالكتلة الدستورية وتحوّلت في شهر آب من العام 1948 إلى حزب الشعب، برئاسة رشدي الكيخياوناظم القدسي، وهما أعضاء سابقين في الكتلة الوطنية رفضوا الانضمام إلى الحزب الوطني.
في حكومة خالد العظم (1948-1949)
استقال جميل مردم بك من منصبه في الأسابيع الأولى من حرب فلسطين وكُلّف خالد العظم المستقل بتشكيل حكومة جديدة يوم 16 كانون الأول 1948. تحالف العظم مع الحزب الوطني وأسند إليه المناصب التالية: وزارة الداخلية (عادل العظمة)، وزارة الزراعة (محمد العايش)، وزارة الأشغال العامة (مجد الدين الجابري)، وزارات العدل والصحة والشؤون الاجتماعية (أحمد الرفاعي).
موقف الحزب من حسني الزعيم
تعرض الحزب الوطني لضربة كبيرة يوم قام قائد الجيش حسني الزعيم بانقلابه على رئيس الجمهورية شكري القوتلي في 29 آذار 1949. أمر الزعيم بحل مجلس النواب وحظر نشاط كل الأحزاب السياسية في البلاد، وفي مقدمتها طبعاً، الحزب الوطني نظراً لعلاقته الوثيقة بالقوتلي. اعترض الحزب الوطني على اعتقال الرئيس ونفيه خارج البلاد ولكنه لم يعارض حسني الزعيم وبقي صامتاً طوال عهده الذي استمر حتى الانقلاب عليه ومقتله في 14 آب 1949.
في حكومة هاشم الأتاسي سنة 1949
عاد يومها هاشم الأتاسي إلى الحكم بعد استقالة طوعية منذ سنة 1939 وشكل حكومة وطنية شاركت بها كل الأحزاب. حصة الحزب الوطني فيها كانت وزارة الدولة، التي أسندت إلى السياسي الدمشقي عادل العظمة، ووزارة الأشغال العامة التي تولاها الوجيه الحلبي مجد الدين الجابري. تمثيل الحزب في حكومة الأتاسي كان متواضعاً للغاية، نظراً لارتباط قادته بهزيمة سورية في حرب فلسطين وعلاقتهم بالرئيس القوتلي الذي بقي منفياً في مصر.
قاطع الحزب الوطني الانتخابات العامة التي أجريت في عهد هاشم الأتاسي ولم يشارك في الجمعية التأسيسية التي وضعت دستور سورية الجديد سنة 1950. معظم مقاعد الجمعية التأسيسية ذهبت إلى خصومه في حزب الشعب وانتخب زعيمها رشدي الكيخيا رئيساً لمجلس النواب والدكتور ناظم القدسي مقراً للدستور الجديد.
موقف الحزب من الوحدة مع العراق
سعى حزب الشعب الحاكم بعد انتخابات عام 1949 إلى إقامة وحدة فيدرالية مع العراق، وكلّف ناظم القدسي بالتفاوض على خطوطها العريضة بعد تعيينه رئيساً للحكومة نهاية ذلك العام. وعلى الرغم من تعارض هذه الوحدة مع أفكار ومبادئ الحزب الوطني – المعادين للأسرة الهاشمية والمحسوبين على السعوديةومصر – إلا أن أمينه العام صبري العسلي فاجأ الجميع وأصدر بياناً مؤيداً للوحدة مع العراق، قدمه باليد إلى الملك فيصل الثاني أثناء زيارته الخاطفة إلى دمشق سنة 1949. عدّ البعض هذا الموقف انتهازياً، وزاد من الشرخ الكبير بين حزب الشعب والحزب الوطني. وبناء عليه أستبعد العسلي ورفاقه عن جميع الحكومات التي شُكّلت في عهد حزب الشعب في السنوات 1949-1951، ما أضعف الحزب الوطني كثيراً ووجد نفسه خارج السلطتين التشريعية والتنفيذية.
أصدر الرئيس سلو، بالتشاور مع الشيشكلي، قراراً بحظر نشاط كل الأحزاب، ومنها حزب الشعب والحزب الوطني، وفي تموز 1953 تنازل عن الرئاسة لصالح الشيشكلي. دعا الرئيس المستقيل هاشم الأتاسي إلى اجتماع موسع في داره بحمص، حضره صبري العسلي نيابة عن قيادة الحزب الوطني، تقرر فيه معارضة دستور الشيشكلي والانتخابات التي أوصلته إلى رئاسة الجمهورية. رد الشيشكلي باعتقال صبري العسلي مع عدد كبير من أعضاء حزبه، وبقوا محتجزين في سجن المزة لنهاية العام 1953.
حكومة صبري العسلي الأولى سنة 1954
عاد الحزب الوطني إلى نشاطه المعهود بعد زوال حكم الشيشكلي وعودة هاشم الأتاسي إلى الرئاسة في 1 آذار 1954. اعترف الأتاسي بدور الحزب الوطني في إسقاط الشيشكلي ودعا صبري العسلي لتشكيل أول حكومة في عهده، شرط أن تشمل كل الأحزاب السياسية. إضافة لرئاسة الوزراء، حصل الحزب الوطني على ثلاثة حقائب في حكومة العسلي الأولى: وزارة الدولة (عادل العظمة)، وزارة الصحة (بدوي الجبل)، ووزارة الاقتصاد (فاخر الكيّالي). وبعد نيل الثقة من مجلس النواب، سافر العسلي إلى مصر على رأس وفد من السياسيين والتجّار لمقابلة الرئيس السابق شكري القوتلي ودعوته إلى العودة إلى سورية والترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية المقبلة.
ومع قرب انتهاء ولاية الرئيس هاشم الأتاسي، أُجريت انتخابات نيابية في سورية، فاز فيها الحزب الوطني بتسعة عشر مقعداً من أصل مقاعد المجلس النيابي، ما أفقده ثقله البرلماني ومنعه من العودة إلى الحكم منفرداً وفرض عليه التعاون مع بقية الأحزاب، ومنها حزب البعث الذي كانت حصته في انتخابات عام 1954 سبعة عشر مقعداً، وحزب الشعب الذي تفوق عليه بثلاثة عشر مقعداً.
عودة القوتلي إلى الحكم سنة 1955
ولكن عودة شكري القوتلي من المنفى أعاد للحزب الوطني شيء من مجده السابق وعوضه عن التراجع الكبير في كتلته النيابية. وضع الحزب كامل ثقله خلف القوتلي في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في 18 آب 1955، والتي تمكن الأخير فيها من الفوز على خصمه، رئيس الحكومة السابق خالد العظم. وبعد عودته إلى الحكم طلب القوتلي إلى صبري العسلي تشكيل الحكومة السورية الجديدة في 31 كانون الأول 1956. أخبر العسلي يومها على التعاون مع الأحزاب الأقوى من حزبه والتي كانت تتمتع بكتلة نيابة أكبر من كتلة الحزب الوطني. أسند إلى حزب البعث حقائب الخارجية والاقتصاد وإلى حزب الشعب حقيبتي الداخلية والمعارف. أمّا عن حصة الحزب الوطني، وعلى الرغم من وجود أمينه العام في رئاسة الحكومة، فاختصرت على ثلاث حقائب فقط.
الوحدة مع مصر (1958-1961)
أيّد الحزب الوطني التوجه العروبي الذي قاده رئيس الجمهورية شكري القوتلي في النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين، ووضع كامل ثقله السياسي خلف الرئيس المصري جمال عبد الناصر أثناء العدوان الثلاثي سنة 1956. شارك صبري العسلي (بصفته رئيساً للحكومة) في المفاوضات التي أدت إلى ولادة جمهورية الوحدة مع مصر في شباط 1958. ولم يمانع شرط عبد الناصر بحلّ جميع الأحزاب السياسية في سورية – ومنها طبعاً الحزب الوطني – وأصدر قراراً بحله نزولاً عند رغبة الرئيس المصري. وبالمقابل، عينه عبد الناصر نائباً له في الجمهورية العربية المتحدة في 1 آذار 1958.
مرحلة الانفصال (1961-1963)
ولكن فُراقاً سريعاً وقع بين الحزب الوطني وعبد الناصر بعد اتهام صبري العسلي بتقاضي أمولاً من العراق لإسقاط أديب الشيشكلي، ما أجبره على الاستقالة من منصبه نهاية عام 1958. وعارض قادة الحزب، بصفتهم الشخصية لا الحزبية، قانون الإصلاح الزراعي الذي صدر عن عبد الناصر في أيلول 1958، وطال أراضي صبري العسليوجميل مردم بك الزراعية في غوطة دمشق. كما اعترضوا على قانون التأميم الصادر في تموز 1960، والذي شمل العديد من الصناعيين المحسوبين على الحزب الوطني، والذين كان يعتمد عليهم في تمويل نشاطاته قبل سنة 1958، أمثال عبد الهادي الرباطوعبد الحميد دياب وغيرهم.
حزب الأمة الملكي، حزب سياسي نشط في دمشق خلال السنوات 1927-1933 كان يسعى إلى استعادة العرش الهاشمي في سورية. شارك الحزب في الانتخابات النيابية سنة 1932 وحاول إيصال أحد أركانه إلى رئاسة الجمهورية ولكن لم ينجح. وقد تم حل الحزب نهاية بعد وفاة الملك فيصل الأول في أيلول 1933.
هدف الحزب إلى استعادة العرش الهاشمي في دمشق الذي كان الملك فيصل قد نُحّي عنه سنة 1920. طالب بوحدة الأراضي السورية مع حكم لا مركزي لجبال العلويين، وعارض سلخ لبنان عن الأراضي السورية. كما دعى الحزب إلى إقامة استفتاء في الأقضية الأربعة (حاصبيا وراشيا وبعلبك والبقاع) لمعرفة إن كان أهلها يريدون البقاء ضمن دولة لبنان الكبير أو العودة إلى سورية. وأخيراً طالب الحزب بانضمام سورية إلى عصبة الأمم.
وقد عرّف الحزب عن حدود مشروعه، وهو إقامة “ملكية دستورية دينها الإسلام” في سورية الطبيعية، يكون ملكها “من أبناء البلاد العربية، عريق المجد ومن الذين لهم معرفة تامة بحالة البلاد.”
انتخابات 1932
في سنة 1932، زار الملك علي بن الحسين دمشق واجتمع مطولاً مع عارف الادلبي وقيادة حزب الأمة الملكي. قدم لهم دعماً مادياً وسياسياً لخوض المعركة الانتخابية وإيصال الفريق الركابي إلى رئاسة الجمهورية. ومن بعدها كان الحزب ينوي المطالبة بحل الجمهورية وتتويج أمّا الملك علي أو الملك فيصل على عرش سورية.
ولكن الحزب هُزم في تلك الانتخابات وقرر الركابي اعتزال العمل السياسي من بعدها. وقد توقف نشاط الحزب بعد عام واحد، عند وفاة الملك فيصل في إحدى مستشفيات العاصمة السويسرية.